مطيع: الأنظمة تستبيح دماء وأعراض الناس بـ"أحكام السياسة"

مطيع: الأنظمة تستبيح دماء وأعراض الناس بـ"أحكام السياسة"
الأربعاء 4 يونيو 2014 - 00:27

بعد أن دعا الشيخ عبد الكريم مطيع الحمداوي، مؤسس أول فصيل إسلامي بالمغرب، في مقال سابق إلى إلغاء عقوبة الإعدام من القانون الجنائي في المغرب، لكونه عقوبة غير إسلامية، عاد في مقال ثان تنشره هسبريس، إلى موضوع ذي علاقة يرتبط بما يسمى “القتل السياسي” عند الفقهاء.

وسلط مطيع الضوء على ما نعته بفساد الأنظمة التي قامت سابقا أو حاليا على ما يصطلح عليه “أحكام السياسة” في مجال المخالفات والجنايات التي لم يَرِدْ من الشرع حكم فيها، إذ تستبيح بها دماء المواطنين وأعراضهم وأموالهم، سواء سَمَّتْ ذلك قتلا بأحكام السياسة الشرعية، أو إعداما بأحكام القانون.

وهذا نص مقال مطيع كما ورد إلى هسبريس:

القتل السياسي لدى الفقهاء هل له من سند شرعي؟

في المقال السابق كان الحديث عن الإعدام بصفته انبثاقا من عقيدة لا تؤمن بالغيب واليوم الآخر، وعملا عدوانيا لا يُمتثل فيه لأمر الله أو يُحكَم فيه بحكمه، ولو كانت النتيجة العملية المادية له وللقتل واحدة، إذ العبرة في الإسلام بالنية التعبدية في الأعمال، لا سيما والإعدام عند أهله سياسي في أكثر أحواله، صراعا كان على السلطة أو حماية لأصحابها، ويقابل ذلك في التاريخ الإسلامي عقوبة القتل السياسي عند الفقهاء، أو القتل سياسةً كما هو مصطلحهم، وقد عرف تنفيذه نماذج مقززة تنفر من ذكرها نفوس أولي النهى والأحلام. نماذج ليس لها أصل في كتاب أو سنة، أو مبادئ تحترم الحيوان بله الإنسان.

ونحن إذا ما استعرضنا تاريخ القتل السياسي في الأمة الإسلامية نجد أن حكامها المسلمين كانوا فيما بعد الخلافة الراشدة إذا غضِبوا من أحد بَطَشُوا به، وإن ارتكب مخالفةً مُضِرَّةً بأمْنِهم نَكَبوهُ، من غيرِ أن يحاولوا أو يفكِّروا في إضفاءِ الشرعية على تصرفهم. وكان في مقدمة ضحايا هذه الجرائم الحسين رضي الله عنه حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرة عينه، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنه، إلا أن إنكارَ العامةِ بوازعِهم الديني وحسِّهم الإنساني، وتنديدَ بعضِ العلماء الصادقين أدى إلى الاستعانة ببعض فقهاءِ السلطة، من أجل تبريرِ هذه التصرفات و”شرعنتها”، فكان مبدأ “التعزير” الشرعي أيْسَرَ مَدخلٍ وأوْطَأَ كَنَفٍ في هذا المضمار.

والتعزيرُ لغةً من أسماء الأضداد، يُفيد التعظيمَ والتبجيلَ والنصرةَ كما في قوله تعالى: ﴿ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [الفتح: 9]، ويُفيد أيضا الردعَ والردَّ والتأديبَ كما في المباحث الفقهية التي عرَّفتْه بأنه تأديبٌ بضربٍ وغيرِه دون الحَدِّ أو أكثرَ منه، في الحدود التي لم تَتَكامَلْ أركانُها وتقتضي معاقبةَ مرتكبِها، وفي المخالفاتِ والجنايات التي لم تَرِد النصوصُ بأحكامٍ فيها، وفي الجرائمِ السياسية ضد الدولة ورموزِها، وفي كل ما يَرى الحاكمُ مصلحةً له في ردعه وقمعه.

ولقد حاول الفقهاءُ من مختلف المذاهب التمييزَ بين التعزيرِ وبين الحَدّ، وذكروا فروقا بينهما كثيرةً من أهمها:

• أن الحدَّ مُقَدَّرٌ شرعا والتعزيرَ غيرُ مقدَّرٍ شرعًا ومُفَوَّضٌ فيه إلى رَأْيِ الحاكم.
• أن الحدَّ يُدْرَأُ بالشُّبُهاتِ والتعزيرَ يَجِبُ بالشُّبْهَةِ.
• الرّجوعُ في الإقرارِ يُعْمَلُ به في الحدِّ ولا يُعْمَلُ به في التعزير.
• الحدُّ لا تجوز فيه الشفاعةُ والتعزيرُ تجوز فيه.
• الحدُّ لا يجوز للإمام تركُه والتعزيرُ للإمامِ فيه التركُ.
• الحد يَسْقُطُ بالتَّقادُم والتعزيرُ لا يَسْقُط.
• الحدودُ واجبةُ النَّفاذ واخْتُلِفَ في وجوبِ التعزيرِ.

أما مشروعيةُ التعزير فقد اختلف فيها الأئمة الأربعة:

وإذ يرى الشافعي أن التعزيرَ ليس بواجبٍ وأن للإمام حقَّ إيقاعِه وتركِه، يرى الحنابلةُ أن ما كان من التعزيرِ منصوصا عليه فهو واجبٌ، وما لم يكنْ منصوصا عليه فالأمْرُ لِنَظَرِ الإمام إن شاءَ عزَّرَ وإن شاء تَرَك، ويذهبُ مالك وأبو حنيفة إلى أنه واجبٌ، لورود أحاديثَ موقوفةٍ فيه، مثل ما رُوِي عن علي كرم الله وجهه فيما أخرجه ابن الجعد في مسنده عن عبدالملك بن عمير قال: سُئِل عليٌّ عن قول الرجل للرجل: “يا فاجر يا خبيث يا فاسق”، قال: “هُنَّ فواحش فيهِنَّ تعزيرٌ وليس فيهن حدّ”، وما أخرجه عبد الرزاق في مصنفه أن عمر كتب إلى أبي موسى الأشعري: “ولا يُبْلَغُ بِنَكالٍ فوق عشرين سوطا”. أي لا يتجاوز التأديب عشرين جلدة.

ولئن كان الحديث الوارد في أمر التعزير متكلَّمًا فيه، على رغم اتفاق البخاري ومسلم على تخريجه عن أبي بردة، وهو قول الرسول – صلى الله عليه وسلم -: (لا يُجلَد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)، فقد بلَغ الاختلافُ في تأويلِه وتقديرِ العددِ فيه مَدىً بعيدا.

رأى مالك أن تحديدَ قدرِ التعزير يكون على قدرِ العقوبةِ وصاحبِها، ويُخَيَّرُ الإمامُ بين العشرة وبين ما فوق الحدود الشرعية جلدا وقطعا وقتلا وصلبا، وذهب بعض المالكية إلى أن عددَ العشرة مقصورٌ على زمن النبي – صلى الله عليه وسلم – وهذا الرأي في غاية الضعف، وذهب أشهب إلى العمل بظاهر الحديث.

ورأى الشافعي ألا يُبلَغ بالتعزير ما هو مُقدَّرٌ في الحدود، فلا يُزادَ على تسع وثلاثين ضربة، أي أقل من الأربعين التي وردت في الأثر، وذهب بعضُ الشافعية إلى أن حديثَ “العشرة” منسوخٌ بفعل الصحابة، وهذا ضعيف جدا لأنه لم يثبت إجماع من الصحابة على نسخه، ورأى القاسمُ بن القفال الشاشي من الشافعية عدمَ تجاوُزِ العشرةِ عملاً بظاهر الحديث.

كما يستشهدون على حقِّ الحاكم في إيقاعِه وتركِه وتقديرِه وتعيينِ مستحِقِّيه بحديث ضعيف ورد في جامع الترمذي ومسند الشهاب هو (اتَّقوا فراسةَ المؤمن، فإنه ينظر بنور الله عز وجل) وفي رواية كنزِ العمال عن عروة مرسلا: (إن لكلِّ قوم فراسةً وإنما يعرفها الأشراف) وبحديث آخر متكَلَّمٍ فيه ورد في “نوادر الأصول” للحكيم الترمذي والمعجم الأوسط عن الرسول – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: (إن لله عباداً يعرفون الناس بالتَّوَسُّمِ).

وذلك ما ذَهب إليه ابنُ قيم الجوزية في كتابه “الفراسة المُرْضية في أحكام السياسة الشرعية” إذ قال: (وقولُ أبي الوفاء ابن عقيل ليس هذا فراسةً، فيقالُ ولا مَحْذورَ في تسميتِه فراسةً، فهي فراسةٌ صادقةٌ، وقد مدح اللهُ سبحانه الفراسةَ وأهلَها في مواضع من كتابه فقال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ [الحجر: 75] وهم المتفرِّسون الآخِذونَ بالسِّيما وهي العلامةُ، يقال تفَرَّسْت فيك كيت وكيت وتَوَسَّمْتُه، وقال تعالى: ﴿ وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ﴾ [محمد: 30]، وقال تعالى: ﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ﴾ [البقرة: 273]، وفي جامع الترمذي مرفوعا: (اتقوا فراسةَ المؤمنِ فإنه ينظرُ بنور الله) ثم قرأ: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ [الحجر: 75].

وكلا الحديثين لا ينطبق معناهما ولو كانا صحيحين على حالات التعزير سياسةً من قِبَلِ الحكام، فما مِنْ أحدٍ منهم تأكد لنا أنه كان يَنظُر بنورِ الله لتكونَ له تلك الفراسةُ، وما مِنْ أحدٍ منهم تأكد أنه كان من رجال الله الذين يعرفون الناسَ بالتَّوَسُّم.

أما الاستشهاد بقوله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ وقولِه مخاطبا الرسول – صلى الله عليه وسلم – ﴿ وَلَوْ نَشَاء لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 30]، وقوله ﴿ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ ﴾ [البقرة: 273] فأبْعَدُ عن موضوع التعزيرِ سياسةً بُعْدَ الأرض عن السماء، لأن الآيةَ الأولى متعلقةٌ بضرورةِ الاعتبارِ بما وقع لقومِ لوط ومعرفةِ قوةِ الله وجبروتِه وغيرتِه لانتهاك حرماته، والثانيةُ متعلِّقةٌ بوَحْيٍ من الله تعالى لنبيِّه في شأن المنافقين، وليست هذه الخاصية لغيره، وليس الحكام مِمَّنْ يوحَى إليهم في شأنِ أعدائهم، والثالثةُ في أمرِ الصدقات والفقراء الذين لا يكادُ يعرفُهم الجاهلون.

إن بناءَ العقوبة على الفراسةِ والتوسُّمِ والظنِّ والتخْمينِ والشُّبهةِ والتُّهمةِ واعتمادا على نَظَرِ الحاكم ومِزاجِهِ وما يَراه مصلحةً يُعَدُّ بابا مُشْرَعاً للفِتنِ والظلمِ والجورِ والاستبدادِ.

وقد غَلِطَ ابنُ قيم الجوزية في كتابه “الفراسة المُرضية في أحكام السياسة الشرعية” إذ دافع دفاعَ المجادلِ المستميتِ عن نظرية الفراسةِ وجَعَلَها من أهمِّ مَحاوِرِ الحجةِ في الموضوع وَوَصَفَها بأنها (مسألةٌ كبيرةٌ عظيمةُ النفعِ جليلةُ القدرِ إن أهملها الحاكمُ أو الوالي أضاعَ حقّاً كثيرا وأقامَ باطلا كثيرا).

وإلى ذلك ذهب ابنُ تيمية أيضا في كتابه “السياسة الشرعية” إذ قال: (وأما المعاصي التي ليس فيها حدٌّ مقدَّرٌ ولا كفارةٌ….فهؤلاء يعاقَبون تعزيرا وتنكيلا وتأديبا بقدْرِ ما يراه الوالي)، ثم بعد أن بَيَّن أن التعزير يكون بالإيلام قولا أو فعلا، كما يكون بالحبس أو تسْويدِ الوجه وإركابِ المعاقَبِ على دابةٍ مقلوباً، ذكر أن مالكا وبعضَ الحنابلة جَوَّزوا البلوغَ بالتعزير إلى القتلِ للإفساد ولو بدون رِدَّةٍ.

ولئن كان الفقهاءُ قد حاولوا الاستشهادَ على شرعيةِ ذلك ببعض الأحاديث الضعيفة أو الموضوعةِ واصطيادِ ما انتحَلَه الأخباريون من روايات، أو القياسِ على بعض حالات الحرب التي لها أحكامٌ خاصة، فإن الرسولَ – صلى الله عليه وسلم – لم يثبُتْ أنه عزَّرَ خارجَ الحدود الشرعية، بل كان يَعفو ويصفَح حتى في حالات الإساءة إليه كما روي عن عبد الله قال: قسم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قسما، فقال رجل: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله، قال فأتيت النبي – صلى الله عليه وسلم – فسارَرْتُه، فغضب من ذلك غضبا شديدا واحمر وجهه حتى تمنيت أني لم أذكره له، ثم قال: (قد أوذِيَ موسى بأكثرَ من هذا فصَبَرَ).

لقد نشأت نظريةُ العقاب خارجَ إطار الحدود الشرعية في حضن مسوِّغاتٍ فقهية مختَلَفٍ فيها، ولكنها أخذَتْ في التطور مع مرور الزمن وترامِي رقعة السلطة، وفُشُوِّ الفقه واتساعِ شُقَّة الخلاف فيه، وحاجة الحكام إلى ضبط العامة وإخضاعهم، وبعد أن كان التعزيرُ عند الفقهاء محصورا في المخالفاتِ الشرعية غير المنصوص على حكم فيها كالغش والنصب والحدود التي لم تكتملْ أركانُها، عُرِفَ التعزيرُ للمصلحة المرسَلَةِ المُقدَّرةِ بِنَظَرِ الحاكم، والتعزيرُ للتهمِ بالإساءةِ للدولةِ وأمْنِ السَّلْطَنَةِ، والتعزيرُ بالشُّبهة والظنِّ والفراسةِ والتوسُّمِ، واتُّخِذَ لكل هذه التعازيرِ اسمٌ جامع هو التعزيرُ سياسةً.

من ثم عَرَف الفقهُ الإسلامي مصطلحَ “السياسة” الذي تطوَّرَ مع الزمن فصار “سياسة شرعية” بِيَدِ الحاكمِ يطبقها كيف شاءَ وأنَّى يشاء وفي مَنْ يشاء.

كان الأصلُ في الشريعة أن العقوبةَ لا تكون إلا حدّاً، ثم صارت حدا وتعزيرا، ثم حدا وسياسة، ثم سياسةً شرعيةً، ثم سميت العقوبات المعزرة بنوع من التجاوز كذلك حدودا كما قال ابن تيمية في كتابه السياسة الشرعية ص 101: (وأما تسمية العقوبة المعزرة حدا فهو عرف حادث) وعرَفَ الفقهُ الإسلامي بهذا التطور الجلدَ حدًّا والجلدَ سياسةً شرعية ، والقطعَ حدًّا والقطعَ سياسةً شرعية، والقتلَ حدًّا والقتلَ سياسةً شرعية، ومصادرةَ الأموال حقًّا ومصادرتَها سياسةً شرعية، ثم خُلِعَتْ ربقةُ التقيُّد بالنصوصِ مطلقا وتوالَت المظالمُ على الأمة بالصلبِ والمثلة وتقطيعِ الأطراف سياسةً شرعية والقتلِ بالعصْرِ ِونفخ الضحيةِ من الدبر حتى الموت سياسة شرعية،ً والصلب والتقطيع والقتل والرمي للكلاب تفترس القتيل من غير أن يصلى عليه سياسة شرعية، قال ابن رشد القرطبي في “المقدمات الممهدات على مدونة مالك” عن الخارج على السلطان ص 3/232 – 233:”وإن أخذ مالا فكان ما أخذ عشرة دراهم فصاعدا قطعت يده ورجله من خلاف. فإن قتل وأخذ المال فإن أبا حنيفة قال: الإمام بالخيار إن شاء قطع يده ورجله من خلاف أو صلبه وقتله على الخشبة…” واختلف في الصلاة عليه على مذهب من يرى أنه يقتل في الخشبة فقال الفقيه المالكي ابن الماجشون: ينزل من الخشبة حتى تأكله الكلاب والسباع، ولا يُترك أحد من أهله ولا من غيرهم أن ينزله ليدفنه، ولا ليصلي عليه”. وفي عصرنا هذا عُرِفَ تذويبُ الضحايا في حامض “الأسيد” كذلك سياسةً شرعية، ولا ندري من افترس مجهولي المصير من المعارضين.

إن هذه النَّقْلَةَ النوعيةَ من مصطلح العقاب تعزيرا وتأديبا” إلى مصطلح “العقاب سياسةً ” أو ما يطلق عليه الفقهاء”السياسة الشرعية” قد رفعت الحَرَجَ الديني عن الحكام في جميع مراحل التاريخ الإسلامي منذ قيام الملوكيات الفاسدة، ووسَّعت عليهم باستعمال لفظٍ غائمٍ ضبابي، يبتلعه العامَّةُ ويستسيغونه ما دام بعض الفقهاء يستعملونه للتعبيرِ عن شرعيةِ أي تصرف.

لقد عرَّف ابن عقيل الحنبلي السياسة الشرعية بأنها: (ما كان من الأفعال، بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول – صلى الله عليه وسلم – ولا نزل به وحي).

وعلق ابن القيم في الطرق الحكمية على هذا التعريف بقوله: (عن ابن عقيل قال: “السياسة ما كان فعلا مع الناس أقربَ إلى الصلاح وأبعدَ عن الفساد، وإن لَمْ يَضَعْهُ الرسولُ – صلى الله عليه وسلم – ولا نَزَلَ به الوحيُ”، ومنْ قال لا سياسةَ إلا ما نَطَقَ به الشرْعُ فقد غَلِطَ).

وقال الطرابلسي في “مُعين الحكام”: (السياسةُ ما يحتاجُه الحكامُ والوُلاةُ من إيقاعِ بعضِ العقوبات ردْعاً وزَجْرا لتُوصَدَ أبوابُ الفِتَن). إلا أنه في نفس الكتاب “معين الحكام” ص 68 انتبه لمخاطرِ السياسة ونبَّه إليها محذِّرا بقوله في الحكم بالفراسة: (فالحُكْمُ بالفراسةِ مثلُ الحكمِ بالظنِّ والتخمينِ وذلك فِسْقٌ وجَوْرٌ من الحاكم)، ثم يعقِّبُ على ذلك بتفصيلِ المظالم التي تَنْشأُ عنها قائلا: (اعلمْ أن السياسةَ شرعٌ مُغَلَّظٌ، والسياسةُ نوعان سياسةٌ ظالمة فالشرعيَّةُ تُحرِّمها وسياسةٌ عادلة تُخْرِج الحقَّ من الظالم…وهي بابٌ واسع تَضِلُّ فيه الأفهامُ وتَزِلُّ فيه الأقدامُ، وإهمالُه يُضيِّعُ الحقوقَ ويُعَطِّلُ الحدودَ ويُجَرِّئُ أهلَ الفساد ويُعينُ أهلَ العنادِ، والتوسُّعُ فيه يَفتحُ أبوابَ المظالمِ الشنيعةِ ويوجِبُ سَفْكَ الدماءِ وأخْذَ الأموالِ غيرِ الشرعية…).

ولئنْ ترك الطرابلسي في هذه الفقراتِ مَنْفَذاً لتَمْريرِ بعضِ تصرفاتِ الحاكمِ بإشارتِه إلى ما سَمَّاهُ السياسةَ الشرعيةَ دون أن يَضَعَ لها تعريفا دقيقاً أو آليةً واضحةً دقيقةً أو مِقياسا تُعرَفُ به، فإن الفقيهَ المالكي الإمام القرطبي في تفسيره 10/44 قد وَضَع حَدًّا لكلِّ تأويلٍ في هذا الشأن فقال عن الفِراسةِ التي هى ركيزةُ أحكامِ السياسة: (قال القاضي أبو بكر بن العربي: “إذا ثبت أن التوسُّمَ والتَّفَرُّسَ من مَدارِك المعاني فإن ذلك لا يَتَرَتَّبُ عليه حكمٌ ولا يُؤْخَذُ به مَوْسومٌ ولا مُتَفَرَّسٌ، وقد كان قاضي القضاة الشامي المالكي ببغداد أيامَ كَوْنِي بالشام يَحْكُم بالفِراسةِ في الأحكام، جريا على طريقِ إياس بن معاوية أيامَ كان قاضيا، وكان شيخُنا فخرُ الإسلام أبو بكر الشاشي صَنَّفَ جزءا في الرَّدِّ عليه، كَتَبَه بِخَطِّه وأعْطانِيه، وذلك صحيحٌ، فإن مداركَ الأحكام معلومةٌ شرْعا مُدْرَكَةٌ قَطْعا وليست الفراسةُ منها).

إن هذا المصطلحَ المستحدثَ من أجل “شَرْعَنَةِ” الاستبداد لا تُقِرُّه مبادئ الإسلام وتعاليمُه شكلا ومضمونا، لِمَا يحمله من معاني تحكم فئةٍ في فئة، وما يعطيه للحاكم من حقِّ التصرف في الشأن العام استبدادا تامّاً لا مُعَقِّبَ له، وما يفتحه من أبوابٍ للفتن والمظالم على جميع الصعد:

على الصعيد السياسيِّ إذ تَمَّتْ تحت غطائِه السيطرةُ على أمر الأمة، وسُخِّرَ للأهواءِ والمصالح الفردية ونَهْبِ المال العام، أمامَ عيْنِ الأمة الخائفةِ من هذه العقوبة المستحدَثَةِ غيرِ المُقَدَّرةِ عقلا أو شَرْعا، والمَوْكولَةِ إلى مِزاجِ الحاكم وعَفْوِيةِ ما يصدُر عنه في حالاتِ خوفه وتوجسه، غضبِه وزَهْوِهِ، قتلا أو بَتْرا أو صلْبا أو جلدا أو مُصَادَرةً.

وعلى الصعيدِ الاجتماعي فُرِضَت على الأمة الخدمةُ الذليلةُ في أعتابِ الحكام وأمراءِ الشرطة والجيشِ وفي قصورِ النُّخَبِ الفاسدة ذاتِ النفوذ والجاه.

وعلى صعيدِ السيادةِ الوطنية فُتِحَت البلادُ للغزوِ الأجنبي عسكريا وثقافيا وعقديا.

وعلى صعيدِ التَّواصِي بالمعروفِ والتَّناهي عن المُنكر، أُجْبِرَ الدعاةُ على لُزومِ الصَّمتِ ومُلازمةِ الظِّلِّ تحتَ طائِلةِ التَّعزيرِ سياسةً وما ينْتُج عنه من قتلٍ وسَحْلٍ وانتهاكِ أعراضٍ.

إن المرء ليخجل من نفسه وهو يرى فقهاء السلاطين لدى جميع المذاهب الإسلامية من السنة والشيعة يبررون الجرائم السلطانية بمخلف ضروب التحايل على النصوص قطعا للأرجل والأيدي من خلاف وتصليبا ورميا للكلاب، وتمثيلا وتنكيلا بالمعارضين في أقبية السجون العلنية والسرية، متغاضين عن تحريم ذلك بالنصوص القطعية الواضحة، والسنة النبوية الثابتة التي تحرم كل ضروب العدوان على الأجساد والأرواح والأموال والأعراض، مع ما لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم من القدوة الحسنة إذ رأى يوم أحد ما بحمزة رضي الله عنه وبقتلى المسلمين من المثلة وحلف ليمثّلنّ بسبعين من المشركين، فنزل قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} النحل 12 ، فقال: (بل نصبر)، وكفّر عن يمينه. وإذ حرم المثلة بالحيوان ولعن من مَثَّل به فقال: (لعن الله من مثَّل بالحيوان)، وحرم أكل الممثول به من الطير والبهيمة، قال مجاهد: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُمثَّل بالذوات وأن تؤكل المَمْثول بها). وإذ مر بنفر من الأنصار وقد نصبوا شاة يرمونها بالنبل فقال:(هذه المعذبة، لا تأكلوا لحمها)، ومر عبد الله بن عمر بشباب من قريش يرمون دجاجة فقال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من يمثِّل بالحيوان).

إننا إذ نَنْقُضُ ما دُعِيَ “أحكامَ السياسة” في مجال المخالفات والجنايات التي لم يَرِدْ من الشرع حكمٌ فيها، فإنما لنبين فساد الأنظمة التي قامت عليها سابقا أو تقوم عليها حاليا وتستبيح بها دماء المواطنين وأعراضهم وأموالهم، سواء سَمَّتْ ذلك قتلا بأحكام السياسة الشرعية كما يدعي فقهاء السلطان، أو إعداما بأحكام القانون كما يحكم به كلاب جهنم من القضاة. ولئن كان الإعدام بالمفهوم الغربي حكما بغير ما أنزل الله فإن القتل السياسي ونسبته لشريعة الإسلام تحت أي تسمية ظلم للإسلام وكذب على الله ورسوله، وخروج على الأمة، قال تعالى:{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} هود 18.

‫تعليقات الزوار

7
  • Aba
    الأربعاء 4 يونيو 2014 - 03:32

    A few years ago, a bunch of Golf states patients and their families came to visit Mayo Clinic (One of the jewels of medical care) and the "God" Fearing (notr really) visitors fired the women taxi drivers. They could not be driven by women. This is a tangent but the same group went to have "fun" in their manner. I am just confused. Confused about why no one is revolting about these oppressors and source of all evil on the planet.

  • أميـــ ناصح ــــــــــن
    الأربعاء 4 يونيو 2014 - 10:12

    أغرب جريمة سياسية!
    سعد بن عبادة هو زعيم الأنصار،وأحد النقباء،شهد بدرا،وهو القائل:"إيانا تريد يا رسول الله، والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها البحار لأخضناها……"
    كان له رأي في الخلافة،فلم يبايع أبا بكر ولا عمر،وفي لقاء له مع هذا الأخير قال له: أأنت صاحب ما أنت صاحبه؟ "يقصد إصراره على أن تكون الخلافة للأنصار"
    فقال سعد: نعم، أنا ذاك، وقد أفضى إليك هذا الأمر كان -والله- صاحبك "أبو بكر" أحب إلينا منك، وقد أصبحت كارهًا لجوارك.
    فقال عمر:إنه من كره جوار جاره تحول عنه.
    فلم يلبث إلا قليلًا حتى انتقل سعد بن عبادة إلى الشام،وتقول بعض الروايات أنه مات في"حوران"
    قال بن سيرين وعبد الأعلى:بينما سعد بن عبادة يبول قائمًا إذ اتكأ فمات، قتلته الجن.
    قال ابن عبد البر في ترجمة سعد بن عبادة:وقالوا أنه وجد ميتًا في مغتسله وقد اخضر جسده، ولم يشعروا بموته حتى سمعوا قائلًا يقول ولا يرون أحدًا:
    "قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة * رميناه بسهم فلم يخط فؤاده"،وروى نحو ذلك الحاكم في المستدرك.
    جريمة الإغتيال السياسية هذه،حدثت في زمن الخلافة الراشدة،حيث كان جهاز المخابرات فرع الشام يجند الجن،ويتدخل في كل واردة وشاردة.

  • lamouissi
    الأربعاء 4 يونيو 2014 - 10:22

    كذب المتاجرون بالدين،الذين يلوون عنق الآيات ويقوِّلون الله و الرسول ما لم يقولاه، أولئك هم خراب الأمم ودمارها، أقول كذب المتاجرون بالدين ولو صدقوا.

  • إنسان2013
    الأربعاء 4 يونيو 2014 - 12:42

    الحمد لله وحده و الصلاة على أنبيائه و رسله
    إن ما جاء بالدرس الجليل المنبثق من بحث عميق و مضني دال على صبر جلل يرفع اللبس و الغم عن ما يوجد من أمية قانونية في التشريعات الوضعية و يكشف أقنعة الساسة لإضفاء شرعية مزعومة على افعالهم. و الحال في القانون الجنائي بما يطلق عليه حاليا.
    و لتذكير أن الحاكم السياسي يجعل لعمل خدامه القدسية في محاضرهم و يقدر أنهم الأجدر و الأوثق من أطراف النزاع بل و يحكم بمشورة توجيهاتهم.
    و السؤال كيف أن الدارس لمصادر التشريع في القوانين الوضعية يُغيِّب فكرة النسبية الصدقية في المشرعين أنفسهم. — القائمين على تقدير التعزيز —
    كما أنه يتغافل من كـُـتاب النصوص القانونية حين صياغاتهم لها التقديرات اللفظية الوازنة فيأتي النص القانوني مشمولا بالغموض أو التناقض أو الفراغ …في حين لما تقرأ النصوص الموجبة لحماية الحاكم تجدها واضحة فصيحة حتى أن الأمي عند سماعها يفهمها
    إلى الأستاذ الكريم ؛ جزاكم الله عن الأمة خيرا بما تقدموه من تذكير لجوهر و الإرشاد لمكامن الخلل لدى البشرية. ذلك أن للظلم أقنعة و أخبثها التظاهر بالشرعية
    تحياتي و أعانكم الله و زاد في تقواكم.

  • الراجي رحمة الكريم
    الأربعاء 4 يونيو 2014 - 19:05

    جعلت الشيعة مذهبا في الدين الحنيف، ثم مما القصد من القول، وفي عصرنا هذا عُرِفَ تذويبُ الضحايا في حامض "الأسيد" كذلك سياسةً شرعية، هل عندك مثال أبلج قضيت فيه ببرهان تصرف به عنا ما فهمناه من لمز و غمز أو فلأقل من تفرس. ثم و كيف كانت سياسة مجيرك، شرعية؟

  • عبدالكريم الرقيوق
    الأربعاء 4 يونيو 2014 - 20:20

    الشيخ عبدالكريم مطيع هو ضحية النظام الملكي الديكتاتوري الامتلاكي . فهو ضحية لأن النظام الملكي كان يريد توجيه ضربة قوية للشبيبة الاسلامية التي كانت شعبيتها في تزايد مستمر الشيء الذي أقلق الهالك الحسن2 وأثار توجسه خيفة فلم يجد بدا من تصفيتها عبر البحث عن ضربة مخابراتية بغض النظر عن الطريقة؛ فالغاية تبرر الوسيلة. فالمعروف عن الهالك الحسن2 انه كان ديكتاتوريا فجا ولايقبل ولا يطيق الرأي الآخر فكيف بجماعة خارج سيطرته تزداد قوة وانتشارا في جل مدن المغرب ( وبن كيران نفسه رئيس حكومة الكومبارس كان احد تلامذتها ـ بن كيران الغير وفي لصاحب الفضل عليه ـ ).
    واذا علمنا ان تاريخ الحسن2 هو تاريخ اجرامي بحق معارضيه السياسيين حيث ارتكب بحقهم جرائم مروعة أمكننا ان ندرك ابعاد مؤامرة القصر على الشبيبة. وفي هذا السياق جاء اغتيال عمر بن جلون ـ ولا يستبعد ايضا ان يكون القصر قد تخلص من رأس غير مروض ولا يقبل الترويض ـ وهكذا دفع الشيخ البريء ثمن مؤامرة القصر فهل يتواضع رأس النظام ويعتذر للشيخ ولكل أجرم بحقهم ويفتح باب المغرب امامه للعودة دون شرط ام انه كعادة الطغاة يريد الاذلال عن طريق طلب العفو .

  • ابراهيم
    الخميس 5 يونيو 2014 - 06:35

    السلام عليكم
    صحيح ان الاعدام قد يستغل سياسيا لكن هل إذا ما تم إلغاء الاعدام فرضا بذالك ستتوقف الجرائم ابدا لا
    وهل حقيقية نطبق حكم الاعدام مثلا كما قال الله تعالى النفس بالنفس
    اسف ياشيخ هكذا هو حال الدنيا
    الامور والاحكام لاتتجزأ
    ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ( 33 ) )

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات