بنسالم حميش يعيد الترتيب والنظام إلى فوضى "الألفاظ الفخاخ"

بنسالم حميش يعيد الترتيب والنظام إلى فوضى "الألفاظ الفخاخ"
الإثنين 19 فبراير 2018 - 07:00

فوضى الألفاظِ الفخاخ

دعونا نفكر في ألفاظ فخاخ منتشرة بقدر ما هي حمّالة أضرار صميمية وأخرى جانبية، ألفاظ تجثم على الفكر والنظر فالسلوك، فتعيقها، أو على الأقل تخل بوظائفها وتعمّيها، فكيف ذلك؟

1/ فئة ألفاظ جرت مجرى العادة، إذ تكرّرت فتقررت بما هي عليه ويحسن ترويضها قدر الإمكان. فبعضها متولد من مكر اللغة أو إن شئنا من أفعالها القياسية (performances) وتتجلى، مثلا، في ما سماه قدماء اليونان أُوكسيمرون (oxymoron)، كقولنا: الحلو المرّ، الواضح المعتم، الضياء المظلم، غامض كالماس…

ويشبهه عند العرب من دون أن يطابقه ما سموه الأضداد، وهي قسم من المشترك اللفظي، وخلفوا لنا حولها مصنفات (الأصمعي، الأنباري، ابن السكيت…)، لأن المسمى المذكور يدل على تضاد دلالي في الكلمة المفردة، كما في مولى (العبد والسيد)، هوى (أحبَّ وسقط)، بشّر (ويعني أيضا أنذر، كما في “وبشرهم بعذاب أليم”، بصير (راءٍ وأعمى في العامية المغاربية)، عليل (زكي ومريض)، فتنة (امرأة فاتنة وحالة اضطراب وصدام)، أتربَ، بؤبؤ، وغيرها كثير.

أضف إليها مصطلح المتشابه في التفاسير القرآنية، وكذلك في البلاغة: المجازات والاستعارات والكنايات (métonymies، métaphores)، كقولك: شرب كأسا، سقط على أم رأسه، ضاجع الخوف، اتخذ الليل جملا، هام على وجهه، ركب رأسه، بلع لسانه…

هذا علاوة عن ألفاظ سيئة الوضع: سنُّ اليأس، “العيالات”، متقاعد، على قيد الحياة، بائرة (كمرادف لكلمة عانس)، ضريبة (من ضرب)، ممرضة (والأصوب هو مسعفة، ونقول سيارة إسعاف)، نحْر (كمرادف لعنق وجيد) “أناس ملونون” (السود تخصيصا، كما لو أن البياض ليس لونا)، النموذج إذا عنى (paradigme) فهو أنموذج التمييز الإيجابي، والأصح هو الميز (discrimination)، وليس التمييز الذي مقابله الأدق هو (distinction).

أما تسويغ هذا التركيب اللفظي المتنافر الأخير، مثلا، ثم تسويقه، فيمكنه بالقياس والمماثلة أن يفتح الباب مشرعا لتخليطات أخرى، تصف بالإيجابية، مثلا، المحسوبية والريعية، وربما -لِـمَ لا!- الاستبداد والعنف؛ في حين أن “الميز الإيجابي” يُعبّر عنه في اللغة الإنجليزية بلفظتي الفعل الإيجابي (positive action)؛ وكلُّ ما ذكرت إنما هو غيض من فيض.

أما ما يلزم معرفيا التنبيه إليه فهو فشو ألفاظٍ فخاخ قلما يُنظر إلى فوضاها ومضاعفاتها السلبية، وهي رائجة في إنشائيات وكلاميات جماعات من أهل القلم والصحافة والسياسة:

2/ فئة ألفاظ فاسدة

إنها الأخطر والأدهى فكريا وتواصليا، وهذا بيانه:

في ظل الواقع اللغوي السيّار وما يعتريه من فوضى عارمة، كمْ يطالعنا، حتى على صعيد الوطن الواحد، استعمال إسهاليٌّ مفرط لألفاظ مثل الانفتاح الكثير الرواج (وذلك حين يضحو بمثابة عزوف عُصابي عن الذات المرجع والأصل وافتتانٍ بالمتغلِّب الأقوى، فاقدٍ لحاسة التمييز وممارسة النقد).

وقس عليه لفظ التعدد الذي قد يصير مُفسدَ كل حوار إيجابي مثمر إذا ما أسيئت مراقبته وإدارته. ففي وسط مبلقنٍ سياسيا وحاملٍ لكسور ثقافية غائرة، وبمحضر قنوات تواصل مهشمة، فإن ذلك اللفظ، كعلامة غنى مفترض، لا يعدو أن يكون محارة فارغة ويافطة خادعة، تترتب عنه عواقب وخيمة.

منها أن الحق في الاختلاف (la différence) المطلوب بالهتاف والإلحاح، يتحول في الممارسة الفعلية إلى حق في اللامبالاة (l’indifférence)، وبالتالي إلى التمهيد للكراهية بين الذوات وخطابات البارانويا والانطواء الفصامي. والحال أننا في هذا المجال نواجه أيضا تصورات سائبة ولا منتجة، حيث تنتهي إلى إقامة حيطان عازلة بين الأوعاء الجماعية وحتى الفردية، لعلها الأدهى من سواها، بسبب انتمائها إلى دوائر الرمزي واللامادي.

بناءً على ما تقدم، أخلص إلى أن عينة الألفاظ المذكورة لا ترقى إلى مقام المفاهيم، إذ أنها في تركيبتها البدئية إنما تخضع لتسخيرات يومية جارية ولقواعد الاختزال والإدغام والجهد الأدنى؛ فيما المفاهيم، عكس ذلك، تبدو كنتاج الفعل الفكري وعملياته.

3/ عن التنوع الخراق

إن كل من يجهلون في ذلك الشأن عطاءات الفلاسفة وكبار المفكرين، أو يقصِّرون في استحضارها، يخطئون المنهج والمرمى، مثلهم كحاطبي ليل، فلا يُجيدون ولا يفيدون. وعليه، فإن تلك العطاءات لا يجوز تحييدها والقفز عليها، لكونها منشئة ومضيئة.

وهكذا فإن المقاربة الفلسفية للألفاظ المذكورة تحوّلها إلى مفاهيم من خلال ربطها عضويا بالمكون الذي يؤسسها وينعشها، ألا وهو التواصل أو ما يسميه الفيلسوف الألماني يورﭼـن هابرمس “الفعل التواصلي”، الذي به تقوم وتتحقق شروط الندية والاستعراف، وبالتالي التنوعِ الخلاق؛ وفي غيابه تؤول تلكم الألفاظ – التي يتعبدها الكثيرون ويلهجون بها- إلى الضمور والتلاشي، فنكون بمحضر التنوع الخرّاق، أي المليء بالشروخ والفتوق.

وهكذا حالها في أوساط إعلاميين ومثقفين من هواة التبرج والطبخات الملفقة السريعة، وتنضاف إليها أخرى، مع وجود الفارق، تعلو أسهمها اليوم في بورصات الكلام المستهلك الذائع، وتتطاير في أفواه أولئك وغيرهم، بلا رقيب لغوي ولا حسيب معرفي، ومنها: القيمة المضافة، الرافعة، المثقف العضوي، الحوار الثقافي، الحكامة، القوة الناعمة، إلخ.

إن التنوع (وأردافه) حين لا يتمخض إذن عن التمثل المفهومي وعملية الفكر، يغدو مسخا وعامل سلبٍ لأنموذج التنوع البيولوجي نفسه (biodiversité)، فيولِّد عناصر مرضية من طبيعتها أن تنخر، كسرطان، جسم مجتمع كله بتعريضه لمخاطر شتى: تفكك العلائق وتقطعها، احتقان قنوات التواصل والتبادل، تفشي التنابذ والتصامم والتباغض، وسوى ذلك من الـمضاعفات المفضية إلى مجتمع عصابي متشظّ، ضعيف التماسك والتضامن، مجتمع تفشل فيه الازدواجية اللغوية الحق، ويتكلم معظم شبابه عربية هجينة وفرنسية فرية.

وهكذا يصير فيه مفهوم الوحدة أو الاتحاد مخفَّضا، بل مهملا وغير مُدْمَجٍ ومبرمج، في حين أنه في البلدان المتقدمة يقوم كعُملة قوية وإسمنت تمسيكي، وكغاية مثلى في حد ذاتها، كما الحال في الولايات الأمريكية المتحدة والمملكة البريطانية المتحدة والاتحاد الأوروبي ومجموعات أخرى.

إن الأخطر في الأمر أن تلك الكلمات المعلّبةِ الجاهزة تُخِلُّ بمفهوم الهوية نفسها كمفهوم محوري تأسيسي، بالترويج لما يسمى “الهوية المتنوعة المتعددة” من طرف جهات متنفذة في بلدان المغرب العربي خصيصا، علاوة على النزعات الطائفية والعشائرية، ودعاتها الذين لا همَّ لهم ولا مبتغى إلا تعطيل الهوية الإجماعية، وإفراغها شيئا فشيئا من نوابضها الحيوية، ومن مناعتها المكتسبة ومقوماتها التاريخية والثقافية واللغوية الثرية العميقة.

إن أسوأ التراجيديات هو أن يصير الإنسان حتى في البلاد الواحدة عصيا على الإنسان في حقل الإدراك والتعرف، وأسوأ منه أن يحدث ذلك بين أناس عاشوا تاريخا مشتركا، ومعا كافحوا ونشدوا وأنشدوا وشيدوا…

إن إرادة الحياة معا وتشكيل مجموعة اتحادية قوية، حرة كريمة: هناك زمرٌ يرومون عرضها على الهدم؛ زمر ليس في أفواههم سوى كلمات لا تتسع إلا لبضع أفكار قارة متصلبة، سليلةِ انخراطات بئيسة مستلَبة، تدور حول القطعيات العقدية والسلوكات العنيفة، وحول العرق والقبيلة والإثنية.

والمستخلص أن مفهوم التنوع الحق هو ما يمكننا تعريفه كقانون إطار حيث التواصل التعارفي والتبادلي يكون بمثابة قاعدة لا يستقيم سيرها ووظيفتها إلا بضمان السواسية والاستعراف المنتج الحق. وعليه، فإذا كان العلم من دون وعي (أخلاقي) عبارة عن خراب الروح كما قال فرنسوا رابلي، فكذلك الأمر في التنوع من دون البعد التواصليِّ الملازم والتناسج المقويِّ اللاحم الرتقي.

‫تعليقات الزوار

7
  • رشيد
    الإثنين 19 فبراير 2018 - 07:34

    وجدت هذا الموضوع كثيرون من تطرق اليه . وكلماته لم تعد تستعمل في لغتنا الفصحى الحالية . لتذكرة وللحفاص على اصل اىلغة . لانها حتى في الماضي البعيد لم يكن يستعملها الا الشعراء وبعض الكلمات المتناثرة على صفحات بعض المالفين . والهمذاني من كان بارعا في اللعب والتفنن بها وجمعها باب بمعنى سلك طريقه]
    تقول: فلان يتقيل اباه ويحذو حذوه وينزع اليه ويأخذ مأخذه ويتخلق باخلاقه ويتحلي بحليته ويتسم بسيماه .وتقول: فلان يأتم بفلان ويقتدي به ويستن. بسنته وتقول: فلان اشبه بأبيه من التمرة بالتمرة وتقول هما كفرسي رهان في المدح وكذندين في وعاء في الذم وتقول: سلك آخرهم طريق أولهم.
    [ الفحص عن الأمر ]
    يقال: فحصت عن الامر فحصاً وبحثت بحثاً ونقبت تنقيباً وفتشت تفتيشاً وسألت عنه احفى مسألة واستبرأته استبراءً.
    يقال: تعمق فلان في الفحص وامعن في البحث واحفي في المسألة .
    [ اللوم ]تقول: لمت الرجل لوماً وانبته تأنيباً وتقول: لام غير مليم وذم غير ذميم وانحى فلان علي فلان باللائمة واحال عليه بالتعنيف.
    كتاب . '

  • أبو هيام
    الإثنين 19 فبراير 2018 - 07:36

    مقال جميل ومفيد وصدق المثل القائل "رب خطإ شائع أفضل من صواب مهجور" .تعددت الأخطاء في لغة الظاد في مجتمعنا العربي في زماننا هذا والقليل القليل الذي يفطن لهذه الأخطاء والسلام.

  • Amazigh aqorar
    الإثنين 19 فبراير 2018 - 09:12

    Vous voulez simplement nous dire que que le Maghreb (Tamazgha)est arabe alors que la constitution "parle" d'union maghrébine..
    Et plus encore pour vous l'identité collective est arabe !!!!!!de quoi vous sortez ça ???ni la terre ni les traditions ni langue du peuple et de la terre ni l'histoire ni la génétique…….ne sont pas arabe s. ..s'il y a bien des racistes ce sont des gens comme ça qui veulent à tout prix nous rendre arabe alors que nous ne le sommes pas.

  • ابن عرفة ضفاف الرقراق
    الإثنين 19 فبراير 2018 - 09:58

    الاستعارة من القاموس الطبي : اسهال حاد او مزمن #مفرط أناس ملونين#اناس ملونون=اللون مرتبط بحام وسام الأول كان عاص لأبيه نوح فسود الله لونه اما سام فكان على هدى أبيه ورضاه فبقي على الفطرة التي فطر الله الناس عليها

  • باحث عن الحقيقة
    الإثنين 19 فبراير 2018 - 10:46

    لا , لا اتفق مع السيد المثقف فكثير من الامثلة التي قدمها هنا ليست كما ذكر، اذ لفظ المشترك كما هو عند اللغويين والاصوليين لا يحمل افخاخ وانما يدل على معان كل واحد منها معنى صحيح في محله ، كذلك حينما يقول كلمة ( بشر) هي كلمة فخ لانها تدل على بشر وأنذر ، الامر ليس كذلك فكلمة بشر تعني في مطلق اللغة البشارة ولا شيء غير ذلك لكن ورودها في القرآن بمعنى انذر انما جاء في سياق الحديث عن الكفار وكل مستحق للعذاب الذي بعمله في الدنيا يبشر بجني العذاب في الاخرة وكان كل واحد يبشر في الاخرة بنظير عمله في الدنيا
    فالصابح يبشر بالجنة والطالح يبشر بالتار لان العذاب والعقاب صار من جنس عمله
    ثم فيها شيء من التهكم بمن كانوا مصرين على الذنب في الدنيا وهم يعلمون انه مجانب للصواب
    وهناك امور اخرى كثيرة في هذا المقال تحتاج في نظري الى تصويب ونقاش وليس الكلام هنا مطلق

  • هو وكان
    الإثنين 19 فبراير 2018 - 11:26

    واخيرا وبعد ان تخمجت الامور يخرج الاستاذ الدكتور والفيلسوف بنحميش ليقول شيئا . اما نحن اسفين لانك لست منا نحن البسطاء لانك صرت من (الضفة الاخرى) ولو من باب الوهم . شكرا لك.

  • ael
    الإثنين 19 فبراير 2018 - 12:48

    Je fais des recherches sur le Dessin de la lettre Arabe .
    Ça m'a fait étudié l'anatomie faciale humaine .
    Ça non fini pas .
    C'est extrêmement enrichissant .
    L'Arabe est enigmatique .

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة