شمعة في‮ ‬درب‮ ‬النضال

شمعة في‮ ‬درب‮ ‬النضال
الخميس 4 غشت 2011 - 02:29

في الحفلات المدرسية، كانت ثلة من الأساتذة الاتحاديين المرموقين، من أمثال المرحوم فاضل الفوال، وسريع، وقرميش، تشرف على ما كان يسمى الأنشطة الموازية. وكنا -نحن التلاميذ- نحفظ الموشحات وأغاني المجموعات الغنائية كناس الغويان والمشاهب وجيل جلالة عن ظهر قلب. ومع تطوير واستمرارية الحصص التدريبية على مدار السنة، أنشأنا مجموعة غنائية اندمجنا فيها بسرعة، وأصبحنا فرقة موسيقية مستقلة بذاتها، ذاع صوتها في المنطقة، تحيي سهراتها داخل القرية وخارجها. وهكذا سرنا نغنى ونطرب القرية كلها في المدارس والثانويات، وفي القاعات والساحات العمومية، إلى أن اقتربنا ذات يوم من الأغنية الملتزمة، بفضل ما حصلنا عليه من أشرطة غنائية من الطلبة الجامعيين، ومن بعض التلاميذ الذين كانت لهم علاقة بالساحة الطلابية. كانت أولى الأغاني الملتزمة التي قدمناها للجمهور، أغنية للفنان سعيد المغربي “الواد احمل‮ ‬والمياه‮ ‬جرات‮”‬،‮ ‬وهي‮ ‬من‮ ‬أغانيه‮ ‬الأولى،‮ ‬على‮ ‬ما‮ ‬يبدو،‮ ‬كان‮ ‬قد‮ ‬غناها‮ ‬في‮ ‬مراكش‮ ‬سنة‮ ‬1976‮ ‬وهو‮ ‬مازال‮ ‬تلميذا.

لم نتعرف بعد على فنانين ملتزمين آخرين، لكننا سمعنا أغاني الشيخ إمام، ومارسيل خليفة، وكان صعبا علينا تقليدها في البداية لاختلاف لهجتها. وما أن ذاعت في كل أنحاء المغرب أخبار محاكمة البيضاء الشهيرة، في يناير ومارس 1977، والتي حوكم فيها 138 معتقلا، حتى بدأنا نطلع على مثل هذه الأخبار في السنتين المواليتين، من خلال الأغنية التي غناها التلميذ المراكشي، سعيد المغربي، حول الأستاذة المناضلة، الماركسية الشهيدة سعيدة المنبهي. أغنية تحت عنوان “امرأة أحبت الضوء”، فكانت البداية مباشرة بعد استشهادها، في مستشفى ابن رشد، بالدار‮ ‬البيضاء‮ ‬يوم‮ ‬11‮ ‬دجنبر‮ ‬1977،‮ ‬على‮ ‬إثر‮ ‬إضراب‮ ‬عن‮ ‬الطعام،‮ ‬خاضته‮ ‬سعيدة،‮ ‬لمدة‮ ‬أربعين‮ ‬يوما. ‬كان‮ ‬سني‮ ‬لا‮ ‬يتجاوز‮ ‬الخامسة‮ ‬عشرة‮ ‬سنة‮ ‬آنذاك.

‮ ‬أما‮ ‬القصيدة‮ ‬فكانت‮ ‬من‮ ‬تأليف‮ ‬الشاعر‮ ‬المغربي‮ ‬عبد‮ ‬الله‮ ‬زريقة،‮ ‬الذي‮ ‬لم‮ ‬ينج‮ ‬من‮ ‬الاعتقال‮ ‬أيضا،‮ ‬في‮ ‬تلك‮ ‬المرحلة،‮ ‬إذ‮ ‬ألقي‮ ‬عليه‮ ‬القبض‮ ‬سنة‮ ‬1978،‮ ‬فحكم‮ ‬عليه‮ ‬بسنتين‮ ‬سجنا.

كانت منطقة بني زروال، قد نالت نصيبها من الاعتقال والمحاكمة، في تلك المرحلة من خلال اعتقالات شملت عبداللطيف الدرقاوي، وأحمد شرفي من تنظيم “لنخدم الشعب”، ومجموعة من التلاميذ أطلق سراحهم فيما بعد..

أوقدت فينا هذه الفترة الممتدة بين 1978 و1980، الإصرار على رفض المهانة، كان وعينا العفوي والجنيني يتبلور، شيئا فشيئا، مع أصدقاء الطفولة: محمد اعريبو والزغاري عبدالرحيم، وبلعادة عبد الحفيظ، والهبوب، واعميلة، ومحمد الغازي، والعوينة حسن، والقاضي محمد، والسطي،‮ ‬والعبودي،‮ ‬عبد‮ ‬العزيز،‮ ‬وآخرين‮ ‬من‮ ‬شباب‮ ‬ثانوية‮ ‬ابن‮ ‬خلدون،‮ ‬بقرية‮ ‬أبا‮ ‬محمد،‮ ‬وهي‮ ‬الثانوية‮ ‬نفسها‮ ‬التي‮ ‬اختطف‮ ‬من‮ ‬أحد‮ ‬أقسامها‮ ‬العلمية،‮ ‬أحمد‮ ‬شرفي‮ ‬من‮ ‬قبل‮ ‬عناصر‮ ‬مجهولة‮ ‬في‮ ‬منتصف‮ ‬السبعينات. ‬

كنا معا ننظم المظاهرات والمسيرات المطلبية التي تصل إلى ضيعات الليمون المحادية لنهر سبو، من أجل تحسين وضعية التلاميذ الداخليين، وضد قساوة مدير الثانوية. كما كنا نحيي الأمسيات الغنائية الملتزمة، بتشجيع من المناضل الاتحادي ادريس بلعياشي، الحارس العام للثانوية‮ ‬آنذاك. ‬

كانت الساحة مزهرة بالعديد من المؤثرات، من سينما، ومسرح، وأغنية، وشعر، وقصة، وفن تشكيلي، ولعبت دورها في التأطير السياسي، والتأثير الإيديولوجي، والدعوة إلى الإشعاع الفكري والثقافي. إنها مرحلة النضال والحلم، مرحلة “النضال الثقافي كجزء لا يتجزأ من النضال التقدمي‮ ‬التحرري‮”‬،‮ ‬من‮ ‬أجل‮ ‬دولة‮ ‬جديدة‮ ‬ذات‮ ‬طابع‮ ‬اشتراكي،‮ ‬يسودها‮ ‬تغيير‮ ‬علاقات‮ ‬الإنتاج‮ ‬والقوى‮ ‬المنتجة..

‮ ‬وكان‮ ‬موضوع‮ ‬الاعتقال‮ ‬السياسي‮ ‬من‮ ‬بين‮ ‬المواضيع‮ ‬الطافحة‮ ‬على‮ ‬السطح‮ ‬في‮ ‬تلك‮ ‬الفترة،‮ ‬بعدما‮ ‬زج‮ ‬بالمئات‮ ‬من‮ ‬المناضلين‮ ‬في‮ ‬المعتقلات‮ ‬السرية‮ ‬والعلنية.
كانت أخبار المعتقلين، والاعتقالات والمحاكمات تصلنا من كل حدب وصوب، في شكل بيانات، ونداءات، وشهادات وملصقات وغيرها. وتخبرنا الروايات، والأشعار، والأناشيد والأغاني.. بأحكام المناضلين، وتحكي عن المختطفين وعن قصص تعذيب المعتقلين.. وتجلِّي القساوة والحرمان من أبسط الحقوق الإنسانية والاجتماعية والثقافية.. حتى بدا لنا المغرب سجنا كبيرا، يسجن الأطفال، والنساء، والشباب، والشيوخ من مختلف المناطق المثبتة على خريطة الوطن.. فكان التضامن واجبا علينا، من دون أن نسأل، مع من؟ وكيف؟ ولماذا؟

كنا نسهر الليالي، نعد عدد المعتقلين والمختطفين والمنفيين، فتأتينا أسماء المعتقلين الجدد في اليوم الموالي، لنعيد الكرة من جديد. تنقص أعدادنا بزيادة المعتقلين، وكان سلاحنا الوحيد لمواجهة الوضع، جمع التبرعات وإلصاق البيانات، وتنظيم المظاهرات، وإحياء الأمسيات الفنية‮ ‬والغنائية. ‬أما‮ ‬الدولة‮ ‬فكانت‮ ‬بالنسبة‮ ‬لنا‮ ‬مجرد‮ ‬جهاز‮ ‬لسلب‮ ‬جميع‮ ‬الحقوق‮ ‬والحريات‮ ‬وخنق‮ ‬كل‮ ‬صوت‮ ‬أو‮ ‬مبادرة‮ ‬تهدف‮ ‬لتحقيق‮ ‬التغيير،‮ ‬ولا‮ ‬تترك‮ ‬للقوى‮ ‬السياسية‮ ‬التقدمية‮ ‬أي‮ ‬هامش‮ ‬من‮ ‬الحرية.

لم نُعِر أي اهتمام للإخفاقات التي سبقتنا، ربما لأننا لم نعرفها أصلا. كان التاريخ، بالنسبة لنا، يتطور ويتقدم وفق أحلامنا وتطلعاتنا، حيث كنا نعتقد أننا نملك الحقيقة كلها، وأننا جزء لا يتجزأ من العالم الحديث الذي يناضل ويكافح من أجل التغيير، وأن هذا العالم يعرفنا‮ ‬ويتابع‮ ‬خطواتنا،‮ ‬ويتوصل‮ ‬بأخبارنا،‮ ‬يساندنا‮ ‬ويمد‮ ‬لنا‮ ‬يد‮ ‬المساعدة‮ ‬كلما‮ ‬احتجنا‮ ‬إليه.

مرت‮ ‬سنوات‮ ‬معدودة‮ ‬من‮ ‬عمرنا‮ ‬بسرعة،‮ ‬وكانت‮ ‬كافية‮ ‬لتقنعنا‮ ‬بحب‮ ‬الوطن،‮ ‬رغم‮ ‬أشواك‮ ‬الدروب،‮ ‬وقسوة‮ ‬التجربة،‮ ‬وصنوف‮ ‬الحرمان‮ ‬المبكر‮ ‬من‮ ‬ألوان‮ ‬العشق‮ ‬وأتراف‮ ‬الحياة.

لم ننتظر أسبابا أخرى لتوجه إيماننا ومعتقداتنا، ولم نكلف أنفسنا عناء البحث عن القبلة الإيديولوجية المفضلة، للانخراط العملي في صلب الصراع، ولا البحث عن “الطقوس الادخالية” لتهيجنا جسديا وتهيئنا روحيا للانتساب.. ربما لأننا لم نقبل، بشكل فطري، علاقة “الشيخ بالمريد‮”.‬

كانت الساحة السياسية مشحونة بالكثير من الممارسات السلطوية التي أدت إلى إضعاف المعارضة الرسمية، والسيطرة على الراديكالية، بكل ألوانها وزعمائها، إذ أعلن النظام في هذه المرحلة تجاوز أزمته السياسية، وإعادة ترتيب أوضاعه، بعد السيطرة على الأوضاع والأحداث في البلاد. ‬

المريزق يعزف العود ويغني بإحدى الأمسيات الثقافية بظهر المهراز (1984)

‫تعليقات الزوار

2
  • حسان
    الخميس 4 غشت 2011 - 13:23

    يا دكتور، لقد تبدل الزمن وأصبحنا في لحظة الربيع العربي. ولابد لجيل السبعينات أن يقطع مع نوستالجيته وينخرط في السيرورة الجديدة للتارخ. إن بناء الشرعية السياسية على ماض بعيد وعلى أقانيم تاريخية مثل رموز الأغاني الملتزمة … لم يعد له أثر على الشباب الجديد الذي لا يعرف هده الأقانيم. فإذا كان جيل الثمانينات قد انبهر بهذا التاريخ وأحنى ظهره لكثير من الانتهازيين ليصعدوا إلى المناصب ومواقع الثروة فإن جيل الفايسبوك لا يعرف عما تتحدثون.
    لا شرعية تاريخية بعد اليوم

  • yahya ahmed
    الخميس 4 غشت 2011 - 18:06

    حقيقة لم أفهم قصدك من وراء هذا المقال، أتريد أن تقول أنك لازلت يساريا؟ لا والف لا فقد دنست ذلك بارتمائك في أحضان حزب المخزن بحثا منك عن امتيازات أو منصب فلما لم تجد إلا سرابا عدت تبحث عن مجد وللأسف بعته يوما بدون مقابل.
    أيها "المناضل" اليميني في حزب المخزن هون على نفسك فمهما قدمت من دفوعات فلن يقبلك حضن اليسار الذي تخليت عنه طواعية في سباقك المحموم وأمثالك إلى حضن سيدك فؤاد
    (من رفيق لك سابقا في اليسار الإشتراكي الموحد)

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 3

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب