محنة الصحفي الأول

محنة الصحفي الأول
الأربعاء 17 دجنبر 2008 - 13:41

خلال سنوات طويلة من الوئام والإنسجام، كانت زوجتي المصونة، سليلة الخشب والخرسانة المسلحة، تقرأ مقالاتي الرائعة التي لن يكتبها لا توماس فريدمان وعبد الوهاب الأفندي ولا عبد الباري عطوان ولا صبحي حديدي ولا ناحوم بارنياع ولا غي باخور ولا إنياس راموني ولا برنار هنري ليفي ولا محمد الساسي…


وحين جف معين الكتابة عندي بدأت أنتج برامج تلفزيونية لا تقل عن ساعة ونصف، برامج تشاهدها زوجتي بإعجاب وتلقبني “فارس البلاغة العربية“، كانت تتفرج عليّ أتحدث وتسجل استجواباتي مع وجهاء الدولة لتعيد الاستمتاع بها بدهشة، زوجتي تلك، وقعت لي مشكلة معها خلال السنوات الأخيرة، وبنفس السبب الذي أحبتني لأجله، لم تعد ترى فيّ “المذيع الأسد” المبجل الأنيق الذي تخرج الحقائق الذهبية من فمه: يجد اسما لكل واقعة وتفسيرا لكل خطوة ميمونة ويعدد كرامات حكومتنا العذراء دون أن يرف له جفن…


زوجتي التي تربت على السمن والعسل، كانت تشعر بالخيلاء وهي ترافقني في الشارع، تصر ألا نركب سيارة وسط العاصمة، وحين نجلس في مكان عام، في فندق ابني الأصغر مثلا، تسكرها نظرات الإعجاب، لم يكن الناس يستلطفونها لأنها حفيدة شقيقة زوجة وزير الإعلام، بل لأنها زوجتي، كنتُ رجلها الرشيق المفضل رغم أن الحمية أرهقتني، كانت ترغب أن تراني دائما بربطة عنق زرقاء ومعطف أسود مخطط، وقد كانت تحاول أن تقلدني، والتقليد أعلى درجات الإعجاب، حين أعود في المساء، تقف على السرير وتقول بحماس مقلدة المقدمة التي أفتتح بها نشراتي وبرامجي “أسعدتم مساء مشاهدينا الكرام“…


كل هذا تلاشى، غدت زوجتي لا مبالية، قللت من التعليق على نشاز الألوان التي أستخدِمها وتوقفت تماما عن اقتراح إدخال تغييرات سطحية أو جذرية على شكلي… أعود ليلا فأجدها تشاهد قناة فيها صحافيون مغامرون يعملون بأقلامهم وأحذيتهم، صحافيون لا يحترمون سادتهم… في أحسن الأحوال بالنسبة لي أجد زوجتي تُشخِّر… فكرت في تطليقها لأتزوج مذيعة شابة ألحقْتها مؤخرا بمديرية الأخبار لتعمل معي في برنامج جديد، لكن أولادي أيضا يسخرون بلا حياء من قناتي، يشبهونها بمعرض التحف الخزفية وقد شطبوها من جهاز الإستقبال، في حين يمتدحون قناة متهورة بلا حدود، تنشر البلبة وسط الشعب الطيب وتخلق مشاكل غريبة لوزير الإعلام، هو يقول “بقرة” وهي تقول “ثور احلبوه”، أنا أصدق الوزير. زوجتي تصدق الثور.


لم تعد زوجتي مفتونة بي، صارت تعاملني ببرودة، تزعم أني أستخدم نفس الألفاظ منذ تدجين الكلب، مرة قالت أني شِخت فنظرتْ إلى المذيع الشاب الذي يتحدث بسرعة عجيبة دون أن ينظر في ورقة، يبحر بلا بوصلة، يلقي بحجر كل يوم في البحيرة دون أن يعاقب، تنقصه الحكمة التي أتصف بها… زوجتي الغبية لا تعرف أنه حين ينجع الأشرار، يتردد الأخيار مثلي!


في الأيام الأخيرة لم تعد شريكة حياتي وثروتي تصمت، بدأت تبدي ملاحظات غير طيبة، صارت تقرأ جرائد شعبوية حاقدة علي، تقترح تغييرات جذرية على خطي التحريري، واه واه واه، جئتها بهدية ذهبية لأني مؤمن بأن الذهب يسلب عقول النساء، بعد يومين دعوتها إلى عشاء لا ينسى، غازلتها أكثر مما فعلت يوم خططت لزواجنا، قبلت يدها أمام النخبة في المطعم الرائع، تعشينا ورقصنا على ضوء الشموع وأنا في كامل أناقتي لترضى عني، لكن في طريق العودة قالت لي:


ـ أضافت الحكومة ساعة على توقيت غرينيش قلت استحسن المواطنون هذا القرار، حذفت الحكومة الساعة الإضافية أكدت أن المواطنين استحسنوا القرار. أصبح الناس يتذكرون يا عزيزي…


لمست الفرامل فجأة وتظاهرتُ أني لم أفهم، كِدت أُعرِّض بقريبها المبجل، خفت أن تُبلِّغه، حمّـلت المسؤولية للوسائل التقنية، قالت رفيقة عمري دون خجل:


ـ العيب في المطرب وليس في الأغنية!


غضبت ربع قيراط فاختليت بنفسي، أخشى أن تكون زوجتي على حق، أخشى أن أكون قد فقدت كل قدرة على التنافس، أتفرج على الصحفي الأصلع ـ عدوي العمومي رقم واحد ـ وأشعر بالضِّعة فأستعرض الحلول، سأطلق زوجتي التي ورثت ثروة مهولة عن والدها الموقر، وقد كان من رجال الدولة المجاهدين في مجال بناء الفنادق من مال الأبناك… يجب أن تمنع حكومتنا الحكيمة الحثالة من الكتابة، يجب أن تمنع الصحون المقعرة التي تُدخل المذيعين الملاعين لمزاحمتي في بلادي بلادي بلادي، مع الأسف لدينا ديمقراطية مقعرة، اقترح علي جحا لعنه الله أن أستقيل من تلك القناة الجميلة والوديعة كحمامة، والتي صنعت مجدي أمام الجماهير الوفية العاشقة لصوتي وصورتي، تسميها ابنتي “قناة يتحداها الملل”، أما ابني فيزعم أني أصبحت الصحفي الأول في البلد لأني كنت وحدي.


من همس لي؟ أستقيل؟ هل جننتم؟ أستقيل وأفقد وضعي كرجل دولة؟ الاستقالة هي أم الكبائر، وتوجب غضب أولياء نعمتي، ثم إني سأحزن كثيرا إن لم أر وجهي في التلفاز، لن أستقيل، الطلاق قد يعرضني لمشاكل مع الضرائب أو تدقيق الحسابات، يستحسن أن أتمارض لأحتفظ بكل امتيازاتي، سأتفرغ لإدارة فندقي، وهو مزدهر هذه الأيام لأن كل رجال الدولة الجدد شبان، وهم تحت التمرين، يريدون أن يتقربوا مني لأستضيفهم في برامجي فيصبحوا قادة سياسيين لامعين بين يوم وليلة.


لأساعد نفسي على تأدية هذه المهم الجليلة، سأنقل المذيعة الشابة المتمرنة تحتي منذ عشر سنوات لتشرف على الاستقبالات، كي تساعدني في التواصل مع شركة السياحة التي يديرها حفيد صهري، سأتخلى عن الحمية، وحين سيزداد وزني سأذهب إلى مكة لأرمي الجمرات في وجه الشيطان الرجيم لعنه الله. سأتعبد في انتظار غد أفضل، وأدعو الله أن تتعطل كل الأقمار الصناعية فتسترجع قناتي الحبيبة مجدها الغابر.


قولوا آمــــــــــــين.


[email protected]

‫تعليقات الزوار

6
  • الجيلالي ترافولتا
    الأربعاء 17 دجنبر 2008 - 13:51

    تقمصت دور بوش ثم دور الصحفي الحكومي، تمرن في المرة القادمة على تقمص دور عباس الفاسي، كيف يمنطف أفعاله ويبررها لنفسه بحيث يكون متأكدا أنه صادق وسيتفق معه الجميع.
    استخدم المحاكاة الساخرة لاستبطان موقف الآخر.
    أين أنت يا أبا ذر الغفاري؟ أرجو أن تعلق كل يوم.

  • MR.TANAN
    الأربعاء 17 دجنبر 2008 - 13:53

    الله يعفو على هاد ابنادم من الدخول والخروج ف الهدره الخاوية … أنا مرة مرة غادي نذكرك بالنصيحة اديالي ضبر على شي بندير أوشي اطريبيش أوجرب الحلقة حيت عندك موهبة الحكي اتبارك الله سانك سانك ابداها غير هواية ف الأول خاصة ف أيام العطل والتعليم فهاد البلاد السعيدة كولو عطل اوا اجمع راسك اقبل مايفوت الفوت …..
    اوانطلبو الله ايوفقك قولو آمين أوقرقبو اعليها اسوارت الربح !!

  • hmizoo
    الأربعاء 17 دجنبر 2008 - 13:49

    دائما عودنا بمقالاتك المثيرة للاهتمام شكرا.
    أنت تستحق لقب -فارس البلاغة العربية-

  • ملاحظ
    الأربعاء 17 دجنبر 2008 - 13:47

    ولماذا لا تقول اين انت يا مصطفى العلوي.

  • الجيلالي ترافولتا
    الأربعاء 17 دجنبر 2008 - 13:43

    حرزني أند كومباني
    أبوذرالغفاري
    لقد تابعت الحلقة من ألفها الى يائها.وهي لم تكن حوارا بل “مونولوجا”داخليا بين “شلة الأنس”.والملاحظة التي أثارتني هي هدوء”براح المخزن”ومهادنته لضيفه حتى ليخال المشاهد أن لاوجود له في “البلاطو”.وكان لايتدخل الا لتغيير النقاش من موضوع لأخر أو لأنقاذ”حرزني”عندما تخونه الأجابة أو التبرير.ولقد كان”جمال هاشم”الأستئصالي -خريج مدرسة الأحداث -هو”النجم بدون منازع.ذلك أنه جاء لغاية واحدة ووحيدة وهي تفصيل ما يقوله “حرزني”مجملا.أي أنه كان بمثابة من يكتب الهوامش على المتن الأصلي.وهكذا تهكم على صلاة الجمعة وأشاد بوالي الأمن بالبيضاء”الموزوني”دون أن ينسى أن “الأنتربول”يعترف بذكاء الأمن المخزني لذلك بوأه نيابة رئيسه في شخص”الموزوني”.والمدهش أنه يشيد بالبوليس في عقر دار مجلس من المفروض أنه يدافع عن حقوق الأنسان المغربي .ولكن تبقى الناذرة الفريده التي تفوه بها هي حين وصف “الجمعية المغربية لحقوق الأنسان” بالتطرف.وهكذا كانت حلقة ذلك المساء مجرد”قصارة” بين أصذقاء اليوم وأعداء الأمس.لأن حرزني كان يقول في المخزن والأعلام المخزني مالم يقله”مالك”في(الروج)بالطبع أيام “لنخدم الشعب”والثورة المسلحة.أما الآن وبعد أن ذاق من حلاوة الظهير الشريف والجواز الدبلوماسي فانه أصبح كالحمل الوديع لايهش ولاينش بل أنه أمسى بوقا من أبواق الدعاية المخزنية التي وجدت فيه أحسن من ينقل صوت سيده الى أمم الأرض-وخصوصا دول الغرب-كما لايفوتني أن أشير ألى “صحافي”آخر كان حاضرا هو الآخر اسمه”عبد المطلب اعميار-وأظنه يكتب بعض المرات في (هسبريس)ولكن مهمة هذا الأخير لم تكن الا كمن يتبع”هداوة بالنافخ”وكانت تدخلاته لاتخرج عن نطاق المباركة والتصفيق لما يقوم به المخزن وخدامه”الأوفياء”مثل “حرزني أند كومباني”…ملاحظة أخيرة لقد تحاشى مخرج البرنامج الأشارة الى الصحف التي يكتب فيهاالأستئصالي” جمال هاشم”وكذا”أعميار”وكان يكتفي بكتابة اسمهمامع الأشارة الى أنهما صحافيان.وهذا يدل على أنهم كانوا يعرفون مسبقا أن من يكتب في جريدة مثل “الأحداث”لامصداقية له وأنه ممقوت من طرف الشعب المغربي.أما”اعميارالماركسي السابق”شخصيا لاأعرف أين يكتب.واذا كانت المواضيع التي يكتب فيها مثل مانقرأ له في (هسبريس)..بناقص منو صحافي هو وكتابتو.

  • سيد غضبان
    الأربعاء 17 دجنبر 2008 - 13:45

    معرفتش علاش مبغتيش تفهم راسك من جميع تعاليق لتوصلك كل يوم فعلا كيف قال صحبنا من قبل جمع راسك قبل ما يفوت لحال عليك . راك حلايقي ممتاز اوا زرب لتولي حتى هي بزاف عليك..

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة