الحكـومة السـوريالية

الحكـومة السـوريالية
الخميس 30 يناير 2014 - 13:10

ورثت حكومة عبد الإله بنكيران الأعطاب والأوصاب، وورثت النتابذ والتباعد بين أعضائها على رغم محاولتها إخفاء ذلك، والظهور للعموم، موحدة، منسجمة متماسكة، وذات برنامج مدروس، ومواقف متكاملة، واستراتيجية تدبيرية لكل القطاعات، متفق حولها، مُجْمَعٌ في صددها. كأنما عناها حافظ إبراهيم وهو يقول: راثيا اللغة العربية :

فجاءت كثوب ضم سبعين رقعة مُشَكَّلَةَ الألـوان مُختلفـات

علما أن واقع الحال السياسي المغربي لا اللغوي يقول أربعين رقعة وَبَسّْ.

فحول ماذا يجتمع الأربعون، وعلى ماذا يتفقون، وكيف يتصرفون، وهل في المجلس الذائع يتواصون، ويتداركون مَانَدَّ عن هذا القطاع، وانفلت من ذاك القطاع؟. يبدو لي أن الحكومة أخفقت في إخفاء تخالفها، واختلاف أعضائها، وتنازعهم في أمر، أو قضية، أو مسألة راهنة تتطلب تدخلا مستعجلا، وعلاجا طارئا. بل إن ذهول بعضهم عن حل بعض المعضلات يتكرر، وعند الشدة والاشتداد يتفجر، فيعري ضعف الانسجام، واهتزاز التماسك، وارتجاج التراص الموهوم. يتعلق الغمز بالنسخة الأولى من الحكومة البنكيرانية، كما بالنسخة الثانية.

فالبرامج الأربعة، المضروبة في عشرة بحكم العدد، ومقتضى الحاجة والأرب، تَنَامُ متثائبةً بين الأوراق الملونة، والصور “المُسَنْطَحة” التي كانت ديكورا، وتَزَيُّدًا، ومزاودة كاذبة، مضللة لعموم الناخبين الذين استدرجهم “النُّيُونْ”، وأغواهم الضوء كالفَرَاشِ، فإذا هم متهافتون، مهرولون إلى الإدلاء بأصواتهم، واضعين فيها، ذوب تطلعاتهم، وشوق مطامحهم في أن يروا تغييراً تَلَكَّأَ، وإصلاحا طال، وحلا تماطل لواقعهم الاقتصادي، والاجتماعي، والسياسي، والثقافي، والبيئي. برامج أربعة، زحفت ولا تزال كأنما هي قوائم جثة ضخمة تدب فيها الحياة بين الفينة والأخرى، ثم تَتَبَخَّرُ فجأة لتتركها بلا حراك. وهي برنامج الحزب القائد، الذي غيَّرَ من أحوال أصحابه، ولم يغير من أحوال الواقع المحيط الذي لطالما وعدوا وتوعدوا..

في أن يحققوا المنتظر، ويفضحوا الفساد، والمعيق المختصر. وبرنامج الحليف الذي تفرق أُيْدِي سَبَأ، كان ثم كأنه لم يكن، وربما فعل خيرا حين أدرك عمق الهوة، واستحالة إنفاذ ما وعد به الشعب إبان الصلصلة الانتخابية، والذي استبدل ببرنامج المنقذ: هذا الموصوف بكل نعت قادح، وكلام فادح، من تخوين، وتجريف لعِرْضِه و”تاريخه”، واستحثاث لتقديم قائده، وقادته للقضاء والمحاكمة، فإذا كل ما قيل ضجيج وعجيج، انقلب –ولله في خلقه شوؤن !- إلى مديح ناصع، وتمجيد صريح. أما برنامجه الذي يطويه بين جناحيه ففي الريح ذيله، وفي الماء حَيْزُومُه، ومقدمة رأسه.

ثم برنامج الرفيق الذي لم يَرَ بعد الطريق أو هو رآها، لكن مصلحة الوطن العليا، والمأرب الشخصي الدقيق، فرض الأولويات، ومنها التحالف مع “عدو” الأمس الصديق، أما المواطن فإلى حين، المواطن اعتاد الشقلبة، والتهريج، والتدبيج، والصبر الأيوبي اللصيق. و”للحركة” حراكها، وسعيها، حضورها وازن، وشخصها رازن ، يتقدمها الدف والرف والتماهي مع مشروع النظام من زمان، وهي توأم للحزب الأغلبي القائد، رضعت، رَضَعَا، تاريخيا، من ثُدَيٍّ واحد، ثدي حزب “الدفاع عن المؤسسات الدستورية”، و”الحركة الشعبية” الأولى، واقتبسا من نور واحد، نور عبد الكريم الخطيب. وإذا كانت الحركة لا تدعي في أدبياتها السياسية، وإيديولوجيتها، المَتْحِ من المرجعية الإسلامية على سَمْتِ مباشر –كما هي الحال مع حزب العدالة والتنمية، فإنها تلتقي – موضوعيا معه – في الرَّسمي، في المؤسساتي المخزني، والرافد المغذي والموجه الظليل الخفي.

هي ذي البرامج المُوزَاييكية التي تصلح للزينة، وللتأريخ، والوقوف مطولا عند المفارقات، والعجائب، أكثر مما تصلح للتوافق والتحالف، والتكاتف والتواؤم، والتكامل في تسطير برنامج موحد، ورسم استراتيجية محكمة متفق بصددها حول كل قطاع قطاع، فإذا النغمة واحدة، واللحن متساوق، والأوركسترا منسجمة، والمَايْسْتْرُو بارع في توزيع التناغم العذب، والتلاحم المطلوب، والتساوي المحبوب، والتصاعد المرغوب. غير أن ما يحدث ويقع يشكل لوحة سوريالية، فيها اللاوعي، والوعي، وفيها العقل الظاهر، والعقل الباطن، فيها النظر، وخائنة الأعين، وفيها النفس الأمارة، والأمزجة الأربعة الترابية، والمائية، والنارية، والهوائية، فيها الألوان مشتعلة، ومنطفئة، الأطياف، والأشباح، الجن والعفاريت، الأفاعي، والخنازير. و فيها الذئاب وأبناء آوى، والرغاب الشهوانية، والخوف من تضييع فرصة ما حلم بها حالم، ولا وردت –يوما- على خاطر، ولا زَنَى بها خيالٌ، وتفتق عنها وجدان مريض، أوَمُعَافَى ، أو مُحال.

وتبرز أكثر ما تبرز هذه السوريالية في الدفاع عن الحكومة. فكل يدافع، بطريقته المخصوصة التي تستند إلى بيان وأوداج، ما يعني أنها لا تستند إلى تناغم ومعقولية، ووضوح. وكل واحد، من هذا التكتل أو ذاك ، يدعي – من دون تلعثم- أن أمر البلاد سالك، والطريق معبد، والتنمية مُتطامنة، والخير عميم. ويدعي أن هذه الحكومة “الربانية” التي تحوطها عناية الملك، وتبارك خطاها ومسعاها، مرساها ومجراها، حققت ما لم تحققه الحكومات السابقة، وما لن تحققه الحكومات القادمة إذا لم يقدها الحزب الأغلبي في القادم من السنوات، وربما إلى آخر الدهر !!.لكننا نسأل الحكومة المصون، وفي مقدمتها رُبَّانُها: بربكم هاتوا المعطيات العلمية الواقعية عن ذلك، المؤيدة بالنواتج المحسوسة ، والتحققات الملموسة في كل ميدان، ميدان = في التعليم المغبون، كما في الصحة المفلسة، كما في الشغل المركون، كما في الحريات الفردية والجماعية، كما في معدل الدخل الفردي، كما في الثروة الوطنية المقسومة بالعدل والقسطاس على ساكنة الوطن !؟.

ونسأل : هاتوا برهانكم على أن ما تذهب إليه المندوبية السامية للتخطيط، مدسوس، ومتحامل، ومغرض ليس إلا؟ . كيف تكذبون أرقاما تبسطها المندوبية السامية، مَدْعومة بالمعطيات، ومسنودة بمعايير منصوص عليها، ومتفق حولها علميا وحسابيا، واقتصاديا إنْ هُنا أو هناك؟.

أليس في الواقع العيني، والمتعين، ما يكذب أقوال الحكومة، ويُزْرِي بتنطعات أحد وزرائها الذي خرج يطلق “رصاصاته” الطائشة ذات اليمين، وذات اليسار، من دون أن يصيب إلا نَحْرَه، ويلحق أعطابا بناصية حكومته حَسْمًا وَسَفْعًا؟

هل تكذبون الغلاء الفاحش الذي أجهز على القدرة الشرائية للمواطنين والمواطنات على مستوى الطبقتين التحتية بالطبع، ومستوى الطبقة المتوسطة؟ وهل تكذبون التردد والاضطراب الملموسين اللذين يطولان قطاع التربية والتعليم، والذي لم يحسم في كثير من قضاياه العالقة إلى الآن؟ كما يطولان قطاع القضاء، وقطاع الصحة، وقطاع السكن، ومجال الشغل والتشغيل، والتوظيف؟. وما وزن الحكومة في عين الشركات الكبرى والمتوسطة، والمقاولات؟ ما وزنها وصدقيتها في فلسفة الشراكة والتشارك مع القطاع الخاص؟.

ما جديدكم؟ “حَنَّةْ أيديكم”، “عبقريتكم” و”فروسيتكم” في المضامير، والمجالات المذكورة السابقة، وماذا فعلتم للدخل الوطني، وهل قَلّصْتُم الهوّة بين الطبقات، والفئات، ونجحتم في إقامة موازنة مضبوطة، ومقاصة منتجة عادلة، وتضريب يَسُرُ الدورة الاقتصادية كاملة؟. ماذا قدمتم من جديد يحسب لكم، وينضاف إلى “حسناتكم” الكثيرة التي أعلنت الحرب الضروس على الفساد، والتي ظلت حبيسة العنتريات، والخرجات المتلفزة والإعلامية لغرض تعرفونه ونعرفه؟.

هل تتوفرون على رؤية تسييرية ، وأفكارإجرائية ، وخطط تدبيرية مبرمجة ؟ أين هي ؟ أم أنكم تصطدمون بمحدودية معرفية سياسية ،وإدارية تفهم في الموعظة الحسنة والعبادة ، والتعبئة ، والتحشيد ، ولا تفهم ـ مقدار حبة خردل ـ في أمور السياسة ، والاجتماع ، والاقتصاد ، والمال والأعمال ، ولا تحمل مشروعا وطنيا تضعون له الميكانيزمات ، وتحددون فيه التوجهات التي تهم البلاد طرا ، والمواطنين كافة ؟ .

أما ونحن نثير مسألة الدستور “المعطل” لغاية لا يدركها إلا رئيس الحكومة، فالأمر أنكى وأدهى. ذلك أن الحكومة المصون ، تحظى- وهو ما لم تحظ به الحكومات السالفة – باختصاصات وصلاحيات واسعة، وسلطات قانونية دامغة، لم تستعملها، بل لم تُرِدْ أن تستعملها لسر يعرفه “العفاريت”، ولعله أن يكون مرتكزا أو مندسا، بالأحرى، في الحلم الذي زار الحزب الأغلبي كخلسة المختلس. فالدوام لله، والبقاء للأصلح، والأصلح في منطق الحكم، والسياسة والتدبير العام، هو من يعلو، ويسمو، وتتحقق فيه خَلَّة الكفاءة الكبيرة، وَخَصْلَة الإدارة المُحْكَمة ، وخاصية الإحاطة السياسية والتدبيرية، وعنفوان “الكاريزما”، كاريزما رجل الدولة. وحسبنا تعميما حتى لا ندخل في التفاصيل، لأن التفاصيل لا تتسع لها هيئات مدبري شأننا العام –الآن- على مستوى الحكومة- إلا النزر القليل- وهو معروف، على كل حال لدى الرأي السياسي، والاقتصادي، والثقافي، والحقوقي ببلادنا-. ولعل هذه الحقيقة التي أثَرْت، هي الفيصل في ما يتداول ويقال، وأعني بها حقيقة أن الدولة أكبر من “بعض” الرجال.

وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فإن جُلَّ ما نعيشه من سوريالية، و “قفشات “، وسيناريوهات مضحكة مبكية، وتعطيل لبنود الدستور، وعدم إعمال لكثير من الاختصاصات، وإغلاق أبواب الحوار مع الهيئات والنقابات، وتهميش الأحزاب في قضايا سياسية استجدت، وطرأت في الآونة الأخيرة، بعدم استدعائها من لدن رئيس الحكومة، للتشاور، وطلب رأيها بحكم خبرتها وتجربتها ومعرفتها بالملفات المختلفة، جل ما نعيشه، مصدره فجائية تَسَنُّم ذرى السلطة والحكومة، ومباغتة الحراك للأمر “الجلل”، ومساهمة السياق التاريخي في صنع الحدث “الخطير”، في وقت لاتزال “الكاريزما” غائبة والقامة القمينة بالدولة غير ناضجة، وقراءة الملفات الكبيرة بعين إدارية خبيرة، واقتصادية مجربة، ورأي سياسي عميق وبعيد وراجح، تعاني الحَوَلَ، والخلط و”الزَّرْبَة” لِلْبَتِّ والقطع في ما لا يقبل الزَّرْبة”… وتلك هي الطامة.. والسوريالية بعينها، السوريالية السياسية طبعا، وإلا فإن السوريالية في الأدب مِلْحٌ وفَتْحٌ يعرفهما الشعراء والتشكيليون والمبدعون بعامة.

اشارة:

تحدثنا عن البرامج الأربعة للحكومة المتحالفة ، وفي البال ـ طبعا ـ وزراء التكنوقراط الذين لهم أجندتهم الخاصة ، ومظلتهم الشخصية ، وواقعيتهم الحادة ، وبراغمايتهم المعروفة ، ولادستوريتهم المعلنة .

‫تعليقات الزوار

4
  • أبو نسمة
    الجمعة 31 يناير 2014 - 10:07

    ما تأتينا به المندوبية السامية للتخطيط هو ثمرة بحوث علمية ميدانية يقوم بها ويشرف عليها مهندسون و مختصون في منهجية البحث وفي طرقه ووسائله، لهم من التجارب الميدانية ما تشهد عليه عشرات السنين وعشرات الدراسات الصادقة علميا. تعتمد معايير ومؤشرات وأدوات إحصائية معمول بها في كل الدراسات المحترمة دوليا, الطعن اللاأخلاقي واللاعلمي الذي يدلي به بين الفينة والأخرى بعض المسؤولين ما هو إلا أسلوب من الأساليب المغالطة والمتحايلة على المواطن الذي لا يدرك في الغالب الفرق بين الدراسة العلمية والكلام مثل الذي يقال في بعض اللقاءات العشوائية التي تفرض عليه من خلال التلفزة وما شابهها. الوزير الوفا، للتذكير، هو من سبق له الطعن في نتائج دراسة دولية حول التعليم في المغرب صرح بأن ما قيل خاطئ وهو يتحدى المنظمة الدولية التي أنجزت التقرير وهو سيمنع هذه المنظمة من الاشتغال على القضية التعليمية في المغرب. هو الذي نعت أحد رموز العلم المتخصص في البيداغوجيا ب بوشعكوكة. قرر التخلي عن بيداغوجيا الإدماج في الوقت الذي وصلت لمرحلة التنزيل وشكلت جهويا ومحليا خلايا لإتمام العمل وفق الواقع وبمعية أهل الدار وبالخبرة الوطنية.

  • أبو علاء
    الجمعة 31 يناير 2014 - 15:06

    كما عودنا دائما كاتبنا و شاعرنا الراقي السيد بودويك، تحليل رائع و بأسلوب أروع للوضعية الكارثية و المأساوية للحكومة البنكيرانية على جميع الأصعدة؛
    كلنا شوق لمزيد من مقالاتك سيدي

  • ابو حاتم
    الجمعة 31 يناير 2014 - 23:09

    حكومة بنكيران تتعامل مع تقارير المندوبية بنوع من الوصاية، فهي وموضوعية حين تتفق مع توقعات الحكومة لكنها تصبح غير موضوعية حين ترصد حقائق ومعطيات تتعارض معها ، مما يكشف إن الحكومة تسعى الى إسكات أي صوت يعارض الصورة الوردية التي ترغب حكومة بنكيران في تسويقها للمغاربة ، والغريب في الأمر أن تقارير المندوبية كانت تحظى بالإشادة حين كان حزب العدالة والتنمية في المعارضة، فهل المندوبية هي التي تغيرت أم أن حزب بنكيران هو من انقلب على مواقفه السابقة؟؟.

  • aziz
    السبت 1 فبراير 2014 - 16:30

    تكتب في جميع المجالات وتنتقد في جميع الإختصاصات ، ولم تنجح في الواقع حتى في تدبير أصغر منصب منح لك فيا للعجب ألا تستطيع الصمت؟!

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 4

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 1

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 2

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة