رسالة الملك في ذكرى بنبركة .. تحرير المستقبل من آلام الماضي

تقديم أشبه بالعتمة:

هناك شيء ما قادم في الطريق، في أكبر ملف شائك من سنوات الرصاص، أشمه بحدس صحافي، وليست لي أعين زرقاء اليمامة لأراه؛ كل الإشارات التي حدثت يوم الجمعة الماضي بالمكتبة الوطنية تدل عليه، عنوانه الأبرز: ينبغي تحرير المستقبل من آلام الماضي، وحقيقة جثة بن بركة الملغزة هي مفتاح ذلك في الحاضر.

دلالات رسالة الملك محمد السادس

أثارت الرسالة الملكية التي وجهها العاهل المغربي إلى المشاركين في الندوة التي نظمها عبد الرحمان اليوسفي حول “مكانة الشهيد المهدي بن بركة في التاريخ المعاصر”، جدلا إعلاميا واسعا.

إن المناسبة شرط والسياق هو الذي يعطي معنى للأشياء.. فلأول مرة يحضر مستشار ملكي في ندوة اكتسبت الصبغة الدولية من حيث موضوعها، وهو شخص المهدي بن بركة الذي كان دينامو مرحلة أساسية في التاريخ المعاصر، بإشعاعه الدولي الذي تجاوز حدود الرقعة الجغرافية لوطنه، وأيضا من حيث وزن أحد الوجوه الأممية البارزة التي حضرت اللقاء، الذي يصادف مضي نصف قرن على اختفاء وقتل المهدي بن بركة؛ وهو الأخضر الإبراهيمي، السياسي والدبلوماسي الجزائري، الذي عمل كمبعوث للأمم المتحدة في أكثر من نقطة ساخنة، من لبنان إلى سوريا وأفغانستان واليمن والعراق… وساهم في إيجاد حلول لإيقاف سفك الدماء والحروب الأهلية؛ وهو ما يعني أن الرسالة تتجاوز الإسقاطات الداخلية، ولها أكثر من أثر في المحيط الإقليمي.

ولعل هذا ما جعل وكالة الأنباء الجزائرية التي غطت الحدث تتحاشى الإشارة، ولو بالتلميح، إلى رسالة الملك التي تلاها عبد الرحمان اليوسفي خلال يوم الجمعة الذي كان دافئا في المغرب طقسا وسياسة؛ وهو ما يعني أنها أغفلت ما يعطي للحدث قوته.

بن بركة مِلكٌ مشترك للمغاربة

ثمة ما يشبه تأميما لشخصية المهدي بن بركة، وإعادة توطينه، إنه لم يعد ملكا للاتحاد الاشتراكي فقط، وإنما هو صديق للملكية أيضا. تلح الرسالة على أن “الدول تبنى على تاريخها، بإيجابياته وسلبياته. وشعب بلا تاريخ هو شعب بلا هوية، ولن يكون له مستقبل”.

من هنا فإن الملك محمد السادس يثبت أن بن بركة رجل وطني كانت له رؤية “حول ما كان ينبغي أن يكون عليه مسار المغرب المستقل”، وألا حق لأي كان اليوم أن يصدر أحكام قيمة حول توجهاته واختياراته؛ لأنها في نهاية المطاف كانت تروم صناعة مستقبل مغرب مستقل، حر وديمقراطي… “وكيفما كان الحال فابن بركة قد دخل التاريخ: ليس هناك تاريخ سيء أو تاريخ جيد، وإنما هناك التاريخ كما هو: ذاكرة شعب بأكمله”.

الرسالة الملكية تعيد التأكيد على ما كان قد قاله الملك محمد السادس غداة توليه العرش ودعوة أسرة الشهيد بن بركة إلى دخول البلد، من أنه يشاطر عائلة المهدي أحزانها، وأنه كان في مثل سن أصغر أبناء بن بركة حين وقع خطف وقتل العريس الاتحادي.

ومن مكر الصدف أن يكون وزير العدل عمر عزيمان، الذي حضر في مطار الرباط سلا لحظة استقبال أبناء الاتحادي الراحل في نونبر 1999، هو نفسه الذي حمل الرسالة الملكية بصفته مستشارا للملك.

لا عقدة للملكية اليوم من بن بركة

يقول أندريه مالرو: “المستقبل هو الحاضر الذي صنعه الماضي”.. بتوجه محمد السادس إلى الندوة التي نظمها أحد رفاق درب المهدي، ورجل الدولة الذي لم تفقده المسؤولية الحكومية المصداقية والثبات على المبادئ، أراد الملك التوجه إلى المستقبل دون القفز على الماضي؛ وهو ما يتوقع معه مفاجأة ما قد تشكل مصالحة نوعية بين المغاربة وماضيهم، لا يعرف أحد طبيعتها وتوقيتها.

من جهة أخرى تبرز الرسالة أن الملكية لم تعد لها عقدة ذنب ولا مركب نقص مع شهدائها، حتى ولو كانوا على الضفة الأخرى. يقول العاهل المغربي: “إننا نستحضر معكم، قبل كل شيء، أنه كان رجل سلم، كما كان قريبا من العائلة الملكية.

ورغم أن هذه الذكرى تأتي في وقت ما تزال فيه العديد من التساؤلات مطروحة دون إجابات، فقد حرصنا على مشاركتكم هذا الحدث، دون عقدة أو مركب نقص من هذه القضية، تقديرا لمكانته لدينا ولدى المغاربة”.

إن أي قراءة تآمرية حول من كان يجب أن توجه له الرسالة، هل ادريس لشكر، باعتباره كاتبا أول للاتحاد الاشتراكي، أم عبد الرحمان اليوسفي، الكاتب السابق للاتحاد، الذي استقال من الشأن السياسي؟ تترك المحركات الأساسية للحدث وتتشبث بالهامشي – ليس بالمعنى النيتشوي للهامش- الذي لا يصنع التاريخ؛ ذلك أن المهام الكبار وسياق الأحداث العظيمة في تاريخ أمة لا يضيع في التفاصيل الجزئية التي لا يوجد خلفها سوى الشيطان.

من هنا حس التوجه نحو المستقبل بتحرر الملكية من مركب نقص بن بركة؛ وهو ما سبق أن دشنه الملك محمد السادس مع عبد الكريم الخطابي، وها هم أبناء منطقته يوجدون في الحكم وفي دواليب حساسة للدولة. في هذا السياق يجب فهم قول الرسالة الملكية: “لذا، فإنه يجب استخلاص الدروس والعبر من قضية ابن بركة، وجعلها في صالح الوطن، لتساعدنا على البناء وليس على الهدم”.

إن الرسالة الملكية تاريخية بكل المقاييس، وهي ما أعطى للذكرى الخمسين لاختفاء الشهيد المهدي بن بركة كل هذا الوهج، لكن يتبقى أمامنا الكثير لإزالة هذا الوجع التاريخي.

إن التأكيد على أن المهدي بن بركة ملك مشترك لجميع المغاربة يعتبر الوجهة الصحيحة لطي الملف، لكن الإجابة عن التساؤلات الملغزة تظل أساسية أيضا.