على بعد ملمتر واحد .. خالد يقدم على قرار مجنون

على بعد ملمتر واحد .. خالد يقدم على قرار مجنون
الإثنين 19 يونيو 2017 - 00:05

كيف يمكن أن يغيّر تردد على بعد ملمتر واحد فقط حياة شاب مغربي؟ كيف يمكن أن يسبب عدم مسح صديقة من فيسبوك في تغيّر دفة مركب الحياة بشكل كامل؟ من طنجة إلى بروكسل إلى السجن.. لوحة مسروقة من المتحف الأمريكي بطنجة ومحاولة استعادتها وتفاصيل أخرى كثيرة ومثيرة تزخر بها رواية “على بعد ملمتر واحد فقط” للكاتب عبد الواحد استيتو.. تابعوها على هسبريس طيلة شهر رمضان.

الفصل الرابع والعشرون

لم يكن هناك سوى الألم وطعم الماء المالح..

ملوحة لاذعة وجفاف في الفم حتى أنه بالكاد كان يبتلع ريقه..

أين أنا؟ يتساءل خالد. “كل هذا العطش لن يطفئه سوى كأس كبير من الماء قبل أن أعود إلى النوم” يقول لنفسه..

يفتح عينيه. يبدأ في استعادة وعيه وإدراكه لذاته والموجودات. الليل سيد الموقف والصّبح لازال لم يحاول بعدُ أن يتنفـــّــــس.

لن تكون هناك عودة إلى النوم لأنك يا خالد لم تكن في كابوس. بل هي الحقيقة الفجّة المؤلمة الممتزجة ببعض الفرح.. لقد استطعتَ النجاة من الغرق على ما يبدو!

يعتدل خالد في جلسته.. كل جزء من جسده يئنّ ويصرخ من الألم والتعب. يدير عينيه في الشاطئ محاولا اختراق حُجُب الظلام فلا يبدو له طير يطير أو حيوان يدبّ.

– أغرق الجميع يا ترى؟! أتراني الناجي الوحيد؟

ومن ذا يستطيع الإجابة؟ لا أحد. المطر يواصل هطوله بإلحاح وحماس. ثقل رهيب يضغط على كتفيه. يتحسسهما فيكتشف أنه فقط ثقلُ حقيبته البلاستيكية التي يبدو أنه لم يفقدها. لازالت تتشبث بكتفه كرضيع غوريلا. المال أيضا لازال في مكانه.

لم يضع منه شيء رغم كل تلك الفوضى.. سيتأكد فيما بعد إن كانت المحتويات على ما يرام، أما الآن فأول ما ينبغي أن يفعله هو مغادرة الشاطئ بسرعة قبل أن يكتشف الحرس المدني الإسباني الأمر وتبدأ عملية البحث عن الناجين.. وما أقلّهم.

هل هذا جسدٌ مُسَجّى أم أنه فقط يتخيل؟

يدقق النظر أكثر وهو يقترب ليجد نفسه أمام تلك المهاجرة الإفريقية الحامل التي أنقذها من الغرق. يقترب أكثر.

– هيه.. أنت.. إنهضي بسرعة.. لقد نجّانا الله، لكن أي تأخير ليس في صالحنا..

يصفعها على وجهها برفق، ثم بقوة. لا استجابة.

– لا.. لا تفعليها بالله عليك.. لم تعبري كل هذه الصعاب وتنجي من الغرق لتموتي بهذه البساطة على شاطئ قارة أخرى.

يتحسس وريدها. يضع أذنه على صدرها. لا أثر لأي دقــّات. يرتبك. لا يدري ماذا يفعل. يتذكر بضع دروس كان قد تلقاها من جمعية طبية أثناء دراسته الثانوية. يضع كفه على أصابعه ويضغط على صدرها..

1..2..3..4..5..

هيا ..هيا…

يفتح شفتيها وينفخ محاولا إنعاش رئتيها.. هيّا يا قبلة الحياة.. كوني اسما على مسمّى وامنحي هذه المرأة حياة جديدة..

لكن المرأة لا تستجيب. لقد رحلت. لن تستأخر ساعة ولن تستقدم. لقد قضي الأمر ببساطة..

يجلس خالد بقربها وهو يبكي بكاء حارّا مسموعا.

كم من الكلومترات قطعت هذه المرأة باحثة عن حياة أفضل؟ بماذا ضحّت؟ بمن ضحّت؟ أي أحلام كانت تخبأ في صدرها؟ كم شخصا من أسرتها تركت وراءها ينتظر أن تعود محمّلة بغنائم القارّة العجوز؟

ماذا بقي أكثر لتعيشه يا خالد؟

خلال شهور فقط رأيت السجن والحياة والموت. أنت الرجل الذي كانت حياته تسير بروتين واحد مملّ، يغيّر ملمتر واحد دفة مركب حياته نحو مسار ما اعتقدت يوما أنك قد تعيش عُــشُره.

هل فعلا تحرك الجنين في بطن أمه أم أنهما الشتاء والدموع تلعبان لعبتهما في خداع بصره؟ !

يخرج هاتفه المحمول الملفوف بعناية فيجده لازال يعمل.. ورغم خطورة الحركة التي قد تكشف أمره يلقي خالد ضوء الهاتف على بطن المرأة الذي كان قد تعرى تماما، فيكتشف فعلا أن هناك حركة خفيفة يقوم بها الجنين من الداخل..

– يا الله.. لا تقل لي أنك لازلت حيّا يا ولدي..

ما العمل ؟ ما العمل؟

الاتصال؟!! بمن؟ كيف؟ وهل سيصبر الجنين حتى يقوم بكل هذا؟

القرارات السريعة هي الحلّ في هذه المواقف.. يخرج خالد سكينا من حقيبته.. صغيرة لكن حادّة.. ويقوم بواحد من أجرأ وأجنّ القرارات في حياته على الإطلاق..

– باسم الله..

يده ترتعش بقوة .الضربة الأولى لم تُحدث سوى خدش بسيط في بطن المرأة…

يحاول التركيز أكثر وهو يرفع رأسه راجيا ربّه..

يضغط أكثر ويحرك السكين ببطء.. سائل الحياة – الذي لازال لم يتجمد بعد – يسيل إذ تنفتح البطن شيئا فشيئا..

يمسك الهاتف بفمه كي يستطيع تحريك يديه بحرية. هو نفسه لا يصدق أنه يقوم بما يقوم به..

ليل.. مطر… دموع.. بحر.. ألم.. موت.. حياة…

يبدو له كيس الجنين من بين مطر ودم.. فيزداد جرأة.. يفتح بطن المرأة بكفيه أكثر وأكثر..

هذه أغرب وأقسى عملية قيسرية.. فلتسجل ذلك أيها التاريخ..

يبدو له الآن كيس الجنين كاملا بينما هذا الأخير داخله يركل ويركل.. أتراه يختنق؟

يمزق خالد الكيس فينزل السائل الأمنيوسي الذي كان يغطي الجنين.. هذا الأخير يطل برأسه صامتا خامدا..

يخرجه خالد. قطعة لحم طرية لا تحرك ساكنا.

– أرجوك لا تفعلها أنت الآخر.. أرجوك أرجوك..

لا يمتلك خالد أي معلومة عن كيفية التعامل مع الوضع سوى ما شاهده في بضعة أفلام. هل ذلك هو ما ينبغي عمله أم أنها خدعة أخرى من خدع الأفلام التي تصرّ على أن الإصابة بجرح غائر ليست سوى متعة بالنسبة للبطل الذي يلحس الدم السائل منها قبل أن يواصل التخلص من الأشرار؟

يرفع الجنين من قدميه.. يضربه بشكل خفيف على مؤخرته..

واااااااااااااع…

ويطلق الكائن الصغير الأسمرُ الجلد صرخته الأولى..

يخرج خالد إحدى قمصانه الجافة من الحقيبة ثم يقطع الحبل السّري بسكينه قبل أن يلف المولود فيه..

الرضيع لا يكف عن الصراخ الحادّ.. يبكي لأنهم أخرجوه من هدوء وظلام وسكينة إلى فوضى وألم..

يضمه خالد بقوة إلى صدره ملتمسا له بعض الدفء.. يركب رقما ويتصل…

– أهلا معاذ.. هل أنت في المكان الذي اتفقنا عليه؟

– نعم، هل وصلت فعلا؟ الحمد لله على السلامة.. يالك من رجل ..يا لك من رجل.. هيا أسرع أنا أنتظرك داخل سيارتي..

يجري خالد وهو يحمد الله في سره أن كل هذا الصخب لم يلفت انتباه أحد.. المسافة طويلة بين الشاطئ وبين أول طريق للسيارات.. قضى حوالي عشر دقائق وهو يعدو قبل أن يصل إليها.. المكان مقفر ولا أثر لأحد..

يلهث بقوة وهو يعاود الاتصال فينقطع الخط من تلقاء ذاته..

أضواء سيارة قادمة. أتراه معاذ؟

نعم إنه هو. أبطأ معاذ سرعة سيارته وهو يطلب من خالد الركوب بسرعة..

– مرحبا بك أيها “الحراك.. ماذا…..

تجحظ عينا معاذ إذ يلحظ ماذا يحمل خالد في يده..

– لا تقل لي أن هذا يحدث فعلا..

– لا أريد أن أسمع أي حكمة الآن.. استعمل جهاز تحديد المواقع للعثور على أقرب مستشفى في كاديس.. هيا..

بيد مرتعشة يشغل معاذ الجهاز..

– هاهو واحد على بعد مئات الأمتار فقط.. ماذا تنوي…

– أرجوك أجّل الأسئلة وانطلق بسرعة..

الرضيع لا يكف عن الصراخ. يخرج خالد من حقيبته قطع حلوى كان يقتل بها الجوع في طريق هجرته.

– لديك منديل نقي؟

– هناك في المقعد الخلفي.. لكن..

يلتقط خالد المنديل ويلف قطعة الحلوى فيه ويدسها في فم الرضيع..

تدريجيا يخف صراخه.. يمتص المصّاصة التقليدية التي صنعها خالد وهو يفتح عينيه..

عيناه واسعتان جميلتان جدا.. يبتسم خالد له..

– قف بعيدا عن المستشفى بحوالي شارعين..

– وهو كذلك..

ينزل خالد، وهو يحجب وجهه بقميصه. يتجه مسرعا نحو باب المستوصف. المكان خال تقريبا.

يضع الرضيع الملفوف بعناية أمام الباب.. يبتعد قليلا. يحمل حجرا ثم يرميه على باب المستشفى الزجاجي..

كراااااش..

الصوت القوي يبدو كقنبلة ذرية هزّت المكان الهادئ..

يعود خالد بسرعة أكبر هذه المرة. يفتح باب السيارة الخلفي ثم يتمدد فوق المقعد..

– انطلق الآن على بركة الله..

– طيب، ماذا حدث بالضبط..

– يخرج الحيّ من الميت..

– أقصد التفاصيل.. خالد… خالد…

لكن خالد كان قد استنفذ آخر عضلة.. آخر مجهود.. آخر خلية من جسده.. لقد غاب عن الوعي تماما!! (يتبع)

لقراءة الفصل السابق: القارب المطاطي ينقلب في عرض البحر!

*روائي مغربي | [email protected]

‫تعليقات الزوار

10
  • laaroussi
    الإثنين 19 يونيو 2017 - 00:44

    يا لها من سطور يرتجف لها القلب والله ثم والله جعلتني يا سيدي الكاتب اتفاعل وبشكل عفوي ولا ارادي مع لحظة توليد السمراء بل وتسارعت دقات قلبي كما لو اني اشارك في عملية التوليد وتنفست الصعداء حينما نجحت العملية ونجى الاسمر الصغير, تزداد القصة رونقا و نجاحا, شتان ما كنا في حاجة لمثل هذا النوع من القراءات ..شكرا لك في مزيد من التألق.

  • عادل
    الإثنين 19 يونيو 2017 - 01:31

    هاد الرواية تصلاح فيلم سينمائي كما نقول واعر هههه و لكن بإخراج أمريكي المخرج ديالنا غايعور ليها العين أعظم الافلام كانت في روايات رائعة بحال davinci code , anges and demons , inferno , gone girl كثرت م روايات دان براون كايعجبني ههه و هي مناسبة لي ما قرالوش كانصحو يقرا الروايات خصوصا انها مليئة بالاثارة و التشويق و تثقيفية كذلك و أفضل رواية قرأتها له the lost symbol و بالمناسبة كاين ترجمة بالعربية خوكم ماشي كاع واعر فالانجليزية ختى لهاد الدرجة هههه

  • نونة
    الإثنين 19 يونيو 2017 - 02:18

    كان الله في عونك يا خالد .. رجل بما في الكلمة من معنى.. من جديد تحية للكاتب ولهيسبريس على النشر

  • kARIM
    الإثنين 19 يونيو 2017 - 02:19

    الحمد الله عشت هاته القصة شخصيا منذ عشرين سنة قطعت البحر من ضواحي طنجة إلى ضواحي قاديس و طريفة و مرت بسلام و الحمد الله و بعد عشرين سنة لم أندم يوما عليها بل بالعكس تركت ورائي حياة البؤس و الحكرة و التشوميرة و حياة أنت إبن من ؟؟

  • حلا
    الإثنين 19 يونيو 2017 - 02:23

    اوا هاذ خالد ولينا كنهدرو معاه وكنبيكوا معاه وكنضحكوا معاه.الله يستر ماغادي تكمل هاذ القصة حتى نبقى نهدر مع راسي الحماق هذا الي جاي فالطريق ههههه

  • هاجر
    الإثنين 19 يونيو 2017 - 04:33

    ايه!!والله انه مقطع مؤلم و قاس جدا! و الاقسى فيه ان تكون ملزما باتخاذ قرار ما في الحين! عشت هذه اللحظات ذهنيا و كانها حقيقة. اهي عبثية الحياة ام هو واقع يعيشه الكثيرون منا؟! ام ان بعض البدايات تستلزم تضحيات جساما؟!تموت الام ليحيا الولد! اية مواقف تنتظرك يا خالد في هذه الرحلة الطويلة..؟

  • Said abou roaa
    الإثنين 19 يونيو 2017 - 04:40

    يا لك من مبدع يا كاتب قصة. جعلت من خالد يقتن جميع أدوار .(من عاشق و مجرم في سجن و مهاجر سري إلى اصبح طبيب توليد …… )يا كاتب قصة جعلتني أسأل نفسي من هذا الكاتـب الذي اسمه أستيتو.فزدني فضول فبحث على اسمك في كل المواقع والمنتديات العربية. فاكتشفت شخص مثقف جدير بالمتابعة. من هذا منبر ارفع قبعتي احترام لك يا ابن طنجة.

  • غريب في وطني
    الإثنين 19 يونيو 2017 - 05:12

    جميلة هي حرفك سيدي لقد جعلتني حقا اسافر في تفاصيل القصة واعيشها لحظة بلحظة سبحان الله لقد عاش كياني احاسيس وشعور خالد الى درجة ان دقات قلبي كانت ترتفع في المواقف الصعبة " الجراحة " مثلا
    سلمت اناملك
    وتحياتي للقراء والمتتبعين

  • slaoui
    الإثنين 19 يونيو 2017 - 10:05

    tres bien ficeller cette partie , melange de drame suspence et tout en action .bravo.on attend la suite.

  • مصطفي ايطاليا
    الثلاثاء 20 يونيو 2017 - 00:47

    يسلام كاتب يستحك التقدير bravo khoya

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس