دلالات محاكمة نَجْلة الملك

دلالات محاكمة نَجْلة الملك
الثلاثاء 11 فبراير 2014 - 21:04

عندما يتعلّق الأمر بعُلوِية القانون وسُموّه فوق الجميع، بمن فيهم أفراد العائلة الحاكمة، فإنه لا مجال للمهادنة أو الاستثناء. فالمسألة التي نحن بصدد الكتابة حولها لا تتّصل بجريمة كبيرة يمكن أن يقال أنها خطيرة ولا تحتمل الحصانة الأميرية، وإنما يتعلّق الأمر بقضية شائعة في بلدان “ما قبل الديمقراطية”، حيث انتشار الاقتصاد الرّيعي، وتكريس الإعفاء الضريبي، واستثناء “عِلّية القوم” من الإلزام الضريبي. فبعد ثلاث سنوات من البحث والتحرّي، وبعد محاولات تفادي الإحراج الموجّه للعائلة الملكية، قام القضاء الإسباني بتوجيه تهمة “الفساد والتهرّب الضريبي” إلى الابنة الصغرى للملك خوان كارلوس؛ إذ لأول مرة يحال فيها أحد أفراد العائلة الملكية في هذا البلد إلى محكمة، ليس لأن القضاء كان يغضّ الطرف على هؤلاء أو أنّه كان يتلقّ التعليمات حتى لا يحاسب من تُعرضه عليه الشرطة القضائية، وإنما لأنه أول مرة في التاريخ المعاصر لأسبانيا يتورّط أحد أبناء الملك في قضية فساد من هذا القبيل.

غير أن اللافت في المسألة، هو حجم التأييد الشعبي لمحاكمة الأميرة كريستينا، والمطالبة بعدم تمكينها من أية سبل استثنائية، إذا خرجت تظاهرات شعبية ترفض أن تُنقَل الأميرة في سيارة خاصة للمحكمة. ليس لأن الشعب يكره الملك ويريد أن يصّفي حساباته معه، بل لأن الشعب يرفض أن تُنتهَك القوانين من أيٍّ كان. ولم يخرج دعاة “احترام الملك” نظرا لما قدمّه لاسبانيا، لكي يرفعوا صوره ويطالبون بالغفران، حتى لا يتم تشويه صورة الدولة الاسبانية أمام العالم، بل إن التصريحات التي تنقلها وسائل الإعلام عن المتظاهرين تطالب الملك نفسه بالتخلّي عن العرش. فالشعب الاسباني يمّيز بين الدولة التي يجب أن تُصان قوانينها، وتُحفظ ثرواتها، وبين الحاكم كيفما كان شأنه، وكيفما كانت مكانته والخدمات التي أسداها للبلد.

ولعلّه من المفيد في هذا السياق، التذكير بالمنجزات التي قدمها العاهل الاسباني لبلده مباشرة بعد توليه للحكم، حتى تتَّضح الصورة أكثر. فمنذ وصوله إلى عرش المملكة، وخوان كارلوس يفاجئ المواطنين بمفاجآت كلها تسير نحو تكريس الديمقراطية، حيث كانت المفاجأة الأولى تتعلق بتمرّده على الإرث الفرانكوي؛ إذ أنه من المعروف أن “فرانكو”، لما أحسّ بدنوّ أجله، استدعى “خوان كارلوس ” حفيد الملك “الفونسو الثالث عشر ” بدل استدعاء والد خوان المعروف بميولاته الديمقراطية المرفوضة من قبل فرانكو، وعينه سنة 1969 خلفا له. لكن، وبعد وفاة فرانكو سنة 1975، كشف خوان كارلوس عن ميولاته الديمقراطية، عبر إقالة رئيس الحكومة “كارلوس ارياس نافارو ” الذي لم ترضه سياساته المتحدِّرة من الإرث الفرانكوي، وعَيّن الإصلاحي “أدولفو سواريز” بديلا عنه، والذي أشرف على سياسة إصلاحية تُوِّجِت بدستور 1978، الذي صاغه برلمان منتخب بصفته لجنة تأسيسية. كما رفض الملك التدخل في الحياة السياسة عقب الانتخابات التي فاز فيها الحزب الاشتراكي، عندما ردّ على أحد مستشاريه، الذي كان يحرّضه على رفض وصول الحزب الاشتراكي إلى الحكومة، بالقول “أنا أقسمت على احترام الدستور وعلي احترام نتائج الانتخابات كيفما كانت خلفية الفائز فيها”.

كما فاجأ الملك الجميع عندما رفض الانقلاب العسكري الذي حاول الجيش القيام به عبر اقتحام البرلمان خلال فترة انعقاده، فكان الملك مرة أخرى حازما في قراره بدعوة الجيش إلى الرجوع إلى ثكناته وترك السياسة للسّاسة، إذ انصاع قادة الجيش لأوامر الملك التي لم تكن تسندها أي قوة عسكرية، باستثناء ثقة الملك في نفسه وثقة شعبه فيه، رغم أنه ملك يسود ولا يحكم وتغيب عنه السلطة التنفيذية، وإن كان يمسِك بالسلطة التقديرية والمشروعية. وعن سن ناهز ال 74 سنة، قام ” كارلوس”- بعد رحلة صيد الفيلة إلى “بوتسوانا “رفقة أحد المليارديرات العرب، تعرّض الملك لموجة من الانتقادات التي ركزت على ” بدخه” واستهتاره بمشاعر شعبه الذي يعيش حالة تقشف بفعل الأزمة الاقتصادية- بتوجيه خطاب اعتذار للشعب الاسباني يقول فيه بالحرف ” أعتذر، هذا لن يتكرر أبدا”.

ورغم أن الدستور الاسباني والقوانين المعمول بها، لا تلزمه بالإعلان عن ميزانيته أو ميزانية عائلته، إلا أن الملك المعروف بخرجاته الديمقراطية وبسلوكه السياسي الهادف إلى تكريس مبادئ المساواة أمام القانون، أبى إلا أن يشرك أبناء شعبه في تفاصيل حياته المالية، إذ قام بالإعلان عن ممتلكاته وممتلكات عائلته، مع تأكيده على أن الجميع سواسية أمام القانون – في إشارة إلى محاولة زوج ابنته استغلال نفوذه للتحصل على أموال جمعية يسيرها سنة 2004 – وذلك حتى لا يُضيع رصيده الشعبي وكفاحه الطويل من أجل تكريس الديمقراطية في بلده. ونظرا للأزمة الاقتصادية التي تعيشها اسبانيا، وفي إطار سياسة التقشف التي تنهجها حكومة البلاد، وفي ظل الاحتجاجات الشعبية المناهضة لهذه السياسية، أعلن القصر الملكي الإسباني أن الملك خوان كارلوس سيخفض راتبه بنسبة 7.1% أي بقدر عشرين ألفاً و 910 يورو وخفض راتب ولي العهد، ليحترم بذلك خطة التقشّف الحكومية التي تَفرِض خفضاً مماثلاً على كافة الموظفين الحكوميين المحرومين من علاوة نهاية السنة.

لكن رغم هذا المسار الطويل من الخدمات التي أسدها “كارلوس” إلى الشعب الاسباني، إلا أن هذا الأخير لم يكن ليغفر له انخراط نجلته وزوجها، في قضايا فساد مالي. فلا يمكن لأي مواطن داخل الدولة أن يخرق القوانين الجارية، أو يكون محطّ استثناء ضريبي. لأن الشعب الذي عانى من ويلات الحكم الاستبدادي لا يمكنه أن يفرّط في مبدأ “القاعدة القانونية يجب أن تكون عامّة ومُجرّدة”، لأن أي تجاوزٍ في هذا المجال من شأنه أن يُؤسِّس لسلوك يتنافى والقيم الديمقراطية التي انتدب الشعب نفسه للدّفاع عنها، وقدم في سبيلها التضحيات الجِسام.

* باحث في العلوم السياسية
[email protected]

‫تعليقات الزوار

10
  • مغربي وأفتخر
    الثلاثاء 11 فبراير 2014 - 22:44

    الديمقراطية وترسيخها يعتبر سفينة النجاح وطوق النجاة ولكنها كلمة لم تذكر في القرآن الكريم "العدل أساس الملك"رسالة واضحة لكل ملوك ور ؤساء العرب واعتبروا يا أولي الألباب

  • التازي
    الثلاثاء 11 فبراير 2014 - 23:11

    من يجرؤ على محاكمة اصحاب شقق باريس؟ ومن يجرؤ في مغربنا الحبيب على فتح ملف النجاة؟ من يجرؤ على المطالبة بالتحقيق في اموال صندوق التقاعد ولارام والسياش …؟من يجرؤ على المطالبة بالتحقيق في صفقات الخصخصة؟؟من يجرؤعلى المطالبة بالتحقيق في اموال جامعة الكورة؟ …………………………انه المغرب الديمقراطي الحداثي الذي يحاكم فيه سراق الغسيل من فوق السطوح…ويعفى فيه عن سارقي السياش ولارام والنجاة وشقق باريس وووو

  • said amraoui
    الثلاثاء 11 فبراير 2014 - 23:56

    الى الاخ(مغربي وافتخر) الديمقراطية, هي الية سياسية اولا لاستقلالية المؤسسات, لضمان وتكريس الثقافة الدمقراطية, والتي من بينها العدل,كما ذكرت, والمساواة في الحقوق والواجبات,وسيادة القانون على الجميع, عبر تعاقد مجتمعي موثق ومعلن ومنتخب من الشعب, عبر التصويت بالقبول او الرفض, اما (القران الكريم)فهو المرجعية لتحقيق هذه العدالة الاجتماعية, في كل المجالات عبر التوافقات والمشاورات, ودسترتها, في الوثيقة الدستورية التي يصادق عليها الجميع, اما مسالة الدمقراطية ,لم يات بها (القران الكريم), فلا يعني انها بدعة اوحراما, والا ما فائدة الاجتهاذ الدي يقوم على الاستنباط او الاسناد او القياس؟ كما ان الرسول (ص) قال (انتم ادرى بشؤون دنياكم), وكما قال (ص) (الحكمة ضالة المسلم اينما وجدها ,فهو احق بها), وما فائدة الحكمة ان لم يتم توثيقها وتعميمها, والاقتداء بهديها, من طرف العموم ,عند معرفة مزاياها ومنفعتها لهم ولاولادهم في الحاضر, والمستقبل, كما ان الدمقراطية ليست (عقيدة) بل وسيلة قد يتم التلاعب بها, لصالح الدكتاتورية او الاستبداد,, ودور المجتمع هو حمايتها ومراقبة تطبيقها من كل الاطراف؟ حاكمين ومحكومين؟؟

  • jerimy
    الأربعاء 12 فبراير 2014 - 05:13

    دول تحترم نفسها ولا ينصاعون لعواطف الأقارب ، أما عندنا فيعفى عن مغتصبي الأطفال و سارقة المجوهرات بسفارة المغربية بروسيا التي حكم عليها بسنة سجنا و ٱستفادة من عفو ملكي في الشهر الأول و العفو عن خالد عليوة و خال الملك الذي أطلق النار على رجل شرطة . وعدد كبير من أبناء الوزراء والجنيرالات و الولاة والعمال يتاجرون في الكوكايين ويغتصبون بنات الشعب وتطوى ملفاتهم على عجل، وكيف سيحترم مسؤولو آلدول الغربية حكامنا وكيف سيتقون في نظامنا آلسياسي والقضائي ؟؟

  • محمد أيوب
    الأربعاء 12 فبراير 2014 - 06:59

    يحيا القانون:
    "..قام القضاء الإسباني بتوجيه تهمة "الفساد والتهرّب الضريبي" إلى الابنة الصغرى للملك خوان كارلوس.."..هذه هي الديموقراطية الحقيقية..لا أحد فوق القانون اطلاقا،مهما كانت مكانته ومرتبته…في بلدنا لا يمكن أن يحصل مثل هذا.. قضاتنا ليست لهم الشجاعة لمحاكمة ذوي السلطة والنفوذ والمال عندنا مهما نهبوا وسرقوا واستغلوا وطغوا وتجبروا…تذكروا قضية خالد عليوة وقاضي طنجة وقضية نجاة أبو علي وغيرها كثير وكثير جدا قام قضاتنا "العادلون جدا" بتبرئة المتهمين وتم العفو عن بعضهم وبالتالي هاهم يستمتعون بما نهبوه وسرقوه وما استفادوه من نفوذهم وسلطتهم…ان كل من يزعم أننا بلد ديموقراطي فيه دولة حق وقانون فهو واهم أو كاذب أو مغفل… الديموقراطية تقتضي مساواة الجميع أمام القانون:لا فرق بين هذا وذاك على أساس النسب والمال والسلطة والنفوذ..وهذا غير موجود عندنا..بل العكس هو الحاصل…فعلية القوم وذوي السلطة والنفوذ-مهما كانت رتبهم-لا يطبق عليهم القانون،ليس لأنهم لا يخرقونه بل لكونهم يستغلون وضعهم لتعطيل تطبيقه عليهم..والمضحك هو ما نراه من قضاتنا الذين يطالبون باستقلال سلطتهم بينما هم أول من يحكم بالظلم.

  • Abdou
    الأربعاء 12 فبراير 2014 - 11:16

    You want to make an illusion, you have to know that French killed their King, go forward and the jew killed the prophets. So, Stop ! and discuss real topics.

    Wasaalam ala mani tba3a al-huda

  • لوسيور
    الأربعاء 12 فبراير 2014 - 12:07

    لاقياس مع وجود الفارق….الجنس الآري سيد الاجناس….حتى اليهود اقاموا دولة ديمقراطية….والعربي كما قال ابن خلدون ضد التمدن والتحضر والعمران….ما يتقنه حكام العرب هو قطع الاعناق وأكل الارزاق

  • العدل اساس الحكم...
    الأربعاء 12 فبراير 2014 - 13:00

    هذا ما تفرضه مبادئ الديمقراطية وسيادة القانون ووعي الشعوب حيث تربط المسؤولية بالمحاسبة.
    أنظروا ما يعانيه ملك لا تسمح له ديانته بالزواج بأكثر من واحدة فيكون له قليل من الابناء والبنات ومع ذلك تتلطخ سمعته بمشاكل عائلية.
    أما عندنا فالحاكم له مثنى وثلاث وربع وما ملكت يمينه فيكون له من الابناء و البنات والاصهار والاحفاد ما تجود به الارحام من الاعداد والكل يفتح عينيه على حياة الدعة والترف فيبحث عن مال الريع أينما وجد.
    ديننا الحنيف فيه أرقى الأحكام ولكن طمستها بعض الاجتهادات و أودعتها الرفوف منذ ان تم الإفتاء بالإمساك عن الخوض فيما جرى بين الصحابة.
    فأول ربيع و حراك وانتفاضة وتمرد وثورة ضد الفساد والإستبداد كان في عهد
    الخليفة عثمان بن عفان (ض) الذي قتل بسبب سوء تصرف البطانة وسوء الاستشارة حين قيل له لما جرى الحديث بخلعه "لا أرى أن تسن هذه السنة في الإسلام كلما سخط قوم على أميرهم خلعوه لا تخلع قميصا قمصكه الله" وهكذا كلما تقمص حاكم عندنا قميص الحكم رفض خلعه عن طيب خاطر اواحتراما للتداول الديمقراطي للسلطة إلى أن تجرفه ثورة أو إنقلاب أويقدر الله وفاته. ولو فسد أقاربه كما في عهدعثمان .

  • عبدو
    الأربعاء 12 فبراير 2014 - 14:54

    الديموقراطية اساس تخليق المشاهد السياسية والاجتماعيةووووومن المفروض ان يطبقها الحاكم اولا وينعم بها ويكون قدوة وعبرة لباقي طبقات الشعب

  • مواطن
    الأربعاء 12 فبراير 2014 - 21:22

    تعميما للفائدة : ما معنى كلمة "نجلة"؟ وفي أي قاموس عربي وجدتها؟

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات