صناعة الـ "هوليغانيزم"

صناعة الـ "هوليغانيزم"
السبت 13 أبريل 2013 - 00:08

– خاصك شي تليفون للبيع آخاي مهدي ؟

– لا مخاصنيش هاد الساعة؛ ياك لاباس لاش باغي تبيعو ؟!

– غدا هابطين لكازا..

– الراجا وليفار ؟

– آه.. غدا غادي تترون تما، حالفين عليهم، غدا أتفرج أخاي..

– واش باقي مبغيتيش تبعد من هاداك التيران، راه كيضحكو على بنادم أصاحبي..تمشي تجي فيك شي ضربة ولا شي حاجة !

– أودي يا ربي غير تجي (و جعل راحة يديه على شاكلة الدعاء، فيما توجهت مقلتاه نحو سماء كانت كالحة حينها).. شحال من مرة كتمشي أخاي كتسافر وكتغبر علينا وكترجع كتلقانا في نفس البلاصة كي ديما..الحومة !

انتهت دردشتنا القصيرة. مضى صديقنا إلى حال سبيله، ودلفت أنا للمنزل وفي حلقي غصة حارقة جراء جملة ابن حيي الأخيرة، الذي لم يتجاوز عمره الثامنة عشر بعد، ويحمل نظرة حول الحياة أحلك من فلسفة إميل سيوران، كوكب العدم !

فكرت في الأمر وأنا أصعد سلالم البيت، بقي كلامه يرافقني لهنيهة، ثم تلاشى من فكري رويدا رويدا..وكأني لم أسمعه من قبل.

بعد زوال اليوم الموالي (يوم المباراة)، وأنا أتصفح كالعادة جرائدنا الإلكترونية و صفحات التواصل الإجتماعي، لفت إنتباهي إنتشار مقاطع فيديو لـ”شمكارا”، “مشاغبين”، “هوليغانز” كل والتسمية التي أطلقها عليهم، حسب المرجعية التي ينهل منها. شُدهت كباقي من تابع الوقائع لهول المشاهد؛ جيوش عرمرم من الشباب والمراهقين يكسرون كل ما تطاله أيديهم، سيارات، واجهات المحلات التجارية، مقاهي، بارات.. لم يسلم من بطشهم كبير ولا صغير، رجل ولا امرأة. هكذا تلقيت تلك المشاهد والحنق يعتصر سحنتي لما آل إليه حال هؤلاء الشباب، خصوصا أنه في تلك اللحظات كنت أشاهد مقطعا لشاب أمريكي (16 سنة) يرطن بعشرين لغة، من بينها لغة الضاد الفصيحة، التي أعتقد جازما أن السواد الأعظم من أبطال “معركة البيضاء” لا يعرفون إلى الحديث أو الكتابة بها (بشكل سليم) سبيلا.

فما الذي يدفع مراهقا لقطع حوالي 70 كلم محملا بـ”الما القاطع”، والهراوات، والسكاكين.. لكي يدمر “خصما” هو ليس في الأخير إلا زميله في المواطنة ؟! صراحة لا أدري.

لكن دعونا نقف وقفة قصيرة، لتعرية هذا الواقع والتأمل في المصوغات التي جعلت هؤلاء المراهقين ينحون منحى الحركات التخريبية (الهوليغانز)، التي استشرت في أوربا أوساط القرن الماضي، مدفوعة من الأحزاب الفاشية في إيطاليا والنازية في ألمانيا والدول المجاورة، التي كانت وما تزال تنهل من إيديولوجيا عنصرية ترفض الآخر، حتى بعد رحيل “عرابهم” هتلر قبل عقود من الآن.

بدأت حركة “الإلتراس” في المغرب عمليا مع بداية الألفية الثالثة (أقول الإلتراس وليس الهوليغانز)، كانت نشاطات أعضائها في البداية تقتصر على التباهي بجمالية “التيفوهات” (لوحات كوريغرافية ترسم على المدرجات بواسطة الجمهور)، وعلى قوة “الكراكاجات” (عبارة عن إشعال الشهب الصناعية من فلام و فيميجان..)، وأنشطة أخرى عديدة. لكن لعمري، لم يكن الشغب بهذه الحدة في نشاطات الإلتراس. هل للمقاربة الأمنية المشددة؟ لحداثة التجمهر المنظم في الملاعب بالمغرب؟ لا أدري.
عموما ليس هدفي من هذه العجالة أن أقوم بالتأريخ لظاهرة الإلتراس بالمغرب، بل أكثر من ذلك. ما أحاول أن أتساؤل بشأنه هو ماهية الأسباب التي تجعل هؤلاء الشباب ينصهرون في هذه الجماعات، يحسون باطمئنان سيكولوجي (نظرية سيكولوجية الجماهير)، ويصرخون بكل ما أوتوا من قوة بأغان يحفظونها عن ظهر قلب. ثم قد تتحول سلوكاتهم فجأة إلى عدوانية بمجرد أن يقوم فرد بعمل طائش.

المشاغب أو “الهوليغان” هو أولا وأخيرا إنسان، كان فيما مضى طفل بغير قليل من البراءة. ثم وكأي إنسان عادي أثرت فيه التجارب الحياتية، والتعليم الذي تلقاه، والإعلام الذي كان ينهل منه، وطريقة عيشه.. حتى تحول بعد سنون قليلة إلى طائش، لا يقف عند قانون إلا وهو خارقه.

ما لا يعرفه الكثير ممن يجلسون على كراسيهم الوثيرة في أبراجهم العاجية، ويخرجون بعد أي حادث بتصريحات إعلامية مفكر فيها بعناية، هو أن الشغب والهوليغانيزم يوجد بشكل يومي ودوري في الأحياء والأزقة النائية البعيدة عن المركز. لكن لا يُنتبه إليه (أو يُتجاهل إذا أمعنا في التدقيق) إلا حين يخرج هؤلاء الشباب من “كيتوهاتهم” ويتجهون نحو مناطق ليست لهم، مناطق تعود لملكية مواطنين أعلى درجة منهم !

لا يمكنني بأي شكل من الأشكال أن أبرر سلوك هؤلاء، أو أن أقبل الشغب والعنف تحت أي مصوغ أو ذريعة. لكن في المقابل، لا يمكنني أن أنحو منحى الكثيرين، وأن أجعل من هؤلاء المراهقين أكباش فداء وأن أقدمهم قربانا لسياسات عمومية فاشلة، بل مجرمة !

على الدولة اليوم بكافة مؤسساتها، أن تتحمل جزءا هاما من المسؤولية المعنوية في ما وقع بالبيضاء. لا أقصد البتة المقاربة الأمنية التي كانت ضعيفة، بل أكثر من ذلك بكثير. الدولة هي المسؤولة عن صناعة الهوليغانيزم اليوم. فالسواد الأعظم ممن خرب شوارع البيضاء يقطن بكيتوهات بضواحي المدن الكبرى والمتوسطة (الرباط، تمارة، سلا)، حيث ينتشر التفقير والتجهيل والعزلة والإهمال و”الحكرة”. لا ملاعب يفرغون فيها طاقاتهم (حتى حراس ملاعب الإعداديات والثانويات يطردونهم)، ولا مؤسسات تعليمية بمعناها الحقيقي تضمن لهم دراسة عادلة كما هو الحال مع باقي أبناء المغاربة المحظوظين. حتى الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني لا تنشط هناك. عزلة تامة قاتلة يعيشها هؤلاء المراهقون. مشاكل عائلية بالجملة، عقد نفسية تترسب في لاوعيهم بصمت. ليست لهم قضايا يدافعون عنها، وحتى إن وجدت، ماذا في جعبتهم الضحلة (للأسف) غير السباب ولغة الوعيد والتخريب والعنف، بدل لغة الحوار والنقاش والمناظرة.

يبقى متنفسهم الوحيد، صنوف جيدة من الحشيش، لا تتوفر في مناطق أخرى غير كيتوهاتهم (التي يزورها الكثير من الغرباء حصريا لهذا الغرض)، وكدا كميات محترمة من حبوب الهلوسة التي تجعل الشاب يرى العالم جميلا وبلا مشاكل، وما إن يعود إلى واقعه المر حتى يبدأ في اختلاق المشاكل عبثا. ضد أنفسهم و ضد الكل يعيشون؛ لا سلطة يريدونها فوق رقابهم، فلا أحد ساعدهم يوما، لا يد مدت لهم، كيف تريدهم طيبين مهادنين ! هكذا إذن يقضون أيام أسبوعهم الستة، وفي اليوم السابع يتوجهون زُرافات نحو متنفسهم الأكبر، حيث يمكنهم أن يفجروا غضبهم، يحتجون هناك بصمت، بلغة مبطنة لا يفهمها أحد إلا هم؛ وحين يساء فهمهم. يخربون، يدمرون، يثورون، على من؟ من أجل ماذا؟ لا يدرون ! فرجاءا قبل أن نحاكم أحدا يجب أن نفهم أسبابه ودوافعه على الأقل، ثم نحاول إصلاحها بعد ذلك، إذا كنا نولي الأمر أهمية طبعا..

لا أدري لم تذكرت بعد كل هذا دردشتي القصيرة مع ابن حيي مساء ذلك اليوم، كلماته تحفر مخيلتي بكل ما اوتيت من قوة أكثر من أي وقت مضى. كما لا أدري كيف فتحت جذاذة “وورد” بيضاء بعد ذلك، وبدأت أرقن عليها هذه الحروف، التي أتمناها أن تصل إلى من “لا يهمهم الأمر” !

‫تعليقات الزوار

3
  • عبد الله
    السبت 13 أبريل 2013 - 01:46

    كلام معقول على العموم .
    لكن هناك طرف ثالث هو من سرق هاتفه ، و حطم محل تجارته……

    الجهل ، البطالة ، ضعف الإقتصاد …… أفرز المشاغبين

    ما الحل ؟ تبعا لما هو الحال في كرة القدم ، ( نجيبو أردوكان التركي بريطي ست شهر ، ونجربوه . كيبان لي غيبق في الإحتياط حيت عدنا بن بن بن بن بن بن بن بن زيما و رونالدو و ميسي)

  • Fed
    السبت 13 أبريل 2013 - 04:27

    I would like to thank you for your good written article
    and add to what you have mentioned the fact that I couldn't agree more to what you said and also put a big line to the absence of security that we live in our daily life not only what witnessed this day. However, we cannot limit the amount of reasons behind such miserable situation those ignorant people put us through…
    Thanks again, best of luck.

  • Mouh
    الأحد 14 أبريل 2013 - 12:12

    C'est l'occasion d'adjouindre sociologues, psycologues et politologues aux enqueteurs de la police pour etudier le mal et presenter a ceux qui gouvernent et l'opinion publique leurs conclusions. Une decision .politique doit s'ensuivre. Le citoyen marocain a le .droit de vivre en paix et la securite 

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32 7

احتجاج أرباب محلات لافاج

صوت وصورة
"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 15:07

"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء

صوت وصورة
“أش كاين” تغني للأولمبيين
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 13:52 1

“أش كاين” تغني للأولمبيين