"ديوان المائدة" ـ7ـ .. المضيرة تُشيد بالحضارة وتترجرج في الغَضارة

"ديوان المائدة" ـ7ـ .. المضيرة تُشيد بالحضارة وتترجرج في الغَضارة
الجمعة 1 ماي 2020 - 18:00

في شهر رمضان الكريم ينسحب الطعام من الموائد في النهار، فيعوّض نفسه بأكثر من صورة، وحيثما أمكنه أن يفعل.

وهكذا تنبعث وصفات من الراديو، وبرامج تُبث على القنوات التلفزية، وصفحات خاصة بمختلف “الشهيوات” تنشرها الجرائد والمجلات، وصور لأطباق شهية تملأ مواقع التواصل الاجتماعي، كما أن الطعام بات موضوعا يثار في المكالمات الهاتفية بين الأهل والأحباب..

ولا يعود هذا الطعام إلى نفسه من جديد إلّا بحلول مائدة الإفطار في الشهر الفضيل.

جريدة هسبريس الإلكترونية ارتأت أن تتحف قراءها خلال شهر رمضان المبارك بحلقات من كتاب “ديوان المائدة” للشاعر والكاتب المغربي المتألق سعد سرحان، وهو يقدم صورا غير مألوفة للطعام .. شهية طيبة:

المائدة 7

ليس الأكل مطلبًا بيولوجيًّا فقط، يسدُّ ما فغر الجوع، ويمد الجسدَ بحاجته من الغذاء، فيقيم أوده ويضمن له من السعرات الحرارية ما يؤمن نشاطه، ومن الفيتامينات والأملاح المعدنية ما يقيه الأمراضَ ويكفل له العافية… وإنما هو أيضًا إحدى المرايا الصادقة التي تعكس بجلاء كثيرًا من سلوك الإنسان وخصاله، وقد تعكس كذلك صورةً مقربةً للمجتمع بكامله.

ومع أن لكل مجتمع مطبخه الذي يعتز به وأكلته الشهيرة التي يفخر بها، فهولا يتورع عن استعارة أكلات أخرى من مطابخ غيره. ولعل الأمر ليس جديدًا كما قد يفهم الذين يعزون ذلك إلى عولمة الأكل، فقديما عرف العرب الزردة والسِّكْباج والطَّباهِج. وهي من صميم مطبخ الجيران، المطبخ الفارسي أقصد.

في عصرنا الحالي، حيث صار المطبخ يفضي إلى المطعم والمطعم يحمل اسمًا مزودًا بأضواء النيّون، أصبح للأكل وظائف أخرى لها نكهة الاقتصاد والسياحة وغيرهما من النكهات، وأصبح بإمكان هذا البلد أو ذاك أن يسند لأكلته الأشهر مهمّةَ سفير فوق العادة لا يملك من أوراق الاعتماد سوى اللعاب الذي يُسيله اسمه اللذيذ.

ولنا فقط أن نتأمل نموذج الماكدونالد، مثلا، لنقف عند الكثير من الحقائق. إن مجموع مساحات مطاعم ماكدونالد المنتشرة كفطر عملاق في مختلف أقطار العالم يساوي مساحة بلد صغير، وهو بذلك نوع ذكي من الاحتلال. وإن مجموع مداخيله ليفوق الناتج القومي لكثير من الدول. أما اسمه، اسمه فحسب، فأشهر من أسماء القادة والأبطال والساسة والنجوم… أقصد النجوم فعلًا لا مجازًا.

لقد نجحت أمريكا، وهي ذات مطبخ طارئ، في أن تُحَوِّل أكلةً ملفَّقَة إلى اقتصاد قائم بذاته، وذلك بفضل دهاء طباخيها (هل هم طباخون فقط؟) الذين يتصدر الماركوتينغ قائمة مواهبهم القصيرة جدًّا.

لكم تمنيت لو أن هذا النجاح كان من نصيب أكلة عربية. فنحن العرب لنا تاريخ طويل وحكايا كثيرة مع الأكل: عندنا أشعب وحاتم والمروزيُّ وبنو أنف الناقة. عندنا طعام لكل مناسبة، فالقِرى للضيف والتحفة للزائر واللهنة للمسافر والمأدبة للدعوة والخرسة للولادة والعذيرة للختان والوليمة للعرس والوضيمة للمأتم. عندنا الكسكس والكباب والشاورما والكشري والتبولة والباقلى والثريد والبسطيلة وكعب الغزال… عندنا طرق معبدة منذ مئات السنين نحو الهند حيث كانت قوافل أسلافنا مستعدة لمقايضة التوابل بالذهب. فلماذا لا ترصع أضواء النيون إحدى أكلاتنا في ربوع الآخرين؟ وأية أكلة مرشحة لهكذا إشعاع؟

سوف أحتاج رصيدي من الموضوعية كاملا حتى أستبعد الكسكس. فهو يقدم عادة في قصعة ثقيلة تقرفص وسط المائدة أو على الأرض مُجبِرة آكليه على التحلق حولها جاعلة بذلك من نفسها محورًا ورمزًا لثقافة التشارك، فضلا عن أنه -أي الكسكس- مرتبط وجدانيًا بأيام الجُمَعِ والمناسبات وحلقات الذكر… إنه طعام ثقيل وثابت وجماعي ووَرِعْ… فيما الماكدونالد خفيف ومحمول وفردي ونزق… إنني أستبعد الكسكس مكرها.

وما له الكُشَري؟ لنتخيل، أيضًا، عربات الكشري وهي تجوب شوارع طوكيو وبكين وبومباي. وملايين الأيادي تمتد إلى هذا الأكل الخلاسي الذي نتج عن زواج عرفي بين الرز الآسيوي والعدس المصري.

ولنتخيل، ليس أخيرًا، العائد المادي الذي كنا سنجنيه لو سلَّطْنا طعامنا على العالم.

إذا كانت أحلام التوسّع هي ما جعل أمريكا تغرس قواعدها العسكرية في بعض مناطق العالم، فإن ذكاءً استثنائيًا هو الذي جعلها تحوّل المأكل والملبس واللغة… إلى قواعد اقتصادية مبثوثة في كل أرجاء المعمور.

لقد كنا نحن العرب سباقين إلى التوسع، فبسطنا نفوذنا من بخارى إلى الأندلس، وأخضعنا للجزية أقوامًا كثيرة، وسككنا النقود الذهب. لقد سُدْنا قرونًا، فما جعلنا لباسنا سيدًا ولا جعلنا أكلنا يسود. لو كان أسلافنا في عز حضارتهم قد فعلوا، لكانوا أخرجوا المضيرة من مقامتها، فهي “تثني على الحضارة وتترجرج في الغضارة”، ولكانوا أنشأوا لها مطاعم لا تغيب عنها الشمس. ولربما واتَتْهم القدرة على الامتنان والعرفان بالجميل فأطلقوا على بعض فروعها أسماء الهمذاني وعيسى بن هشام وأبي الفتح الإسكندري.

ليس الكيتشب ولا صلصة الخرذل ما يضفي على وجبات الماكدونالد لذة مستعارة، وإنما هو البهار الفلسفي ما جعل الوجبات تلك تدر الذهب. وهذا البهار ليس سوى الوقت الذي لا يأخذه مطبخنا بعين الاعتبار، مثلما لا يأخذ بعين الاعتبار حرية الفرد حين لا يرى فيه سوى حبة ثابتة في سُبْحَة العائلة وهي تبسمل حول مائدة الطعام.

‫تعليقات الزوار

5
  • ahmed
    الجمعة 1 ماي 2020 - 18:24

    شكرًا أستاذ سرحان، ذكّرتنا بالمقامة المضيرية وغيرها مما جادت به قريحة بديع الزمان الهمذاني، أو بالأحرى مما وصلنا منهان مثلما ذكرتنا بالكبير الطيب الصديقي وما قاله عنها في أحد أعماله.
    شكرًا هيسبريس.

  • غليض سابق
    الجمعة 1 ماي 2020 - 18:33

    ابتعدو عن الخبز والمعجنات والارز وعوضوهم بالعدس او الحمص او سلاض مطيشة وخيار مثلي فقد فقدت 7kg وصرت اكثر رشاقة في 3 اشهر

  • الطبخ فن
    الجمعة 1 ماي 2020 - 21:56

    الطبخ العربي وخصوصا المغربي الصحي والفائق في اللذة مثلا الايطالي بدون فرماج لاشيء والفرنسي سوى الزبدة والمقلا الاسبان نصفه عربي مغربي الانجليز والالمان لامطبخ لهم اما الهندي توابل مقلية في الزيت الياباني السوشي ولا غير اما الاكل الصيني نكهات مصنعة وسكر التركي كثير ومتنوع وبدون لذة الشرق الاوسط الحمص وبابا غنوج والطبولة وفلافل واوراق العنب والفتوش مع صلصلة اللبنة والطيجنة والخيار والثوم / الاستعمار العثماني كان يأخذ كل محاصيل القمح من كل الدول العربية المستعمرة للجيش العثماني وما تبقى من حبوب كانوا العرب يتفنون في طبخه وهي مطلوبة الان بكثرة للنباتيين

  • salim
    الجمعة 1 ماي 2020 - 23:07

    كنت سأتفق معك بدون نقاش شاعرنا العزيز سعد سرحان فيما ذهبت إليه من استبعادك للكسكس بسبب عدم أخذه بعين الاعتبار للبهار الفلسفي وهو الوقت (وقصدك تقليص الوقت أثناء الاعداد وأثناء التناول) لو أنك نشرت مقالتك الرائعة قبل كورونا. أما اليوم، بعدما اكتشفنا أن الوجبات السريعة ومعها الوجبات الباردة هما من أسباب ضعف المناعة لدى مواطني العالم، فقد صرت مقتنعا بأن الأكل يستحق أن نتعامل معه بجدية أكبر ونخصص له وقتا أكثر مما اعتدنا إن على مستوى التحضير أو على مستوى التناول. وهكذا فإيقاعنا المغربي مناسب لا ضير فيه، وما أسعدنا بالكسكس وغيره من أطباقنا الرائعة حتى ولو لم تتعولم. وعموما كما يقول المراكشيون: " كوزينتنا مزيانة، لهلا يفيّق بها غشمة". فلنستمع بها ولنحافظ عليها وشكرا لك على المقالة الشهية.

  • كنز
    السبت 2 ماي 2020 - 14:02

    رائع أستاذ سرحان..استمتع في كل مرة أقرأ له..مشكورة هسبريس على مشاركتنا هاته الذرر.

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة