قراءة في دلالات تغيير قيادة " العدالة والتنمية "

قراءة في دلالات تغيير قيادة " العدالة والتنمية "
الإثنين 28 يوليوز 2008 - 15:26

اختتم المؤتمر السادس لحزب العدالة والتنمية أشغاله، وفاجأت نتائجه العديد من المراقبين بما في ذلك قياديو الحزب أنفسهم، إذ لم يكن من المتوقع أن تتغير قيادة الحزب، ويتولى عبد الإله بن كيران موقع الأمين العام للحزب.وإذا كان شبه الإجماع قد انعقد حتى من قبل خصوم الحزب على أن “العدالة والتنمية” قدم درسا في الديمقراطية الداخلية، والشفافية التنظيمية والتماسك الحزبي، فإن الاختلاف والتباين كان حظ التفسيرات التي قرأت اللحظة السياسية، ومستقبل الحزب في ظل القيادة الجديدة.

ربما كانت الأسئلة الأكثر تداولا لدى المحللين السياسيين والمراقبين للشأن الحزبي بالمغرب فضلا عن الإعلاميين هو: دلالات تغيير القيادة على عدة مستويات: مستوى موقع الخطاب الهوياتي داخل الخط السياسي للحزب: فعبد الإله بن كيران معروف بمواقفه الواضحة والقوية في التأكيد على إسلامية الدولة، وضرورة انسجام سياساتها مع مقتضيات المرجعية الإسلامية.


مستوى علاقة الديني بالسياسي، خاصة أن سعد الدين العثماني قطع أشواطا في التأصيل من خلال أطروحته “تصرفات النبي باعتبار الإمامة” لتمايز الوظيفة السياسية عن الوظيفة الدينية، وأن ممارسة السياسة تنصرف إلى الشأن العام، وأن منطقها يتأطر بجلب المصلحة ودرء المفسدة، وهو مستوى يرى فيه بعض المراقبين أن القيادة الجديدة لا تتبنى بالضرورة نفس الأطروحة، وهو ما يعني أن علاقة الديني بالسياسي داخل الحزب ربما تخضع لإعادة الترسيم وفق منظور القيادة الجديدة.

مستوى الخط السياسي للحزب: ذلك أن ملاحظات وانتقادات كثيرة توجهت للقيادة السابقة بكونها غير واضحة في خطها السياسي، وأنها تبنى مواقفها على منطق التوازن، وتمسك دائما العصا من الوسط بالشكل الذي لم يرض مختلف مكونات الفعل السياسي، بل لم يرض حتى مناضلي الحزب.


مستوى التوقعات السياسية: ذلك أن القيادة الجديدة لا تخفي قناعاتها الإستراتيجية والمرحلية، بحيث تجعل من المشاركة الحكومية أصلا والمعارضة استثناء، بناء على قراءة سياسية، بل وربما تاريخية، وهو ما يعني أن الحزب سيعرف خلخلة كبيرة، إذ ستبرز مسألة التحالفات إلى السطح، كما تبرز مسألة الخط السياسي الذي سيختاره الحزب وفقا للتوقعات الجديدة، خاصة أن الأطروحة السياسية التي اعتمدت في المؤتمر تتيح أكثر من خيار للتحرك السياسي.


مستوى تأهيل البنية الحزبية: إذ المعروف أن القيادة السابقة كانت تشتغل بمنطق الحفاظ على وحدة الصف الداخلي، والتعايش مع المشكلات التنظيمية، وهو منطق نال الكثير من الانتقادات، خاصة لما استفحلت بعض المشكلات التنظيمية عقب الانتخابات الداخلية لترشيح الأعضاء الذين سيخوضون معركة الانتخابات التشريعية، بخلاف القيادة الجديدة التي ينظر إليها على أساس أنها حاسمة في تطبيق القانون، ومعالجة مثل هذه الإشكالات بالحزم اللازم.هذه هي أهم الملفات التي من خلالها تقرأ دلالة تغيير قيادة العدالة والتنمية.


القيادة الجديدة: المفاجئ والمتوقع


هل كان انتخاب عبد الإله بن كيران كأمين عام للحزب مفاجئا أم متوقعا؟ كانت الإجابة بالنسبة للعديد من المراقبين والمتتبعين للشأن الحزبي، وكذا المحللين السياسيين والمهتمين بالحركات الإسلامية هو الميل إلى أن الأمر كان مفاجئا، والحقيقة أن سبب عدم توقع مثل هذه النتيجة يعود إلى أمرين: طبيعة النظرة إلى الحراك الداخلي للحزب: إذ جرت معظم التحليلات، خاصة ذات الطابع الإعلامي أن الحزب ينتظمه تياران متقابلان: تيار المشاركة الحكومية، ويمثله عبد الإله بن كيران، وتيار النضال الديمقراطي، ويمثله مصطفى الرميد، وأن هذين التيارين لم يستطع أحدهما أن يحسم الأمر لصالحه، ناهيك عن هيمنة الطابع المزاجي على رموز هذين التيارين مما سمح بالحديث عن خيار الاستمرارية الذي يعني استمرار منطق التوازن، ولذلك، لم ير المستشرفون لمستقبل الحزب جديدا في المؤتمر ما دامت حظوظ سعد الدين العثماني كانت هي الأقوى، بل إن بعض قيادات الحزب أنفسهم ساروا في نفس الاتجاه، واعتبروا أن الجديد الوحيد في المؤتمر هو الأطروحة السياسية التي اختارت النضال السياسي، وأن إعادة انتحاب العثماني هو الخيار الوحيد والأوحد!.


المسئولية الجماعية في تقويم أداء الأمانة العامة: إذ كان المنطق السائد داخل الحزب أن أي خطأ يمكن أن يستند عليه لانتقاد أداء الحزب وسلوكه السياسي، فإن مسئوليته السياسية هي مسئولية جماعية؛ باعتبار أن القيادة في حزب العدالة والتنمية جماعية، وأن الأمين العام لا يمكن وحده أن يتحمل أخطاء الحزب، وإنما المسئولية ملقاة على الأمانة العامة، وهو ما يعني أن حظوظ العثماني من هذه الجهة لم تتأثر ما دام المنافسون له على الأمانة العامة كانوا جزءا من تدبير المرحلة السابقة خاصة بن كيران، وهو ما زكى لدى العديد من المراقبين خيار الاستمرارية. ولهذا الاعتبارين، وربما لغيرهما مما يتصل بالصورة التي يتمثلها مناضلو الحزب عن الرجلين، فإن هذه التحليلات مضت في تأكيد خيار الاستمرارية، بالشكل الذي جعل بعضها لا يصدق ما وقع في الأجندة الانتخابية للحزب، ودخل في ذهول كبير نتيجة سقوط تقديراته.والحقيقة، أن تغيير القيادة كان أمرا متوقعا بالنظر إلى طبيعة الحراك الداخلي للحزب، خاصة الحراك الفكري والتنظيمي والسياسي.


الحراك الفكري


قام العثماني بدور كبير على مستوى تأسيس الخطاب الفكري والسياسي داخل حزب العدالة والتنمية، خاصة ما يتعلق بالعلاقة بين الديني والسياسي، وبدا واضحا منذ توليه موقع الأمين العام أنه كان يتجه بقصد شديد إلى وضع تصور ناظم للحزب في موضوع العلاقة بين الديني والسياسي، ولقد حاول استثمار أطروحته الأصولية “تصرفات النبي باعتبار الإمامة” لبناء هذا التصور، كما كان من أولوياته تأكيد التمايز بين الدعوي والسياسي على مستوى المنطلق الفكري، ومن ثمة تأكيد التمايز الوظيفي بين الحزب وحركة التوحيد والإصلاح على مستوى المنطلق السياسي والتنظيمي، ولقد نجح إلى أبعد الحدود في تحقيق هذه الأولوية، غير أن إكراهات السياسة الداخلية والحضور القوي لمعطيات الموقف الخارجي في العقل السياسي للعثماني جعله يزيد جرعات أكبر بالشكل الذي جعل الكثيرين داخل الحزب يتساءلون عن موقع الهوية الإسلامية في خطاب الحزب، وما إذا كان العثماني استهوته تجربة العدالة والتنمية التركي، إلى درجة أنه صار مقتنعا بضرورة أن يتحول الحزب كلية إلى حزب للتدبير، وهو ما جعل العديد من فعاليات الحزب يوجهون لطرحه انتقادات قوية، كان من نتيجتها صدور أطروحة سياسية للحزب تخالف في جوهرها الجرعات الزائدة التي أراد العثماني أن يمضي الحزب إليها، الشيء الذي دفعه إلى كتابة مقال يميز فيه بين الهوية والمرجعية بالشكل الذي فهم منه أنه يسعى لإيجاد مخرج فكري يبرر فيه مسعاه في إضعاف موقع الهوية في خطاب الحزب وسلوكه السياسي.


لقد كان الحراك الداخلي للحزب على المستوى الفكري يميل إلى إعادة الاعتبار للهوية، وكانت معطيات السياسة تساعد على تقوية هذا الجانب، في الوقت الذي صار استهداف الحزب سياسيا يمر من بوابة الثقافة والفن باسم بناء المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي. والغريب أن المراقبين السياسيين حين ينظرون إلى الجسد التنظيمي لحزب العدالة والتنمية يصورونه كجزيرتين منفصلتين يوجد على طرفها عبد الإله بن كيران، ويوجد في طرفها المقابل مصطفى الرميد، بينما يوجد سعد الدين العثماني في الوسط، وهي صورة كاريكاتيرية لا تسمح برؤية الحراك الحقيقي داخل الحزب، ذلك أن أول مأخذ على هذه الصورة أنها لا تشير إلى التوافق الكبير بين الرميد وبن كيران على مستوى إعادة الاعتبار للهوية في خط الحزب وسلوكه السياسي، وهو الأمر الذي يعطي للحراك الفكري داخل الحزب دوره المقدر في تفسير تغيير القيادة في اتجاه بن كيران. ولقد أعطت الأطروحة السياسية التي اعتمدها الحزب هذه الإشارة حين ركزت على البعد الهوياتي داخل الحزب، ورسمت بوضوح العلاقة بين النضال الديمقراطي والمرجعية الإسلامية بالشكل الذي لم يساير تصور العثماني بالقياس إلى جرعاته الزائدة.


الحراك السياسي


لا ينبغي أن ننسى أن مرحلة العثماني كانت مليئة بالإكراهات السياسية، ولعل أحداث 16 مايو وما تلاها من تقاطب سياسي وإعلامي ضد الحزب، وتحميله المسئولية المعنوية عن الإرهاب كانت أكثر هذه الإكراهات صعوبة، ولقد نجح العثماني -أشير هنا إلى أن القيادة جماعية- في تجاوز هذه الإكراهات، والانحناء للعاصفة من خلال التأسيس لخطاب الحزب (علاقة الديني بالسياسي)، والتمايز بين الوظيفة الدعوية والسياسية (إعادة رسم العلاقة بين الحزب وحركة التوحيد والإصلاح)، وتوجيه الحزب نحو التدبير والسياسات العامة، ورفع شعار جديد يرتكز على مكافحة الفساد لإعطاء مضمون سياسي لخط الحزب الجديد.


وعلى الرغم من أن هذا الشعار أعطى إشارة واضحة تجعل وظيفة الحزب منصبة على قضايا الشأن العام، فإن المقصود منه بالنظر إلى منهج العثماني في العمل السياسي هو التجاوز اللبق لأولوية الإصلاح السياسي والدستوري، إذ حقق العثماني في هذه المرحلة هدفين سياسيين كبيرين: تجاوز الوضعية الحرجة التي وضع فيها الحزب عقب أحداث 16 مايو 2003. و إعطاء إشارات مطمئنة لكل من المؤسسة الملكية والفاعلين السياسيين. وبشكل عام، فقد نجح العثماني على هذا المستوى، بل نجح في أن يعطي دينامية كبيرة للحزب في الخارج، وفي تسويق رؤية جديدة عن الحزب تجعله ممايزا تماما للمنطق الحركي في المشرق بالشكل الذي جعل أنظار المراقبين الغربيين، خاصة مراكز البحث الأمريكية والفرنسية والإسبانية تتبع باهتمام، وترصد مسار الحزب وخطابه وسلوكه السياسي.


غير أن المشكلة على هذا المستوى السياسي بدأت بعد انتخابات 7 سبتمبر 2007، إذ انطلق النقد الذاتي داخل الحزب على مستويين: المستوى الأول: تقييم أداء الحزب في الانتخابات.
المستوى الثاني: موقف الحزب من الوافد الجديد الذي أراد أن يستحوذ تماما على الساحة السياسية (حركة فؤاد عالي الهمة). على المستوى الأول استبق العثماني هذه الانتقادات، وبرر عدم فوز الحزب بـ 70 مقعدا -وهو الرقم الذي ظل يردده وبعض قيادات الحزب في الحملة الانتخابية- واستبق أيضا الانتقادات التي ركزت على فقدان الحزب لأكثر من 500 ألف صوت، وفقدان الحزب لبعض الدوائر. واعتبر أن المشكلة توجد خارج الحزب، وخارج بنيته التنظيمية، وخارج مسئولية تدبير الأمانة العامة، وحمل المسئولية للمال الحرام، وهو التبرير الذي لم تستسغه قواعد الحزب، خاصة فعالياته النشطة، بل إن ثقافة الحزب التي تجعل من مساءلة الذات نقطة الانطلاق في مثل هذه القضايا جعلت الأمور تسير في الاتجاه المقابل، إذ سرعان ما تحركت النقاشات الداخلية في اتجاه الضغط لمساءلة أداء الأمانة العامة، وهو ما نتج عنه تشكيل لجنة للحوار الداخلي، ليس فقط لمناقشة أوجه القصور الذاتية في أداء الحزب، ولكن لوضع أطروحة سياسية تكون بمثابة دليل العمل لخط الحزب وسلوكه السياسي.


ولقد كشف الجو العام الذي دار فيه الحوار الداخلي، والذي أفرز أطروحة النضال الديمقراطي أن الحراك السياسي داخل الحزب يمضي في اتجاه القطع مع مرحلة العثماني من خلال مؤشرات أربع. وضوح الخط السياسي: وهو ما كان يطالب به مناضلو الحزب في الوقت الذي يرون فيه مواقف العثماني مترددة ومشوبة بكثير من الغموض.


تحديد تموقعات الحزب: وهو المطلب الذي ظل مناضلو الحزب يرددونه في الوقت الذي كان فيه الغموض هو سيد الموقف، إذ لم يكن الحزب قد اختار موقعه السياسي في الخريطة السياسية بالشكل الذي يتحدد فيه بوضوح خطه السياسي. تراجع مركزية شعار “مركزية الفساد“،
إعطاء الأولوية للنضال الديمقراطي، وهو ما يعني عودة موضوع الإصلاحات السياسية والدستورية إلى الواجهة.وهكذا، انطلق النقاش من تقييم أداء الحزب في الانتخابات إلى أطروحة للحزب، كان الجدير بأن تقرأ على أساس أنها إشارة دالة أن الحراك السياسي داخل الحزب يتطلع إلى تغيير القيادة.


ورغم ذلك يمكن القول إنه منذ ظهور نتائج انتخابات 7 سبتمبر، وحتى قبل أن ينطلق الحوار الداخلي للحزب كان واضحا أنه لم يعد مقبولا في هذه المرحلة أن يدبر التوازن بين الرأيين (رأي المشاركة والمعارضة) بالطريقة التي تمت في المرحلة السابقة، ولا أن تتأسس شرعية القيادة بناء على القدرة على إدارة هذا التوازن”، وكان هناك حراك سياسي داخل الحزب، ورغبة مناضلي الحزب في تجاوز مرحلة إدارة التوازن التي كان العثماني عنوانها، وضرورة الحسم في اتجاه الحزب إلى أحد المسارين: معارضة قوية بأصولها وقواعدها، أو إعادة بناء منهجية جديدة داخل الحزب تعطي الأولوية للمشاركة الحكومية من خلالها توفير شروطها التنظيمية والسياسية، وهو الاعتبار الذي تحكم إلى أبعد الحدود في تفسير نتائج انتخاب الأمين العام الجديد، إذ كان الحزب على الرغم من إعلانه عن خيار المعارضة القوية فإنه يعارض بنفس مشارك، وهو ما دفع مناضلي الحزب إلى استثمار محطة المؤتمر السادس، والتعبير من خلال تغيير القيادة على عدم رضاهم عن الخط السياسي للحزب، وتطلعهم إلى قيادة واضحة وحاسمة، وقادرة على أن تمضي بالحزب في اتجاه خيار واضح لا يحكمه منطق التوازن والترضية.


المستوى الثاني: الموقف من حركة لكل الديمقراطيين، حيث أعلن الوافد السياسي الجديد بوضوح أن مبررات وجوده السياسي تكمن في “ملء الفراغ السياسي الموجود في المغرب، وإعادة التوازن للمشهد السياسي، ومواجهة من يستثمرون هذا الفراغ ضدا على المكتسبات الديمقراطية التي مضى فيها المغرب”. بعد الإعلان مباشرة عن نتائج انتخابات 7 سبتمبر 2007، وبعد مشاورات تشكيل الحكومة تبين بالملموس أن المشهد السياسي المغربي بصدد إعادة التشكل من جديد على النحو الذي تتراجع فيه مواقع حزب العدالة والتنمية؛ ولأن الأحزاب اليسارية فقدت جاذبيتها السياسية والانتخابية، ولم تعد قادرة على منافسة الإسلاميين، فقد انتصبت “حركة لكل الديمقراطيين” للقيام بما عجزت الأحزاب اليسارية عن القيام به، وهو الدفاع عن المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي، والمواجهة السياسية والانتخابية للعدالة والتنمية.


وكانت اللحظة السياسية تتطلب موقفا واضحا من الحزب، وفي الوقت الذي لم يظهر فيه للأمين العام أي تصريح ضد النفس الاحتكاري والصدامي الذي تريد أن تشتغل به هذه الحركة، فضلا عن استغلالها للقرب من الدوائر العليا، انبرى عبد الإله بن كيران كوجه قيادي في الحزب إلى التصدي لهذه الحركة، والتحذير من خطورة أسلوبها في العمل السياسي على المكتسبات السياسية والديمقراطية التي حققها المغرب على طول العقود الأخيرة.ولا شك أن هذا الوضوح في الخيار السياسي من بن كيران في مقابل التردد والغموض في مواقف العثماني زاد من حظوظ القيادة الجديدة، خاصة أن هناك إجماعا سياسيا وإعلاميا على إبداء حالة من التذمر من الأسلوب والمنهجية السياسية التي يشتغل بها هذا الوافد الجديد، وهو ما كان يتطلب من الحزب وضوحا أكبر لم تستطع القيادة السابقة أن تبديه، وهو ما كان له -بدون شك- أثره في إضعاف حظوظها في تجديد ولايتها لمرة ثانية في الأمانة العامة.


الحراك التنظيمي


لعل الشعار الذي رفعه العثماني هو الذي كان له الأثر الحاسم في سقوطه، ففي الوقت الذي كان يصر على أن يمضي الحزب إلى التدبير، كان تراجعه في المؤتمر السادس من جهة الانتقادات التي توجهت إلى منهجيته في تدبير الحزب وأسلوبه في التعامل مع المشاكل التنظيمية داخل الحزب، إذ بدل أن يكون حاسما في مواقفه، وفي مواجهة المشاكل التنظيمية، ويجد لها الحلول المناسبة كان أسلوبه المفضل هو إدارة المشكلة، وعدم الحسم معها، وقد ولد هذا الأسلوب العديد من المشاكل، وأضعف قدرة الحزب على التعبئة أثناء الانتخابات، فضلا عن كونه استصحب بعض الظواهر المرضية، والتي يبدو أن من مهام القيادة الجديدة أن تعالجها من جذورها.


هذا الأسلوب في تدبير المشكلات، فضلا عن ضعف التفويض في المهام والمسئوليات، ومركزة الملفات هو الذي حرم القيادة السابقة من تأييد أطر الحزب وكفاءاته، والذين كان لهم دور في إضعاف حظوظ الأمين العام السابق وتبرير الحاجة التنظيمية إلى قيادة جديدة تكون قادرة على تقوية البنية التنظيمية للحزب، وحل مشكلاتها الداخلية، والقرب من كفاءاته وأطره، وجعل الحزب في مستوى مواجهة التحديات السياسية والانتخابية.


الحزب وأولويات المرحلة


تخطئ كثير من التحليلات السياسية حين تعتقد أن تغيير القيادة سينتج عنه تغيير في الخط العام للحزب، ولعل منشأ هذا الخطأ يعود إلى أمرين: عدم تتبع أدبيات المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها كل من العثماني وبن كيران. و عدم تتبع الأسلوب الذي يدار به الحزب، والذي عنوانه: القيادة الجماعية. لكن ما سبق لا يعني أن القيادة الجديدة ستكون متطابقة في أسلوبها في تدبير قضايا الحزب مع أسلوب القيادة الجديدة، بل من المؤكد أنها ستطبع الحزب بسمات جديدة، لكنها لن تغير من التوجه العام ما دام الحزب قد حسم ذلك في أطروحته السياسية، وما دام الأمين العام الجديد قد أعلن التزامه بها. وبالنظر إلى طبيعة المرحلة السياسية، والمحددات الثلاثة (الفكرية والسياسية والتنظيمية) التي تميز الوضع الداخلي للحزب يمكن أن نستخلص متجهات المرحلة القادمة في النقاط التالية:


على المستوى الفكري: تأكيد خيار التمايز بين الدعوي والسياسي، ولعل في عزم بن كيران تقديم استقالته من المكتب التنفيذي لحركة التوحيد والإصلاح رسالة واضحة في هذا الاتجاه. استصحاب نفس الرؤية التي أصلها في موضوع العلاقة بين الديني والسياسي. إعطاء البعد الهوياتي موقعه في السلوك السياسي للحزب، لكن مع إعطائه مضمونا سياسيا.


على المستوى السياسي: من المستحيل أن يتخلى بن كيران عن “المشاركة”، ومن الصعب أيضا أن يمضي بعيدا في أجندة الإصلاح السياسي والدستوري، لكن من المؤكد أن الحزب في مرحلته سيكون محكوما بمنطقين: في حالة خيار المعارضة، وهو الخيار الحالي، فإن بن كيران سيعطي لهذا الخيار مضمونا سياسيا من خلال ما يسميه “المقاومة”، أو مواجهة نزعات احتكار الحياة السياسية ومواجهة الحركة الإسلامية التي تبديها “حركة الهمة”، وهو ما سيدفع بالحزب إلى نسج تحالفات موضوعية ستدفع بدون شك إلى طرح موضوع الإصلاح السياسي والدستوري على الأجندة السياسية.


في حالة خيار المشاركة، وهو الخيار المفضل لـ”بن كيران”، فسيدفع بكل قوة نحو هذا الخيار ما دام يعتقد أنه الخيار الإستراتيجي الأفضل بالنسبة للحركة الإسلامية في ظل الظروف السياسية الحالية، لكن هذا الخيار لا يعني بالضرورة أن يكون بأي ثمن، فقد استقر في أذهان مناضلي الحزب أن الحزب إما أن تكون معارضته قوية، أو أن يشارك بقوة، وما دامت سلطة القرار بيد المجلس الوطني، فالراجح أن القيادة الجديدة لن تقبل إلا بمشاركة تكون متناسبة مع قوة الحزب وحجمه، وفي ظل شروط سياسية تكون مصالح المشاركة فيها غالبة على مفاسدها.


على أن خيار المشاركة، بقدر ما يستلزم بناء خط سياسي يقرأ الحياة السياسية بدقة، يلزمه في المقابل جعل المعطى الخارجي في عين التقدير السياسي للقيادة الجديدة، وبالشكل الذي يستثمر التراكم الذي حصلته القيادة السابقة، ويرفع عنها الغموض في بعض المواقف، والتي كثيرا ما كانت تدفع الأطراف الخارجية إلى التردد من اتخاذ موقف إيجابي داعم للحزب، وهو ما سيشكل تحديا كبيرا بالنسبة للقيادة الجديدة.


الجانب التنظيمي: لا خيار للقيادة الجديدة، والحزب مقبل على انتخابات جماعية ستكون -بلا شك- مجال صراع محتدم بينه وبين الوافد السياسي الجديد، سوى تقوية البناء الداخلي وتأهيل البنية التنظيمية للحزب، ولعل كفاءة القيادة الجديدة في مواجهة المشكلات، والحسم فيها، وصرامتها المعروفة في تطبيق القانون سيكون له أثره الواضح على صورة الحزب.
المؤشرات تغلب أن ينجح بن كيران على هذا المستوى، وأنه سيدفع كفاءات الحزب وأطره إلى الاشتغال بقوة، وسيبث حيوية جديدة في الحزب، لكن أكبر تحد بالنسبة للقيادة الجديدة هو طريقة تدبير الخلاف داخل الأمانة العامة، فهو وإن وفى بوعده حين قال: “سأختار في الأمانة العامة من يتعبني، وليس من يريحني”، لكن سيظل السؤال المطروح هو كيف سينجح في تدبير الخلاف داخل الأمانة العامة، خاصة أنه أضاف إليها قيادات حزبية معروفة بانتقادها الشديد له ولخطه؟


فهل ستلعب المعطيات السياسية دورها في التقريب بين وجهات نظر الحساسيات الفكرية الموجودة في الأمانة العامة؟ أم أن كاريزمية القائد سيكون لها الدور الحاسم؟ أم أن إعلان مصطفى الرميد في إحدى تصريحاته أن الحزب يمكن أن يشارك في 2012 سيقضي على الخلاف داخل الأمانة؟ أسئلة ستحسمها المرحلة القادمة، وإن كان المؤكد أن اعتبارات الوضع السياسي في المغرب، وقرب المحطة الانتخابية الحاسمة (2009)، وأسلوب القيادة الجماعية بالإضافة إلى وثيقة الأطروحة ستذلل كثيرا من الخلافات.


القيادة الجديدة.. محاذير


لعل من أكبر مشكلات عبد الإله بن كيران هو التصريف الإعلامي لموقفه السياسي، ذلك أن الوضوح الإستراتيجي الذي يكون لبعض القضايا في ذهنه يجعله لا يلقي اعتبارا للاعتبارات التكتيكية والمرحلية، وهو ما يؤدي في الغالب إلى مشاكل كثيرة داخل التنظيم، إذ يتم محاكمة تصريحاته بتحكيم مرحلي في الوقت الذي يكون المقصود منها إستراتيجيا. ومن المحاذير أيضا، وبارتباط مع التصريف الإعلامي لمواقف بن كيران الحضور الكثيف للمفردات الدعوية والتربوية في خطابه السياسي، وهو ما سيؤثر بشكل كبير على التمايز بين الدعوي والسياسي، والذي قطع الحزب أشواطا في تأكيده.


عن إسلام أونلاين.نت

‫تعليقات الزوار

1
  • إيدر السوسي
    الإثنين 28 يوليوز 2008 - 15:28

    هذا البلال معروف بتحيزه لبن كيران لأنه هو الذي شغله في جريدة التجديد. وفي المقال تجن على السيد العثماني. على كل ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا.

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة