التَّخْنَاش السياسي

التَّخْنَاش السياسي
الخميس 9 يناير 2014 - 11:00

الكثير من المغاربة لا يعرفون اليوم ظاهرة ” التَّخْنَاشْ ” التي تنتمي إلى مَوْرُوثِهم الثقافي القديم. إذ ظلت هاته الظاهرة مرتبطة بطرق التعليم الديني التقليدي، ومِنْ ضمن ما تعنيه في هذا الموروث : احتضان المغاربة وتكفلهم بحفظة القرآن الكريم من الشباب واليافعين، وهجرة هؤلاء إلى بعض المساجد والرباطات والزوايا الدينية، التي كانت متمركزة بشكل أساس في شمال المغرب وجنوبه ( جبال طنجة ومنطقة سوس ). بحيث كان على طالب العلم الجديد أو المبتدئ أن يقيم زاهدا بإحدى هاته الأماكن لفترة معينة، ويخضع لقوانينها الصارمة وإشراف فقهائها وشيوخها الكبار حتى يتمكن من حفظ كتاب الله وفهمه وترتيله، إضافة إلى تعلم أصول الفقه والنحو وبعض علوم الدين وغيرها.. ومن ثَمَّ، يبلغ الطالب أو ” المحَضْري ” مرحلة التخرج، ويَشْرَع حينها في البحث عن ” عمل ” أو ” منصب ” كإمام ــ مثلا ــ في أحد المساجد أو مُدَرِّسا في كتاتيب ودور تعليم القرآن في المدن والقرى النائية.

فيما يُشْبِهُ نفس الوضع ونفس التقابلات الدلالية، يمكننا الحديث اليوم في مغربنا وفي عالمنا العربي والإسلامي، الذي ما زالت تطبعه الكثير من التراتُبيات والممارسات والتصورات التقليدية والتقليدانية في السياسية والاقتصاد والاجتماع، عن ظاهرة ” التَّخْناشْ السياسي “. فـما ” أَشْبَهَ اليوم بالبارحة ! “، إذْ ما زالت نفس الظاهرة ونفس التقابلات الدلالية قائمة في مشهدنا السياسي الراهن بشكل واضح وصريح. حيث ما زال بوسعنا أيضا تشبيه الكثير من أحزابنا السياسية وجمعياتنا ” الكُبرى ” بالرباطات والزوايا الدينية، و” الزعيم ” أو ” الفاعل ” الجديد، القادم إلى حقل السياسة بـ ” المحَضْري ” المتدرب، الذي يكون عليه أن يخضع بدوره، ليس فقط لإشراف الشيخ / الزعيم وسلطته، بل حتى لنزواته و” بَركَاته ” النَّافعة كذلك، حتى يتمكن هذا الوافد الجديد من الحصول على منصب قار ومحترم في الحزب : ما دامت المسئوليات في أحزابنا قد أصبحتْ مصدرا للوجاهة والثروة والنفوذ، ومناصب تؤدي بدورها أيضا إلى مناصب سامية أخرى في الحكومات ودواليب الدولة المريحة والناعمة.

والمتأمل لمشهدنا السياسي المغربي الراهن، يستطيع كذلك ـــ من دون جُهد كبير ــ التعرف على الكثير من الفقهاء والزعماء السياسيين الجدد ( يمينا ووسطا ويسارا )، والذين وصلوا إلى ما وصلوا إليه من مكانة وحظوة مرموقتين في الحزب وفي الدولة عن طريق ظاهرة أو عملية ” التَّخْنَاشْ ” السياسي، ثم بفضل الخصائص السحرية لعملية الاحتضان أو التبني من طرف رئيس الحزب أو رئيس الجمعية أو شيخ الزاوية ( لا فرق ). وبالرغم من أن نفس التشابهات ما زالت قائمة عندنا بين ظاهرتيْ ” التخناش الديني ” و ” التخناش السياسي ” شكليا أو ظاهريا على الأقل، إلا أن الكثير من الفروقات الجوهرية قد تبدو واضحة بين الظاهرتين كذلك، ليس فقط فيما يتعلق بالغاية، وبنوعية التكوين، ونوع الشواهد وحجم التزكيات والصلاحيات التي يمكن للمتخرج الحصول عليها من هاته المؤسسات، بل فيما يتعلق أيضا بنوعية ” الشيوخ ” و ” المريدين “، بطبيعة ” المُعلمين ” و ” المُتعلمين “، بقدرات ” المخنِّشين ” و ” المُخَنَّش ” لهم على حد سواء.

وليس كل من مَرَّ بمرحلة ” التَّخناش ” ومؤسساته القديمة والمُستحدثة، أو خضع لتكوينها وأقام بأقسامها ” الداخلية ” كذلك، قد يصبح بالضرورة فقيها أو زعيما سياسيا ناجحا ومحنكا. لدينا الكثير من النماذج والأمثلة : إذ يكفي الضغط على زر تشغيل جهازنا العجيب المُسمى بـ ” التلفزيون ” لنكتشف هذا الجيش أو الكم الهائل من المتخرجين من مؤسسات ” التَّخْنَاشْ السياسي ” المغربي، ونرى كيف يَشْرعون ــ بقدرة قادر ــ في التنظير ليوتوبيا السياسة وعافية الاقتصاد وصلابة الاجتماع، ويبشرون بغد أفضل لشعب وكأنه يقطن في السويد. شخصيا، كان لي الكثير من الأصدقاء من هؤلاء المتخرجين أو المُتنفِّعين من مؤسسات ” التخناش السياسي “، منهم المُدراء والعُمداء وحتى الوزراء .. لكنهم بعد استكمال التكوين وحفلات التخرج تنكروا لي ولشيوخهم وللكفيل ولمؤسسات ” تخناشهم ” السياسي .. و” اللَّهُمَّ أدِمْها نعمة واحفَظْها من الزوال “، أو لنقل فقط : ” اللَّهُمَّ لا حسد ” .. !

* شاعر وناقد فني مغربي



‫تعليقات الزوار

4
  • البونازي فتاح
    الخميس 9 يناير 2014 - 11:58

    لا شيئ مفيد و جميل و نافع نتعلمه من العرب مع الاسف الشديد-غير الفراغ و الدوران السزيفي البئيس في الماضي (ماضيهم القاحل جدا):لا فنون و لا اداب حقة عميقة و لا معمار (كما نرى تعقيداته في جهات اخرى و جماليته) و لا علوم حقة و لا تحليل سليم و لا منهج علمي رزين بعيد عن اللاهوتيات القديمة و الذاتيات البدائية الخ- لا صنائع و لا ثقنيات، لا شيئ غير اللغط و اللغو المرضي و تزييف الحقائق و التهرب من مواجهة التاريخ و الحاضر و الزمن – اه الزمن:نظريات التطور الرائعة قبل داروين و ما بعده و نظرته للانسان و للارض و للحيوان و النبات- فعلا ادخل الزمن و التاريخ و اتابع المحاضرات في ارقى المعاهد و الاكاديميات العلمية المحضة التي لا تؤمن الا بالمادة و التجربة و العلوم الحقة و العمل الجماعي بين علماء في قارات مختلفة خارج خزعبلات معجون اللاهوت الاستيلابي و النتائج الباهرة المجمع عليها بين علماء البيولوجيا و الجيولوجيا و علم الجينات و الفيزياء الخ- لا مجال للعاطفة هنا و للفلسفة و للاديان ذلك ان الطبيعة لا اخلاق لها بل هي بشعة الخ- اتجول في زمن الكون و الارض و الاحياء، و تطور البشر الخ- لا التفت الى جنون العرب

  • خ/*محمد
    الخميس 9 يناير 2014 - 12:55

    هذا هو النقاش الصحيح في الوقت الصحيح مع الاطراف الصحيحة ;لقد اتيح لهذه الحكومة فرصة نادرة لاصلاح الرعاية الاجتماعية مدفوعة بالحاجةالي المزيد من الشمول الاجتماعي والاقتصادي وكانت فرصة ينبغي اقتناصها خاصة لم يكن هناك وقت نضيعه
    لا نعرف مذا تنفق الدولة حاليا من اجمال الناتج المحلي على الحماية الاجتماعية الا ان الجانب الاعظم من هذه الاموال يذهب الى الدعم الشامل للوقود والذي اثبت عدم فعاليته في حماية الفقراء في اوقات الازمة ;بل يفيد الاثرياء بقدر اكبر بكثير
    فهيمنة الدعم المقدم للغداء والوقود بغية ضمان الحصول على السلع الاساسية لا يفر فقط وقاية هشة من الصدمات ;رغم تكلفته لكنه ايضا لا يفعل سوى النزر اليسير لمساعدة الناس على الخلاص من دائرة الفقر
    من خلال الاصلاح;يمكن اعادة توجيه الموارد الحيوية لتحويل شبكات الامان الاجتماعي الى ادوات تغيير مهمة فى الفترات الانتقالية .وهي تحتاج الى توجيه افضل للتاكد من انها تفيد الفقراءفقط ; كذلك اعداد سياسة اجتماعية قوية وفعالة تحمي الفقراء وتشجع على النموالاقتصادي الذي يشمل الجميع
    اصبت حين قلت الجيش او الكم الهائل من المتخرجين من مؤسسات(التخناش السياسي)

  • مغربي
    الخميس 9 يناير 2014 - 15:17

    هل أصبح الدين و رموزه شماعة نعلق عليها كل إخفاقتنا…كفاكم استهزاء بالدين

  • فقيه مقشقش
    الخميس 9 يناير 2014 - 19:42

    التخناش يا سيدي هو الرحلة لطلب العلم
    لماذا سميت بهذا الاسم؟
    لان الطالب يجمع ملابسه و ما يلزمه من قرطاس و لوح في خنشة اي كيس ثم يشد الرحال الى الشيوخ والمدارس أينما سمع بهم في أعالي الجبال
    ومازال الى اليوم اذا زرت جبال أغمارة ستصادف طلبة يحملون اكياسا خاصة في هذه الأيام عيد المولد النبوي الشريف ستصادف طلبة بخناشيهم وهم عائدون الى أهاليهم لان (التحريرة) اي العطلة بهذه المناسبة تدوم عندهم لمدة شهر تقريبا

صوت وصورة
المنافسة في الأسواق والصفقات
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 13:19

المنافسة في الأسواق والصفقات

صوت وصورة
حملة ضد العربات المجرورة
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 11:41 14

حملة ضد العربات المجرورة

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42 8

جدل فيديو “المواعدة العمياء”

صوت وصورة
"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:15

"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا

صوت وصورة
بيع العقار في طور الإنجاز
الإثنين 15 أبريل 2024 - 17:08 4

بيع العقار في طور الإنجاز

صوت وصورة
مستفيدة من تأمين الرحمة
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:35

مستفيدة من تأمين الرحمة