التخطيط الاستراتيجي وتدبير الأزمات

التخطيط الاستراتيجي وتدبير الأزمات
الثلاثاء 7 أبريل 2020 - 01:36

الأزمة هي موقف يواجه صناع القرار، تتلاحق فيه الأحداث وتتشابك الأسباب بالنتائج، ويزيد الأمر سوءا إذا ضاعت وضعفت قدرة صناع القرار في السيطرة على ذلك الموقف وعلى اتجاهاته المستقبلية.

ومن المعلوم أن العناصر الأساسية للأزمة، تتجلى كالتالي:

أولا، عنصر المفاجأة: إذ إن الأزمة تنشأ وتتفجر في وقت مفاجئ غير متوقع بدقة، وفي مكان مفاجئ أيضا.

ثانيا، عنصر التهديد: تتضمن الأزمة تهديدا للأهداف والمصالح في الحاضر والمستقبل.

ثالثا، عنصر الوقت: يكون الوقت المتاح أمام صناع القرار ضيقا ومحدودا.

ومن العوائق التي تعيق الاكتشاف المبكر للأزمة وتحول دون إصدار إنذارات مبكرة تنبئ بقرب وقوعها، حجب البيانات والمعلومات المتعلقة بالأزمة المحتملة، لأن في امتلاك تلك المعلومات الحقيقية تكون للدول والمنظمات القدرة والوقت المناسب لاتخاذ القرارات المناسبة، ولدراسة نقاط الضعف والتغلب عليها. وبالتالي، فحجب البيانات والمعلومات يؤدي إلى غياب إشارات الإنذار المبكر، كما أن عدم الاستجابة المناسبة والفعالة في الوقت المناسب للأخطار المحيطة والمحتملة يؤدي بالدول والمجتمعات إلى الوقوع في الأزمات، قبل أن ترصد أي إشارة انحدارية مبكرة خاصة بهذه الأزمة.

وبالتالي، فهذه الأزمات تعرض الدول إلى تهديدات وضغوط كبيرة من جانب أطراف متعددة، مما يؤدي إلى التأثير في السير العام للمرافق الاقتصادية والاجتماعية والإدارية…، وإلى خلل عام في الاقتصاد والتنمية. ولقد أثبتت الدراسات أن الدول التي لا تمتلك خططا لإدارة الأزمات تعاني من الكثير من المشاكل والتبعات لمدة سنين طويلة. لذا، نجد أن التخطيط الاستراتيجي يفرض نفسه في هذا المجال، فهو جهد منظم ويهدف إلى الوصول إلى قرارات ونشاطات أساسية، مع التركيز على المستقبل، وهو أسلوب لمواجهة الأزمات والتكيف مع التغيرات المفاجئة وغير القابلة للتوقع المسبق، إنه استخدام الوسائل المتاحة درءا لتجنب المخاطر والأزمات.

لقد عرف بيتر دركر (drunker) التخطيط الاستراتيجي بأنه عبارة عن عمليات اتخاذ قرارات مستمرة بناء على معلومات ممكنة عن مستقبلية هذه القرارات، وتنظيم المجهودات اللازمة لتنفيذ هذه القرارات، وقياس النتائج في ضوء التوقعات، مما يجعلنا نستنتج أن التخطيط الاستراتيجي يقوم على أربعة عناصر هي:

أولا، تحديد الأهداف المستقبلية

ثانيا، عملية منظمة مستمرة

ثالثا، المقابلة بين البيئة الداخلية والبيئة الخارجية

رابعا، اتجاه وطريقة وقناعة لدى صناع القرار بجدواه وأهميته

هكذا يتضح لنا أن إدارة الأزمة تتطلب تخطيطا استراتيجيا، ينطلق من تحديد الأهداف الرئيسية والتحليل المستمر للأزمة وتطوراتها والعوامل المؤثرة فيها، ووضع البدائل والاحتمالات المختلفة وتحديد مسارها المستقبلي من خلال التنبؤ والاختيار الاستراتيجي للفرص الموجودة، وهذا ما يطلق عليه “الاستراتيجية الوقائية”. كما يجب أن يكون هناك وعي بضرورة التكيف المسبق مع التغيرات المفاجئة، بمعنى يجب على الدول أن تضع جميع الاحتمالات في خططها الاستراتيجية بغية تجنب المخاطر والأزمات.

إن عملية التخطيط الاستراتيجي عملية مستمرة، وليست لحظية أو مؤقتة أو ذات طابع سياسوي. إنها عمل مؤسساتي يخضع للتقييم المستمر تفاديا لأي مشاكل محتملة، وهي تحتوي على مجموعة من المؤشرات والمعايير، ويجب أن تكون المخططات الاستراتيجية هجومية مفتوحة، وليست دفاعية مغلقة، كما أنها ليست عمليات ردود أفعال، وليست انكماشية جامدة، بل يجب أن تكون عبارة عن عمليات تسارعية مرنة، تعتمد على عمل جماعي يضع المصلحة العليا للوطن فوق كل اعتبار، يستخدم الساهرون عليه الطرق العقلانية في تحديد الخيارات، في إطار عمل شمولي متكامل يمتلك رؤية نسقية لما يريد إن يصل إليه، وأن يمتلكوا القدرة والمهارة على التدخل الناجع، مع وضع تخطيط يراعي الأولويات والحاجيات والإمكانيات البشرية والمالية.

وتجدر الإشارة إلى أن مرحلة التقويم تعتبر أساسية وضرورية لأنها تساهم في إعادة النظر والتصحيح في مسار التنفيذ بغية تحديد مواطن القصور وتدارك مكامن النقص، كما يجب أن نستحضر مسألة في غاية الأهمية أثناء التخطيط وقت الأزمات، وهي أن الديمقراطية تظل دوما حلا لكل المشكلات، بما في ذلك الطارئة منها، كما يقول ذلك الفيلسوف الفرنسي “مارسيل غوشي” في حوار له مع جريدة “le point” الفرنسية مؤخرا، ويعطي كمثال على ذلك، النموذج السياسي الصيني، المتمثل في احتكار الحزب الواحد للقرار السياسي، مما أدى إلى الكارثة العالمية الحالية- وفق غوشي.

ويرى مارسيل غوشي أنه من خلال الديمقراطية كان يمكن السيطرة على الوباء بشكل أكثر فعالية، لكن صدمة كورونا بينت أن كل الدول وجدت نفسها تتعلم من جديد كيف تمارس سيادتها الوطنية، كما أنه قد تمت البرهنة على أنه عندما نكون أمام حالات مستعجلة، فإن القرار الوطني يكون أكثر فعالية. وها نحن نعيد اكتشاف أن السيادة ليست خيارا مجردا، ولكنها تتوافق أولا مع ضرورة وظيفية: منح المواطنين ثقتهن للسلطة، وأيضا معرفة دقيقة بمجالات تطبيق هذه السيادة.

إن التاريخ المفصلي الذي نعيشه اليوم جراء أزمة كورونا غني بالدلالات والعبر، لقد بتنا نلاحظ أن الدول التي كانت تتسابق على التسلح أصبحت تتسابق وبشكل محموم على الكمامات! إننا نشهد تغييرا في كل الاتجاهات، مما يتطلب منا تخطيطا مبدعا واستراتيجيا للقادم من الاحتمالات، مع العلم أننا اليوم ليس لدينا ما هو أكثر استعجالا من السيطرة على أمواج التسونامي الصحية والاقتصادية التي تضرب العالم، لأنه في حال فشلنا في ذلك، سنواجه سنوات قادمة مظلمة للغاية، مع العلم أن وقوع الكارثة يظل غير مؤكد، ولكي نتمكن من الحيلولة دون وقوعها، كما يقول المنظر الفرنسي “جاك أتالي”، علينا أن ننظر بعيدا أمامنا وخلفنا لكي نفهم ما يحدث في العلم بالضبط.

ولحسن حظنا، ثمة درس نتعلمه-يقول جاك أتالي-من هذه الأزمات، وهو أن رغبة الناس في الحياة تظل هي الأقوى دوما، وأنهم في النهاية يتجاوزون كل ما يعترضهم في طريقهم لكي ينعموا بلحظاتهم النادرة فوق الأرض.

*أستاذ علم السياسة والسياسات العمومية بكلية الحقوق بمراكش

‫تعليقات الزوار

6
  • احمد سبولي
    الثلاثاء 7 أبريل 2020 - 12:11

    يصعب اجرأة التخطيط الاستراتيجي كركن اساس للمنظومة التدبيرية في ظل تحالف حكومي هجين يبخس دور السياسة، وفي ظل صراعات حزبية ضيقة لاغراض انتخابية ضدا على المصلحة العامة ومصلحة المواطن المغربي.

  • السباعي
    الثلاثاء 7 أبريل 2020 - 12:27

    اعادني هذا المقال الدقيق والخرفي الى تكوين في تدبير الأزمات عند الكوارث الطبيعية والحروب… مقال يحتاج أغلب المسؤولين حاليا قراءته بل حفظه … عندما أهمل أهل العلم وتم التحيز للحزبية. طبيعي يكون رئيس الحكومة تقديره سيء بحضور وزيره في الصحة عندما اعتبر الأمر مجرد انفلونزا عادية وان الكمامات لا حاجة لنا بها.بل حتى مديره للأوبئة اعتبر الأمر مجرد تهويل من العوام. وتخبط التعليم بين التعليم عن بعد وتكافؤ الفرص و.و.و…ولولا تدخل الملك بحسه وتقديره العالي برسم خطة مواجهة رزينة للخطر الأكبر لكانت الكارثة. وهو امر تكرر من قبل (الصحة مع الأطباء والممرضين والتعليم مع الأساتذة الباحثين وحتى المتعاقدين).
    بعد انفراج هذه الأزمة أتمنى أن تكون القناعة تكونت بأن العلم بتدبير

  • مهتمة من زمن كورونا
    الثلاثاء 7 أبريل 2020 - 13:06

    ما أحوجنا للتخطيط الاستراتيجي اليوم أكثر من أي وقت مضى فهو اللبنة الأساس التي ستحرك قاطرة التنمية التي توقفت جراء هذه الأزمة التي لم تستثن حتى كبريات الدول العالمية علينا ان نستفيد من هذا الدرس ولا يكون هذا التخطيط الإستراتيجي وليد لحظة سرعان ما تزول.

  • الشاوي
    الثلاثاء 7 أبريل 2020 - 21:00

    مقال رائع. صحيح الأجمل أن ثمة درس نتعلمه من هذه الأزمات، وهو أن رغبة الناس في الحياة تظل هي الأقوى دوما. عسى أن تعيد المرحلة القادمة للعلم وأهله وللقطاعات الحيوية قيمتها للقطع مع التفاهة والرتابة والشعبوية.

  • متتبع من مراكش
    الثلاثاء 7 أبريل 2020 - 21:01

    في البدء لايمكنني سوى ان اشكر الدكتور على هذا التحليل الاكاديمي الرزين، مضمونا واسلوبا.. خصوصا وتنبيهه الى الفرص التي تتيحها الازمات من اجل تطوير النسق التراتبي لاتخاذ القرارات في اطار السياسات العمومية ببلادنا.

  • رجاء في الله
    الثلاثاء 7 أبريل 2020 - 23:07

    تحليل في غاية الأهمية صالح لكل زمان ومكان فتحية تقدير واجلال لك استاذي الفاضل.

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات