أوراق بين الأحجار..

أوراق بين الأحجار..
السبت 11 يناير 2014 - 22:46

(عن أطفال ونساء سوريا)

براميل تتساقط كالأوراق، براميل حبلى بالنار، والبارود، والدمار، حبلى بالغِلّ والحقد الأسود، تسقط جزافا، بالدزينة، عمياء، بلا رحمة، على المآذن والصوامع، والكنائس والبِيعَ والمتاحف. تسقط كشواظ من موت سائل زؤام على الأسواق والديار، والحواري، وعلى رؤوس العباد، على الأطفال والنساء والشيوخ، فإذا الكل مِزَقٌ وشظايا، وإذا الجميع شتات وفتات، أعجاز نخل خاوية، خراب وانهيار.

براميل، طير أبابيل العصر الأسود، عصر الشر، والقبح، والظلام، والمستهدف، الدريئة، نقطة التصويب : أطفال غِضَاضٌ- هِشَاشٌ، رقاق، ونساء شريفات مسيحيات ومسلمات، باكيات، ذاهلات، عاجزات، مُوَلِوْلات، يحضن، بما بقي من قوة فيهن، أكبادهن. وفوق الرؤوس الشعتاء، والشعور المرتعبة المتطايرة، والوجوه الشوهاء ، المترعة بالدخان ، ووخم الأمطار السوداء ، فوقها صُرَرٌ، وبطانيات مهترئة، وخبز يابس، وماء موبوء.

ما هكذا حلم الحب في لحظات كانت، لحظات مرت كأنها قصف رعد في ليل السُّرى والعجائب. لحظات الهناءة والسعادة، وهي تثمر أطفالا وطفلات كالأقمار، بذورا للآتي، ووعدا ماتعا للمستقبل، لبناء سوريا الماجدة، والإسهام في مسير البشرية العلمي، والتكنولوجي، والتنموي على رافعة الدراسة والتكوين والتحصيل والإنجاز.

ففي مثل الفجاءة، تمزقت الأحلام، وانتثرت بَدَدًا، وتكسرت كجرة الراعي في الحكاية، وتحول الزمن إلى كابوس جاثم، تحولت الديار إلى غبار، تلك الديار التي حفظت الكرامة، وأعلت من قيمة الساكنة والمواطنين… ديار إلى خراب، والملاجيء والمخيمات أهل ووطن وملاذ.

أوراق تملأ الرحب، والأحراش، والطرق الوعرة حيث الموت قنديل، واليأس أمل، والعراء خيمة وسلطان. لكنه الموت المدجج بالمناجل، والمُدَى، والنار. أوراق لا كالأوراق، فهي ليست أوراق الخريف على كل حال، رغم أننا في الخريف. إنما هي أوراق دفاتر، وكراريس، ومطويات إعلانات وبيوع، وكنانيش وعقود كراء، وترحال. بعثرتها يد الحرب، وَزَوَّقَتْ بها أديم الأرض، وهامات الهضاب والتلال والأشجار. أوراق لأطفال هالهم ترك أقلامهم ودفاترهم فهَرَّبُوها لتسقط منهم في عرض الطرق، والسبل المفتوحة على الرماد والرعب ، والمجهول.
إلى أين بهذه الأرتال من الأوراق، والبطانيات، والأواني البئيسة، والملابس الرثة، وجثامين الأحلام المتحللة؟

الملاجيء، والمخيمات مبتغى ودار، ولكن كيف، وبأي حال، ومتى الوصول، ومن يضمن الوصول، وهل تسمح الإقامة بقليل من النوم والصبر والكرامة؟ ثلوج فوق ثلوج، وعواصف مزمجرة، وعويل برد وشتاء، ولا موقد، ولا سقف. أطفال كَفَلَقِ الصبح يُقَفْقِفُون في ليل الذئاب. يعلوهم شحوب، فضمور فانطفاء، فموت. وأمهات حاسرات لطمن الخدود ، وشققن الثياب من لوعة وثكل، وخيام تترنح ضاحكات من “كوميديا” الحال، كوميديا السواد والرماد، و”دراما” المآل. صور تدمي، وتملأ العين بالقذى، وتسائل العرب العاربة، والعرب المستعربة، العرب الغائبة والعرب الخائبة، والمسلمين الكثار الكثار بالقنطار، تسائلهم قبل أن تسائل الضمير العالمي، الضمير الإنساني حول هكذا وضع وحال. تسائل العرب – المسلمين في دينهم، هل يسمح الدين باستمرار هذا الواقع الأليم، الواقع الزنيم؟ هل يسمح بالنظر –ليل – نهار، إلى هؤلاء الأطفال والنساء وهم في أحط صورة، عرضة للنهش، والثعالب، والذئاب، ومن غير العرب الأباطر المدججين بالدين والمال إلى فروة الرأس ذِئَابٌ. هم الذئاب والواويون والعقبان الجارحة، إذ يستغلون بؤس الأطفال والفتيات، وذل آبائهم وأمهاتهم ليزيدوهم إذلالا ما بعده إذلال. هنا سوق النخاسة، والانتقاء، والثمن البخس للحم الطري، الحي، البض. بيع وشراء، فقر كافر، وغنى فاحش وفاسق، وصور وقصص تتناقلها المحطات التلفزيونية، وقصاصات الأخبار العالمية، فإذا المسلمون في قفص، وإذا الأغنياء العرب حيوانات ضارية، وماكينات شبقية، ولا زاجر، ولا رادع من إنسانية أو دين أو آدمية أو خوف ، أو وخز ضمير .

ما الذي أبقيتموه للدين حتى لا يُنَالَ منه، ولا يتعرض للقدح، ويُنْعَتَ بأبشع النعوت من قِبَلِ الغرب والشرق، والأوروبيين، وأمريكا؟ ما الذي فعلتموه، وَعَبَّرْتُمْ به عن عظمة خُلُقٍ، وسلوك نبيل، وإنقاذ لإخوانكم وأبنائكم في الملة والنحلة؟ كيف تسمح لكم ضمائركم، هل لكم ضمائر؟، بالعَيْث فسادا، في أجساد ضامرة هَدَّها الجوع، وجففها العطش ، وأضواها المرض ، وضيق الحال، وإجرام النظام؟ ثم تذهبون إلى الصلاة وأنتم فرحون، لا تسري في أوصالكم رجفة خوف، ولا دبيب أسى وندم، فتركعون وتسجدون وأنتم مثقلون بالفسوق، والفجور، وأبشع أنواع الاستغلال، أيها الزناة؟ .

فأين يولي وجوههم هؤلاء النساء والأطفال؟ كيف يتقون البرد، ويتقون الجوع، ويتقون الاقتلاع والتهجير؟ ويتقون الذئاب؟

هم بين الكَمَّاشَتَيْنِ : كماشة نظام قاتل تمترس خلف ذاتية مريضة، وأنا متورم، لِيُسَوِّي العمران والإنسان بالعدم. وكَمَّاشَة “جماعات إسلامية”، تفتك، وتقتل الشباب، وتطبق نظام الحسبة، والتعزير، والقصاص، والحدود ، وتجاهد في النساء. أين المفر؟ وإلى أين الملجأ؟ أإلى نظام لم يعد يلوي على بلد يسمى سوريا؟، أم إلى جماعات جهادية قادمة من عصور الحجارة؟ أم إلى “إخواننا” في المخيمات والملاجئ حيث تنشط سوق النخاسة البيضاء، ومقايضة اللحم البشري الغض بدنانير، وريالات معدودات تَصُدُّ البرد إلى حين، وتُذْهِب الجوعة لأيام، وتُدفيء الجسد الضامر لبعض الوقت.

ومع إكبارنا لما تقوم به منظمات دولية لأطباء ومغيثين، وجمعيات حقوقية، ومتطوعات غربيات وعربيات عظيمات، فإن العرب مقصرون، والجامعة ذاهلة، دخلت بَيَاتًا لن تفيق منه حتى يُنْفَخَ في الصور.

ما لنا وصلنا إلى هذه الحال التي تُبْكي،؟ وما السر في الالتصاق بالحكم والسلطة حتى ولو تم ذلك على حساب البلاد والعباد. أيسمح فرد لنفسه أن يرى الخراب العام، والدمار المَهُول يُقَوِّضُ الحضارة التي بنيت عبر عديد القرون، ولا يطرف له جفن، ولا يعتريه الندم، والشعور بالخسة والحقارة وهو يرى ما يرى، فيدفعه “ضميره” إلى الإنسحاب والابتعاد؟

ألا يُبْكِيه ما يرى من مشاهد الموت اليومي، والعويل الطفولي والنسائي، وصراخ الحجارة والبنايات، وهي تهوي كعلب “الكارطون” على الأفاريز والأرصفة، والطرقات. غريب ومفجع أمرنا كعرب مسلمين؟ وأغرب منه استمرارنا حاملين بيارق المجد الموهوم، والماضي المردوم، ونحن لا شيء، صفر على اليسار، وثقب صديء في جدار؟.

أبكي لهؤلاء الأطفال، ولأمهاتهم وآبائهم وهم في العراء المُميت، أبكيهم وهم يذكرون أيام العز والهناءة والأحلام؟.. وهم يستحضرون، هل يستحضرون الآن؟، أعياد الميلاد، أشجار تنفض الخضرة الزاهية، وقناديل ملونة تزركش الأغصان، والممرات، وَدُمًى حمراء تغني للثلج البهيج، للثلج الجميل.. وأنامل تمتد إلى الهدايا الملونة، إلى الفُسْتق والبلوط، والكعك، والأشربة المختلفة، والموقد يهزج ساخنا.. وألسنة اللهب تتراقص، وتشتبك مع ندف الثلج التي تتلصص على الجالسين، من النافذة المواربة، أو التي فتحتها –بغتة- يد الريح.
لماذا يستمر أطفال العالم يحلمون، ويغنون، ويحتفلون، وينامون سعداء بين أحضان أمهاتهم، ثم يعودون قافلين إلى المدارس بعد انصرام العطلة، ويحلمون بغد مُعَبَّدٍ، غد قادم – لا محالة، يحمل لهم الأمل في أن يكونوا بُناتَهُ، ومنشئيه، وساداته؟

لماذا هم هكذا، ونحن هكذا؟ تلك هي المسألة فيما يقول عطيل؟

‫تعليقات الزوار

7
  • adel usa
    الأحد 12 يناير 2014 - 05:21

    هذا هو الحال حينما تقفل القلوب و يغيب الضمير اما الدين فلا احدثك عنه فقد اصبح كجلباب يرتديه المرء حسب مقاسه متى و اين يريد

  • à qui la faute?
    الأحد 12 يناير 2014 - 11:39

    qui est à l'origine de cette guerre destructrice entre un régime sanguinaire et des opposants à la solde des obscurantistes arabes qui fournissent l'argent et les armes pour détruire la syrie,
    c'est bien sur d'abord l'occident qui cherche à détruire la syrie pour assurer une paix éternelle à israel qui va conserver pour toujours le golan syrien ,ensuite les pays arabes ennemis de l'iran le maitre du sanguinaire Assad ,
    l'opposition syrienne a fait une erreur terrible en faisant confiance aux occidentaux qui l'ont lachée apres un accord avec l'iran,
    la faute et toute la faute incombe:d'abord aux syriens ,régime et opposition compris qui détruisent leur peuple devenu mendiant ,affamé et a quitté son pays pour se réfugier chez les étrangers comme les turks qui ont colonisé les pays arabes pendant 3siécles ,
    c'est un crime contre le peuple syrien ,crime de l'opposition et du régime!

  • said amraoui
    الأحد 12 يناير 2014 - 13:23

    الانسان عدو الانسان,الانسان يقتل الانسان,والنتيجة معاناة الانسان,فلا قدسية ولا جلالة لبني الانسان,ولا حرمة,ولا رحمة,ولا عقلانية,فهذه الحياة كلها معاناة وعذابات,للقاتل والمقتول,والغالب والمغلوب,مع اختلاف نسبي وزمني بين الجلاد والضحية,فبدون تعريف لماهية(الانسانية),فلن تنمحي ماساة البشر,لانها لعبة القدراللا زمانية واللا مكانية,رغم كل التاويلات والتشريعات السماوية والارضية,ما دامت كلها نسبية,لان الانسان يولد مادة(لا واعية) فتغرس في (لا وعيه)افكارا فوقية وافقية,شعورية وغير شعورية,فاذا كان (اللاوعي) بحر,(فالوعي) ليس سوى ربع فوق الكرة,الارضية,فكلمة( مكره اخاك لا بطل) ليست مسالة خصوصية او ظرفية, بل هي وصف لماساة وجودية,تراجيدية,على صعيد كل البشرية,فالعدل ليس سوى,رمز مثل كل الرموز السماوية(المثالية),فالضعف والهوان والخرف, الذي يصيب الانسان منذ ولادته الى حتفه,ينطبق على كل البشرية,فمحظوظ من سلم من هذه الحتمية,لذلك نجد ان انسانا يسخر من انسان, وقذ ينشذ شعرا,اوقدسية لتبرير,جريمته ضد الانسانية,دون ان يعلم انها حتمية (لاواعية),فشحذ السيوف,بدل شحذ ذلك الجزء المضيئ فينا (الوعي)هوالحرب الحقيقية ؟؟؟

  • cham
    الأحد 12 يناير 2014 - 14:08

    ألهذه الدرجة أصبحت سفيها يا إنسان
    دخلت متاهة و دوامة الرهان
    ضد أخيك ومع من مع الشيطان
    إنها قمة الخسارة بل خسارتان

  • الجيلالي الدكالي
    الأحد 12 يناير 2014 - 21:30

    سلمت يمينك حضرة الكاتب
    قد أجدت في رسم اللوحة المأساوية لحال أمتنا في الشام
    لكن أأستمتع بعذوبة الاسلوب الادبي أم أبكي على آلامي ومصائبي
    شكرا لك .

  • ziani abdelkrim
    الإثنين 13 يناير 2014 - 08:59

    BONJOUR OUSTADI SSI MOHAMED DU FAIT QUE VOUS ETES MON PARAIN ET MON PROF J AI TOUJOURS EU LE PLAISIR DE VOUS LIRE MAIS CE MATIN VOUS M AVEZ FAIT PLEURE OU SONT LES NATIONALISTES ARABES YA QUE LES BARBUS QUI SE PROMENENT SUR LA SCENE

  • morad
    الثلاثاء 14 يناير 2014 - 17:31

    تحية مفعمة بالود و التقدير لأستاذنا الكبير بودويك،
    قيل الكثير و كتب الكثير و عقد ت لقاءات عربية و دولية عدة حول
    ما يقع في سوريا.للأ سف الشديد بدون جدوى….

صوت وصورة
جدل فيديو “المواعدة العمياء”
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:42 6

جدل فيديو “المواعدة العمياء”

صوت وصورة
"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا
الإثنين 15 أبريل 2024 - 23:15

"منتخب الفوتسال" يدك شباك زامبيا

صوت وصورة
بيع العقار في طور الإنجاز
الإثنين 15 أبريل 2024 - 17:08 4

بيع العقار في طور الإنجاز

صوت وصورة
مستفيدة من تأمين الرحمة
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:35

مستفيدة من تأمين الرحمة

صوت وصورة
مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير
الإثنين 15 أبريل 2024 - 16:28 8

مع ضحايا أكبر عملية نصب للتهجير

صوت وصورة
تألق المدرسة المغربية لعلوم المهندس
الإثنين 15 أبريل 2024 - 15:55

تألق المدرسة المغربية لعلوم المهندس