لاشك أن حفل الولاء وتجديد البيعة للملك المغربي هذه السنة مر في ظروف استثنائية، حيث ارتفعت مجموعة من الأصوات المنادية بإلغاء هذا الطقس الذي يراه أغلب المتتبعين للشأن السياسي المغربي، طقسا حاطا بالكرامة الإنسانية نظرا لما فيه من مظاهر العبودية لغير الله سبحانه، خصوصا الركوع الذي يقوم به المبايعون للملك والذي يربطه البعض بممارسات قروسطوية لا علاقة بمغرب القرن الواحد والعشرين، الذي وكيفما كان الحال حقق تقدما ولو بسيطا جدا نحو مصاف الدول المدنية الديمقراطية، فرضه حراك احتجاجي جعل القائمين بأمر البلاد يغيرون نسبيا طريقة تفكيرهم تجنبا للأسوأ.
الجديد في الأصوات الرافضة لحفل الولاء هذه السنة هو رفض برلماني استقلالي شاب حضور حفل الولاء والركوع للملك، وأيضا رئيس غرفة منتخب أقر بعد حضوره أن هذه الطقوس فعلا مهينة للكرامة الإنسانية، وما يرافقها من إجبار في بعض الحالات من خلال حث المبايعين على الانحناء من طرف خدم القصر، خرجتان متميزتان بغض النظر عن خلفياتهما، إلا أنهما مؤشران على وصول رفض حفل الولاء للنخبة السياسية المحافظة خصوصا وبشكل غير معهود فيها.
إن حفل الولاء لا يكرس فقط طقوسا حاطة بالكرامة الإنسانية، وإنما يكشف أيضا حضورا قويا للخطاب الديني في هذا السياق من خلال إعطاء تفسيرات دينية لحفل الولاء، من قبيل ان البيعة شرط أساسي بين الحاكم والمحكوم في الإسلام، والاستشهاد ببيعة الرضوان وغير ذلك من النصوص الدينية ووقائع التاريخ الإسلامي، ومصدر هذا التصريحات هو وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الذي يعتبر وزير ” سيادة ” وبالتالي فخطابه هو الخطاب الرسمي المعتد به بخصوص البيعة ومراسيم حفل الولاء، وهذا الخطاب بطبيعة الحال يقودنا للحديث عن موضوع لطالما كان محط نقاش سياسي محتدم بين الفرقاء السياسيين، وهو توظيف الدين في الخطاب السياسي، بل وأكثر من ذلك أصبح تهمة تتبادلها الأحزاب السياسية فيما بينها، وأكثر حزب اتهم بها هو حزب العدالة والتنمية، الذي أصبح متهما على الدوام بتوظيف الدين في خطابه السياسي، أكثر من ذلك فحتى حزب الاستقلال الذي يعد ذا مرجعية إسلامية حسب وثائقه، لم يتواني أمينه العام حميد شباط عن مهاجمة رئيس حزب المصباح بنكيران واتهامه بتوظيف الدين في الخطاب السياسي لاستدرار عطف المغاربة، في حين عابت أحزاب أخرى على العدالة والتنمية وأعضائه استحضار الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في البرلمان والتجمعات الخطابية، واعتبرت أن توظيف الدين بهذه الطريقة يشكل تلاعبا بعقول المغاربة ولعبا على وتر حساس لديهم.
إن مراسيم البيعة وما يرفقها من طقوس وإضفاء للشرعية الدينية عليها، يعزف على نفس الوتر الذي يعزف عليه حزب العدالة والتنمية – حسب المنتقدين – في خطابه السياسي، لكن بالمقابل لا نرى نفس رد الفعل أو أي اتهام للمؤسسة الملكية بتوظيف الدين في الخطاب السياسي، ورد الفعل المنتظر في هذه الحالة ليس من الأصوات المعارضة من خارج الأحزاب السياسية المشاركة في المعترك السياسي المغربي، لأن لديها مواقف ثابتة من هذه المسألة، إنما نتحدث عن الأحزاب الممثلة في البرلمان والتي تنتهز جميع الفرص لتوجيه اتهامات لحزب العدالة والتنمية باستغلال الدين في السياسة، في حين لا نرى أي أثر لهذا الكلام عندما يتعلق الأمر باستحضار ” بيعة الرضوان ” وغيرها من الوقائع التي إن كان لها من تفسير فهو توظيف الدين في السياسة بأقوى تمظهراته.
إن المواقف المتذبذبة والمنافقة للأحزاب السياسية المغربي من مسألة توظيف الدين في الخطاب السياسي تحيل على استفحال ظاهرة اللامبدأ داخل هذه الأحزاب، والأكثر من ذلك تلك التبعية البغيضة التي تبين عنها في كل مناسبة، فمن المؤكد انه عندما سيقرر الملك إلغاء حفل الولاء استجابة للأصوات المنادية بإلغائه، سنجد أن من ينتقد حفل الولاء هم هذه الأحزاب نفسها، وستخرج علينا بخطاب من قبيل أن الركوع لله وحده، وأن التعاقد بين الملك والشعب هو تعاقد على أساس الدستور وليس تعاقد مستمد من مشروعية دينية وغير ذلك من مبررات للانقلاب على المواقف السابقة، طالما أن الملك نفسه قرر القطع معها، لأن هذه الأحزاب جزء كبير من قياداتها وصل إلى مواقعه الحزبية من أجل القيام بهذا الدور.
عند الحديث عن الحربائية التي تتعامل بها أغلب الأحزاب السياسية المغربي في موضوع توظيف الدين في الخطاب السياسي، والفرق في تعاطيها مع نفس الموضوع عندما يتعلق الأمر بالمؤسسة الملكية، فليس هذا دفاعا عن حزب المصباح، وإنما فضحا لنخبة سياسية مرتزقة حربائية تغير مواقفها مثلما يغير شخص جواربه.
إن توظيف الدين في الخطاب السياسي واضح لا يختلف أحد حول تجلياته، وإذا كان لابد من توظيفه فالأحرى أن يوظف في حث الناس على احترام العقود والقوانين والدعوة إلى تبني القيم المثلى التي يتضمنها، وليس توظيف الدين فقط عند البحث عن المشروعية السياسية أو مهاجمة حزب لحزب آخر من اجل الوصول إلى أهداف هي في الغالب شخصية انتهازية لا تمت بصلة إلى المنفعة العامة.
لقد عانى الدين في المغرب من توظيف بشع منذ عقود قبل حتى أن توجد الأحزاب السياسية نفسها في المغرب، لكن أخذا بعين الاعتبار بنية المجتمع المغربي في الماضي فقد يكون لهذا الاستغلال ما يبرره، طالما أن الفقيه كان نفسه هو المدرس والقاضي والمفتي والإمام وكل ما يرتبط بتسيير القبيلة أو الزاوية، ولن تخرج شخصية السلطان عن هذا الإطار، فالسلطان كانت له سلطة الإمامة التي تعطيه صلاحيات واسعة، أما اليوم فالأمر يختلف تماما، ولا يعني هذا إلغاء الدين من الحياة السياسية أو تسيير شؤون البلاد والعباد، لأن الدين عنصر حاضر في كل المجتمعات وقيمه حاضرة أيضا رغم اختلاف طرائق تنزيلها على أرض الواقع، لكن واقع الحال اليوم يفرض إعادة النظر في طريقة التعاطي مع الدين على المستوى السياسي، وهذا ما يجب على الأحزاب السياسية المغربية أن تتعامل معه بكل جرأة وحياد، لأن الجميع يوظف الدين في خطابه السياسي، والفرق فقط يكمن في أن البعض يوظفه من أجل تبرير رؤيته للأمور والبعض الآخر يدعي الدفاع عنه والغيرة عليه، فيما يذهب آخرون لتعزيز موقعه عن طريق الاستشهاد به، وبين هذا وذاك يبقى الدين ضحية المزايدات السياسية الرخيصة والنفاق الحزبي الذي لا ينتهي.
ربما يعي الأستاذ الكريم ويعلم حق العلم أن المغرب بحق دستوره، هو دولة إسلامية يشكل الإسلام مصدرا رئيسيا من مصادر التشريع فيها، فالدين حاضر وضاغط في وجدان الأمة شاء أستاذنا أم أبى.
لقد كان هذا الدستور المتوازن والتقدمي حينها، كان سلم النجاة، وجسر العبور العبقري من لحظة تاريخية كانت كفيلة ببث البلبلة والقلاقل في هذا الوطن، والذي نرجو من الله أن يحفظه.
دستور متوازن، يفصل بين السلطات ويكرس حقوق كما هو متعارف عليها دوليا، وينصف الثقافات، ويشيد الهوية المتعددة للمغرب باعتباره أرض اللقاء والمحبة، وناهيك باحتكار المؤسسة الملكية للحقل من نفع عميم وصلاح للبلاد والعباد.
لقد كان قرار اختصاص الملك بالحقل الديني حرزا وحصنا من كل غلواء وتشدد سواء لدى الأنصار المهوسين، أو الأعداء المتعنتين.
الدين حاضر، والمشكل يكمن في استيعابه وفهمه بما يلائم متطلبات العصر ومستجداته، وركون حزب العدالة إليه كمتكأ أيديولوجي ليس عيبا وى محرما ، وليس عيبا أن ينسجم مع أصوله وتربته التي نشأ فيها، وذلك ما دام لا يدعي تفرده بتمثيل الدين، وما دام يتوسل بالوسائل المشروعة لتطبيق تصوراته.
لقد أخذت الهند دون أن تنحي هندوسيتها ، و