"فتنة الكلام" في الأمر الجامع للأمة .. مراعاة الحال وتقدير المآل

"فتنة الكلام" في الأمر الجامع للأمة .. مراعاة الحال وتقدير المآل
الأحد 3 ماي 2020 - 05:00

يعتبر شهر رمضان الفضيل وأجواء الحجر الصحي فرصة سانحة للتعرف على العديد من نخب المغرب العلمية من خلال كتاباتها واجتهاداتها، خصوصا وأن المتلقي متلهف لقراءة الكلمة العالمة الموجهة والصادقة والصادرة عن أئمة العلم ورموزه.

وسنلتقي طيلة شهر رمضان المبارك مع مقالات قاصدة وموجهة، عكف الدكتور إدريس ابن الضاوية على كتابتها بلغة علمية رصينة وبيان عربي قلما تجده اليوم، يذكرك بالأصيل من الكتب والمؤلفين.

فتنة الكلام في أمر الأمة الجامع بغير علم ولا كتاب مبين

وبعد، فإن الذي يؤلم كثيرا ـ في هذه الزمن الذي فتح فيه باب الكلام في مختلف الموضوعات بلا شرط ولا قيد ولا خشية عاقبة ـ جسارة بعض الناس للبث في شأن الأمن والخوف المتعلق بالنظام العام دون امتلاك أسباب ذلك التي ترجع أصالة إلى معرفة فن البيان، وإدراك مصادر النص والوعي بطرق إثباته والفهم العميق لكيفية تنزيله والتبصر لإمكان وجود معارضه، ولحاظ آثار القول به على أمن الأمة وخوفها المؤسس على ثوابتها الدينية واختياراتها الفقهية المؤصلة.

إن من علامات فقه المتكلم في الدين استبصار ما ينبغي أن يراعى من الكليات المستفادة من النصوص المحكمات التي تقضي على المتشابهات وصنوف الأخبار المتناقلة في مساق الروايات، التي جاءت آحادا لا يُبلغ بها أحيانا اليقين المطلوب في الاعتقادات ومسائل العبادات والمعاملات التي لها طابع التعميم.

ومن أمثلة ذلك في واقعنا هذه الأيام، تجرؤ بعضهم على إنكار الحجر الصحي على عموم المواطنين وتقنين تطلب المعاش على الراغبين الذي اقتضته ضرورة هذا الطاعون الجارف المصطلح عليه بكورونا (كوفيد 19)، الذي لم تكد تخلو منه أرض في هذا العالم الفسيح، الذي ظهر عجزه إلى الآن عن دفع عدواه المؤلمة المتيقنة المترتبة عادة على اختلاط الناس بمن يحتمل أن يكونوا مصابين أو عن الاحتكاك بهم ظنا أنهم من المبتلين.

ومن أمثلته أيضا استهجان آخرين إغلاق المساجد في وجه المصلين، وتعطيل وظائفها إلى حين، حفظا لأرواحهم ودفعا لخوفهم وتحقيقا لأمنهم وسكينتهم؛ لأن ذلك في زعمهم مخالف لواجب تعظيم شعائر الدين وتخريب لبيوت الله المعدة للمتقربين ومباين لما يوجبه أصل حفظ شعائر أهل اليقين.

لذلك خاطروا بدعوة الناس إلى التمرد على قرارات حكومتهم وغامروا بالطعن في فتوى مشيختهم وشذوا بالخروج على إجماع بني قومهم الذي اقتضاه منهم الالتزام بشرط البيعة الشرعية القاضية بالحفاظ على أرواحهم وأمنهم وسكينتهم، الملزمة بالتقيد ببنود الطاعة الواجبة في حقهم نحو أميرهم.

والذي حملهم على ذلك عدم استبصارهم ما ورد في صحيح الأثر عن النبي صلى الله عليه سلم أنه قال: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه». [البخاري برقم 5729]، وقوله شرفه الله وكرم: «لا يوردن ممرض على مصح». [البخاري برقم 5770].

إن من علائم الصدق في النظر والتنزيل التي لا يخطئها المتكلم بعلم حق علم، إيكال الأمر في هذا الشأن العلم لمشيخة العلم التي تراعي ما تقتضيه أمانات الدين الملزمة من ضرورة ملاحظة الأحوال العامة بالحكمة فلا تفصل فيما يعرض لها بحسب ما تقتضيه النازلة من التدخل المراعي للمصالح المتعلقة بالفرد أو الأسرة، أو الأمة، أو مجال الإنسانية فتتبصر أولويات الناس من خلال ملاحظة مهماتهم ومصالحهم ومفاسدهم، وأصول اجتماعهم، عملا بقول الله تعالى الذي يعد أصلا في مراعاة الأحوال: “وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون” [المائدة: 48].

ومن أمثلة ضرورة مراعاة الحال التي ينبغي للمتفقه في الدين أن يجعلها بين عينيه ليقيس عليها أشباهها، قول ابن رشد رحمه الله: “كان ابن شهاب ـ الزهري ـ إذا سئل يستفهم السائل ويطاوله، فإن ظهر له أنه لم يقتل يفتيه بأنه لا توبة له، وإن تعرف بأنه قتل أفتاه بأن التوبة تصح. ثم قال: وإنه لحسن من الفتوى، فهكذا ينبغي مراعاة الأحوال في تنزيل الأقوال، فإن من لم يقتل يجب التشديد عليه وسد الباب في وجهه، ومن قتل ينبغي ترغيبه في الرجوع إلى الله”. وفي مراعاة هذا الأصل والاقتداء بهذا الإمام فوائد كثيرة في الحث عل الخير، والكف عن الشر، والحكيم من ينزل الأشياء في منازلها، أعمالاً كانت أو أقوالاً.

إن مما ينبغي أن يراعى مع الأحوال تقدير المآل الذي يعد عند مشيخة العلم المؤهلة للكلام في الشأن العام عنوان الفقه، وأساس الصدق في إحسان تنزيل الأحكام: والمراد بالمآل، التحفظ من الاكتفاء باعتبار حال الفعل دون آجله بإجراء الأحكام على مقتضى ظاهرها دون لحاظ آثار الحكم في الآجل التي قد تكون على خلاف المقصود منها عند التطبيق.

وهو صنيع البصراء الجدراء بمشيخة العلم تأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي علم من منهجه في ترتيب الخيرات اعتبار المستقبل في تنزيل الحكم على الواقع، ومرن على اعتباره في مناسبات متعددة ليبين للفقيه ضرورة الاحتياط للمآل وعلاجه بما يحقق المصلحة المرجوة من إطلاق الحكم. منها قوله لعائشة رضي الله عنها: “لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية، لهدمت الكعبة، وجعلت لها بابين”. فراعى صلى الله عليه وسلم مصلحة تأليفهم على مصلحة إدخال ما خرج من البيت عن رسم قواعد إبراهيم عليه السلام.

وقد عد الإمام الشاطبي رحمه الله اعتبار المآل من مقاصد الشريعة عندما قال: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم مشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة.

ولو تبصر هؤلاء الأحداث المُحْدِثون الأحوال واعتبروا ببعد نظر أصل المآل ما دعوا من تحتهم من الأغمار للخروج عن قرارات أمتهم، ولا استقبحوا إغلاق أماكن تعبداتهم الراجع مؤقتا إلى حماية أرواحهم وأرواح أحبائهم وأقربائهم التي أعظم الله من شأنها في قوله سبحانه: “من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا” [المائدة: 32].

‫تعليقات الزوار

9
  • AKRAM
    الأحد 3 ماي 2020 - 05:07

    الله يخلف على الكفار للي دارو لينا الأنترنيت لنعبر عن رأينا ، أما كون هاد الناس قطعو لينا للسان مع الختان.

  • مجيهدي
    الأحد 3 ماي 2020 - 05:45

    فيروس كورونا تكلم عنه الدكتور الحسين الوردي وزير الصحة سابقا بتفاصيله وجزئياته وحذر منه سنة 2012 لكن كلامه لم يؤخد بعين الاعتبار لانه عربي ..والفيديو الدليل القاطع موجود

  • safi
    الأحد 3 ماي 2020 - 05:52

    بعض الشباب هداهم الله أصبحوا مريضين نفسيا تأثروا بالمخدرات فأصبحو ذو مضطربين نفسيا لا يعون أحيانا مايقولونه وما يكتبونه بسبب اضطرابهم في شخصيتم.
    إذ لايجب أن نتفاجأ بأقوالهم و تمردهم على الدولة والمجتمع بما أنهم لا يتحكمون في كلامهم،.

  • مغربي
    الأحد 3 ماي 2020 - 06:05

    لاحظت في هذا المقال أمران:
    1أولهما استدلال الدكتور بصحيح البخاري وهو لا شك أهم مصدر لأحاديث السنة الصحيحة بإجماع علماء الإسلام،لكن الغريب في الأمر هو أنه نفس جريدتكم مؤخرا كانت تنشر مقالات لكاتب مغربي تدافع عنه وعن باطله ،زعم أنه توصل بفرط ذكائه للقضاء على أسطورة البخاري رحمه الله تعالى(مر علماء أفذاء من علماء المالكية رحمهم الله كالقاضي عياض وابن عبد البر وسحنون وابن ابي زيد القيرواني….)لم يقل أحد منهم بمثل قوله بل اعترفوا بإمامة البخاري في الحديث.2 الأمر الثاني :استدلاله بالشاطبي مصنف كتاب الإعتصام الذي كان من أشد محاربي البدع والمحدثاث وكان يدعوا للتمسك بالكتاب والسنة بفهم سلف الأمة،الشيء الذي تدعون لخلافه باتهامكم لكل ماهو تكفيري أو إسلام سياسي أو جهادي أنه الكتاب والسنة بفهم السلف الصحيح وتحاربونه منذ سنوات في جريدتكم وتتهكمون عليه.فما الذي جعلكم تلعبوا على الحبلين تارة تستدلوا بقوانين المنظمات الحقوقية لضرب الإسلام وتارة تستدلوا بأهل البدع لضرب السنة الصحيحة …

  • من بوعرفة
    الأحد 3 ماي 2020 - 06:17

    هذا اجتهاد و جزاكم الله خيرا عليه لانه حفظ ارواح المسلمين و ضمن سلامتهم …لكن ما لاحظته عدم وجود نص استشهادي صريح يقضي باقفال بيوت الله و بالغاء صلاة الجمعة عند انتشار الطاعون هل هناك بحث عميق من قبل اهل العلم في ذلك ام اكتفاء بهذه النصوص المذكورة في المقال مع اجتهاد في تزكية هذه الاجراءات…

  • سمير
    الأحد 3 ماي 2020 - 07:37

    محاضرة قيمة ، حياكم الله، اضن انه يجب التعامل بالحسنى مع هؤلاء. عشقهم للعبادة و الراحة في الصلاة اللتي يجدونها في المساجد و افتقادهم هذه العادة يدفعهم الى نفي ما يمليه العقل و الحكمة. و لكن في رايي الحوار معهم و المعاملة بالحسنى و الكلمة الطيبة تنتصر بمشيءة الله في النهاية طبعا بعد الحزم اللا زم لتجنب الفتنة. فتنة الكلام لم يسلم منها حتى الاولون من المسلمين . يجب الكثير من الصبر و المثابرة في الحوار حتى يتشجع غيرهم للتعبير حتى عن ما نكره حتى لا يضمروا في الخفاء و يتحولوا الى الفعل بدل القول لا سمح الله.

  • مواطن2
    الأحد 3 ماي 2020 - 10:12

    لم يكن الدين في بلادنا في يوم من الايام هو السبب الرئيسي في ما تطالب به فئة من المواطنين.تلك الفئة التي يدرك دعاتها مفهوم المقاصد الدينية في الدنيا.وهم يعلمون انهم يقصدون امورا اخرى مستغلين ضعف الجانب الديني عند الكثير من المواطنين الابرياء.هناك من لا يحفظ سوى آيات قليلة يصلي بها.ولا يعلم اي شيء عن الباقي باستثناء اركان الاسلام وعدد الصوات في اليوم.انهم يستغلون المواقف لأغراض يدركونها جيدا.علماء الدين بالاجماع الذين يخافون الله اتفقوا على الحجر في زمن الوباء مستشهدين بالقرآن الكريم وسنة رسول الله واقول المجتهدين من العلماء. من هنا ياتي دور اولي الامر للفصل في الامر وبقوة الدين.

  • بادو
    الأحد 3 ماي 2020 - 10:24

    إذا كان اعتبار المآل من أولويات الشريعة الإسلامية ، في مجال تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع ، فإن فقه الترجيح معتبر هو الآخر في الشريعة خاصة في مثل هذه الظروف التي يصعب التكيف معها دون الرجوع إلى الفقهاء وأهل الحل والعقد في الأمة ، فإذا استمر هذا الوضع فكيف يمكن للإنسان أن يختار الطريق الأصوب للاستمرار في العيش ؟ هل يختار الموت بالجوع ؟ أم يختار مواجهة المرض والخروج إلى السعي في طلب الرزق ؟

  • farid
    الأحد 3 ماي 2020 - 10:51

    عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيَأتي علَى النَّاسِ سنواتٌ خدَّاعاتُ يصدَّقُ فيها الكاذِبُ ويُكَذَّبُ فيها الصَّادِقُ ويُؤتَمنُ فيها الخائنُ ويُخوَّنُ فيها الأمينُ وينطِقُ فيها الرُّوَيْبضةُ قيلَ وما الرُّوَيْبضةُ قالَ الرَّجلُ التَّافِهُ في أمرِ العامَّةِ) [صحيح].

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات