بنسالم حميش يكتب عن زواجه بيونانية وحبه للفلسفة الإغريقية

بنسالم حميش يكتب عن زواجه بيونانية وحبه للفلسفة الإغريقية
الجمعة 26 أكتوبر 2018 - 07:00

ما كنت لأشير إلى زواجي لو لم يكتس شيئا من الفرادة وحتى الغرابة. ووجه ذلك أني عوض القران بمغربية أو فرنسية شاء القدر أن تكون شريكة عمري يونانية المولد والمنشأ، وأن يؤكد لي مقولة “الزواج قسمة ونصيب”، بحيث تلعب المصادفة فيه أحيانا دورا ماهدا وميسرا. فكيف ذلك؟

جاري في قاعة المكتبة الوطنية بباريس، الذي ربطتني به صداقة مميزة، كان يونانيا. عشية رجوعي إلى موطني سلمني ملحّا عنوان واحدة من قومه اسمها ڤولا تعمل في سفارة بلدها بالرباط، وأوصاني بها خيرا.

وبعد تردد طال شهرين، أقدمت على طلبها بالهاتف، فأخبرتني موظفة بأن الآنسة ڤولا غادرت منصبها وعادت إلى أثينا. كان للمكالمة أن تقف عند هذا الحد لولا أني أخذت أستخبر مخاطبتي عن بلدها ووضعها الدبلوماسي، فأجابتني بفرنسية سيئة عما أطلب، مما شجعني على استئذانها في الحصول على اسمها وهاتفها الخاص.

ومن بعد توالت بيننا المكالمات ثم اللقاءات التي كنا فيها نتوسل أحيانا بلغة الإشارات، فعلمت منها أن من كان موكولا لها الردّ على مكالمتي الأولى ليس هي، بل امرأة مسنة مكلفة بالستندار خرجت حينها لاقتناء علبة سجائر.

ومعناه أن هذه السيدة لو لم تترك مكتبها لقضاء غرضها لما كنت تعرفت على خليفة ڤولا، أي بنايوطا التي ستصبح بفعل هذي المصادفات العجيبة زوجتي وأم ابننا وابنتنا.

وبعد سنتين من العيش معا في إطار علاقة حرة، ارتأينا أن نرسِّم قانونيا زواجنا، فتعلمت هي بفضلي الفرنسية والعامية المغربية، وقويت أنا بفضلها يونانيتي. ولقد حبّبتُ لها بلادي بقدر ما حبّبت لي بلادها. وفي عشرتها، وقفت على الحكمة في حديث نبوي شريف: «اغتربوا ولا تضووا»، وفيه قال الشاعر: «تجاوزتُ بنتَ العمِّ وهي عزيزةٌ/ مخافةَ أن يضوى عليَّ سليلي».

كما أن إقاماتي الصيفية بين الإغريق وجزرهم قد ألهبت توقي إلى الزيادة في معرفة تاريخهم وفلسفتهم العريقة، وألهمتني في بعض أعمالي الفكرية والأدبية. وكم كان بودي لو يسر لي القدر لقاء صديق المكتبة اليوناني، الذي فقدت أثره، لأقول له مشيرا إلى أسرتي الصغيرة: انظر يا نيكولاووس إلى ما تسببت فيه عن غير قصد ولا سبق إصرار!

بعد وطني، يحتل اليونان، تاريخا وحضارة، مكانة معتبرة في إدراكي ووجداني. ويعود ذلك إلى سببين رئيسين، علاوة على قراني سابق الذكر، أولهما: تكويني الفلسفي حيث قست مدى احتكاك المشائين العرب بالفلسفة الإغريقية مشخصة في المعلم الأول أرسطوطاليس (المترجم إلى العربية) الذي قال عنه ابن رشد «كمل عنده الحق»، وقرأ ابن سينا كتابه “ما بعد الطبيعة” أربعين مرة فلم يفهمه إلا حين اطلع على تفسير الفارابي.

وثانيهما: أني درّست مدة سنوات قرن الإغريق الخامس، قرن إنشاء الديمقراطية مع زعيمهم بيريكليس وتفتق عبقريتهم وتمخضها عن عطاءات عظيمة في شتى العلوم العقلية والتجريبية وفي الآداب والفنون، وكلها جعلت منهم رائدي الحضارة الغربية وماهديها. وقد كان للعرب فضل نقل تلك العلوم وعلومهم الخاصة إلى أوروبا الوسطوية التي بنت عليها نهضتها وتقدمها.

إن المنطقة التي أعرفها أكثر من سواها هي البيلوبونيز، جنوب غرب اليونان. حبتها الطبيعة بأرض فلاحية خصبة، تكثر فيها حقول الكروم وأشجار الزيتون. لي فيها مسكن بقرية جبلية تطل على بحر خليج كورانث، أرتاده مع أسرتي كل صيف للاستجمام ولممارسة الكتابة الروائية تخصيصا وتمتين معرفتي باللغة اليونانية الحديثة (ديموتيكي)، بفضل محادثة بسطاء الناس وأنسبائي وأيضا من خلال قراءة وحفظ نصوص شعرائي المفضلين (كاڤافيس، إليتس، سفيريس). وأذكر أني شاركت في ندوة بجزيرة رودوس حول كاڤافيس، إذ عقدت مقارنة بينه في ديوانه المفرد أشعار Piimata وبين أبي الطيب المتنبي حول ثيمة المالنخوليا وذكرى المتعة.

أما الصورة البانورامية التي ترسخت في ذهني عن اليونان فهي أن الانفجار الأعظم (بيگ بانگ) قد فعل بأرضها الأعاجيب قلما فعلها بأراضٍ أخرى؛ فجعلها بعد أن سكن وهمد تستفيق على جغرافية بالغة الصدوع والتضاريس، إذ أحدث فيها 3000 جزيرة (500 منها فقط مسكونة) وخلجانا عميقة، فصار الرائي حيثما ولّى وجهه فثمة بحر في مدى البصر، ذو زرقة ناصعة وشواطئ ذات مياه صافية سلسةٍ مسالمة، أو ثمة جبال متسلسلة توازي أخرى إن لم تستفرد ببروزها وشموخها، وتكسوها غابات أشجار متنوعة شتى؛ جبال تنحدر هضابا وسفوحا تعمرها قرى وبلدات وسواحل ومرافئ، وأغلبها يعج بالحركة والحياة.

بلاد صغيرة الحجم الجغرافي والسكاني، عظيمة الشأن حضاريا، صمدت أمام الأتراك وقوى المحور في الحرب العالمية الثانية، وأمام دكتاتوريات حرب أهلية شرسة إلى أن نالت استقلالها في 1821 و1832، ثم تمكنت من الانضواء في الاتحاد الأوروبي ومنطقة الأورو، ولو أن هذا الانضواء أدخلها منذ 2009 في أزمة مالية واجتماعية حادة جراء عجزها عن أداء قروضها لدى صندوق النقد الدولي الذي فرض عليها سياسة اقتصادية قوامها التقشف.

وكم حزنتُ لكون هذه السياسة ضربت في الصميم قدرة اليونانيين المعيشية، وضايقت حريتهم في استطابة الحياة والفرح بها! هذا وإن بعض بوادر الانفراج ومؤشراته أخذت، مؤخرا، في الأفق تلوح.

‫تعليقات الزوار

16
  • عبد الرحيم عبد الصبور
    الجمعة 26 أكتوبر 2018 - 07:11

    الزواج قسمة ونصيب. يونانية روسية مغربية فلسطينية فرنسية…. كلها أسماء ويبقى الود والصدق والإخلاص والعشرة الحسنة مفتاح كل نجاح. للأستاد حميش نقول وفقك الله .

  • Ztailovic
    الجمعة 26 أكتوبر 2018 - 07:15

    ماأجمل العالاقات الحرة سيدي الوزير. مسيرة أدبية موفقة

  • عائشة
    الجمعة 26 أكتوبر 2018 - 07:29

    كل حياة تسير خارج منهج الله هي حياة هوى وعبث واتباع لشهوات النفس …لا تدوم طويلا بصاحبها حتى يكتشف انه يسير خلف السراب.
    ولا اروع من العيش وفق ما جاء به خالقنا الحكيم الخبير

  • karim
    الجمعة 26 أكتوبر 2018 - 07:31

    اليونان من اجمل بلدان العالم جزر خلابة و جبال شاهقة وغابات وشواطئ و حرارة معتدلة اما عن التاربخ و الحظارة فهي احدا ركائز العلوم والثقافة و المدنية عيبها الوحيد ديونها الخارجية التي تؤثر علي حياة امواطن
    شعبها محب للحياة والسهر والاستجمام

  • محمد مغربي
    الجمعة 26 أكتوبر 2018 - 08:12

    اتساءل فقط هل مر في الحكومة المغربية وزير ينتمي لهذا الوطن قلبا و قالبا.

  • oum hiba
    الجمعة 26 أكتوبر 2018 - 09:05

    يمكنك سيد حميش ان تحذث عن حبك للفلسفة الإغريقية ذون الخوض في تفاصيل حياتك ا لخاصة تفا ديا لا ي احر اج ……….و…و…

  • السلاوي
    الجمعة 26 أكتوبر 2018 - 10:24

    البلد الذي تتغنى به هو البلد الوحيد في اروبا الذي يحرم فتح او بناء مسجد. اما الازمة المالية سياستهم هي السبب وليس الاتحاد الاوروبي، فبعجرفتهم و تكبرهم كان الراتب الشهري للموظف اليوناني يفوق 3 مرات راتب الموظف الفرنسي . كانوا يقولون انهم احسن شعب اروبي وانه ليس من المعقول ان يستوا في المعيشة مع اغنى شعوب اروبا لذلك كانوا يدفعون رواتب خيالية مقارنة مع دخلهم القومي . من حظهم ان الاتحاد الاوروبي تدخل لانقاذهم فهم كانوا على وشك رهن آثار الحضارة اليونانية وبيع الجزر (بضم ج،ز) للاستدانة من الروس

  • يوسف مناش
    الجمعة 26 أكتوبر 2018 - 11:13

     القاسم المشترك بينك و بيتي أنني أحب اليونان و شعبها المضياف  بدون أن أتزوج من بناتها و بدون أن اكسر الصحون أثناء الاقتران باحد بناتها كما هي العادة في اليونان و رغم انني لم يسبق لي زيارة و لو مرة في حياتي اليونان لكنني أحببت اليونان من خلال قصة حكاها لي صديق. القصة ببساطة ان محمد السادس اشترى لزوجته سالمى بيتا جميلا في جزيرة يونانية يطل على البحر الأبيض المتوسط  و اصبح الملك يتردد باستمرار على هذه الجزيرة حتى أصبحت ساكنة الجزيرة تشتاق لزيارته و تعلق قلب الساكنة بهذا الملك الشاب و دو الأخلاق الطيبة حتى أصبح واحد منهم  حيث تعلم لغتهم و عاداتهم و مع مرور الوقت علمهم جميع عادات المغاربة من طه الكوسكوس يوم الجمعة. …جمعة مباركة لكل المغاربة من دار الغربة !!!

  • حالم باليونان
    الجمعة 26 أكتوبر 2018 - 11:33

    يا سيدي هذه الارض خلقت للانسان، ولنا ان نسير فيها وأن نعمر سهولها وجبالها، وان نمد القلب للحب ميمنة وميسرة فاينما وجد نصفه وطاب له المقام قعد وارتوى ممن أحب وأنجب الولدان، سيدي برادة فخور بتجربتك انا بتجربتك الادبية بل وحتى تجربتك الانسانية ما بيننا قواسم غير انك تجاوزتني في واحدة المشترك اني دائم التفكير في بلاد اليونان وحضارتهم وعظمة العقل المقدس وهنا نلتقي على ضفافها ، المختلف انك تجاوزت حب الارتباط بالفلسفة الى قران بانثى هي امتداد لها على تلك الارض وحتما سترتوي منها شغف الحب والقراءة وتعدد الثقافة، ما أطيب ان نؤمن بأن هذه الارض لنا وأن حدودها وهم من صنع الاقوياء

  • مغربي باليونان
    الجمعة 26 أكتوبر 2018 - 11:35

    نعم يا بنسالم هكذا يجري المسؤولون المغاربة والذين هم في مناصب هامة في الدولة وراء الاقتران بأجنبيات فقط للاحتماء بالجنسية الثانية وجواز سفر احمر رغبة في السفر بدون قيود جمركية والاستمتاع بشمس ومناظر ارض الإغريق وجزرها الخلابة.

  • عجبا
    الجمعة 26 أكتوبر 2018 - 12:22

    السيد حميش ما فائدة أن تحكي شيئا من سيرتك الشخصية خاصة إذا كانت من قبيل الممنوع شرعا حين ذكرت أنك عشت مع السيدة علاقة حرة خلال سنتين أي بدون عقد زواج فهل هذا مما يجوز ذكره أم كان الواجب المرور على فترة خاطئة في حياتك وقد سترك الله فيها ،وقد قال النبي صلى :"كل أمتي معافى إلاالمجاهرين يبيت الرجل يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عليه". السيد حميش كلما تقدم بالإنسان العمر فهي فرصة لمراجعة الذات قبل النهاية.

  • محمد السني
    الجمعة 26 أكتوبر 2018 - 12:26

    الاستاذ والمفكر الكبير حميش.. انت الذي كتبت اجمل الروايات المغربية العربية, ننتطر دائما منك الجديد, لكن متى ستكتب عن شخصية تاريخية عملاقة كعبد الكريم الخطابي. شكرا

  • المعلم
    الجمعة 26 أكتوبر 2018 - 12:45

    احبك أستاذي بقدر حبي للفلسفة.. وأرى في شخصكم صورة االمثقف المغربي الذي ينبغي ان يكون … سعيد بالاطلاع على هذا الجانب من حياتكم الخاصة والتي تزيد في تقديري لكم .

  • سعيد،المغرب الأقصى
    الجمعة 26 أكتوبر 2018 - 13:09

    ’وقفت على الحكمة في حديث نبوي شريف: «اغتربوا ولا تضووا».‘،تقصد ’اغتربوا تضووا‘ و ليس ’لا تضووا‘،هذا ليس بحديث،و لا أصل له،و هذا ما يقوله فقهاء،فالقرآن الحكيم يأمر بإيتاء الأقارب و جعل المعروف فيهم أولا،و أم المؤمنين خديجة من أقارب الرسول،اللهم صل على النبي و سلم تسليما،عن أبي هريرة قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع،

  • مواطن مغربي
    الجمعة 26 أكتوبر 2018 - 19:22

    حكاية جميلة. يعجبني هذا الغمز اللطيف على البداوة المستحكمة. دمت متألقا يا صاحب «الجرح والحكمة»…هل زرت قبر أبيقور؟

  • اماكادرور
    السبت 27 أكتوبر 2018 - 01:15

    ان كنت فعلا منفتحا على ثقافة الإغريق التي أدت من الليبية والعفوية ..لماذا تحتقر تقافتك الامازيغية…ابي ت أو قبلت تبقى تقافتك…احتقارك لها احتقار لذاتك ولكن لاتشعر. .. .

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس