ثلاجة.. لا تثلج الصدر

ثلاجة.. لا تثلج الصدر
الثلاثاء 4 مارس 2014 - 11:51

يحين المساء. تُلملم الشمس أشعتها المُتعبة تأهبا للرحيل.. للتواري خلف المحيط. يزحف اللون الرمادي البارد على سماء البيضاء الشرقية. يغطي غابة إسمنتية مطلية بالجير الباهت. عمارات تنبت كالفطر في غفلة من الزمان، وأعين حراس التمدن والجمال. يقترب الرمادي من السواد. تُطلق المصابيح الكهربائية العمومية، النادرة، ضوءا خجولا. تستعيد مدينة الأموات “الرحمة” المحاذية صمتها وسكينتها.

تتقاطر فلول العائدين من رحلة يومية طويلة. غياب يمتد من الظلام إلى .. الظلام. يتسللون، مضطرين في غبش الصباح بحثا عن أسباب العيش في الأحياء البعيدة، راجلين، مكتظين في العربات، في الحافلات، أو مغامرين في أية وسيلة عابرة. يقفلون، في المساء عائدين إلى مراقدهم البئيسة، محملين بالقسط اليسير، وبأوهام وحكايات تنعش خيال جحافل المنتظرين في الصناديق الحجرية المختنقة، في زوايا الأزقة، خلف النوافذ، أمام الأبواب. وقد لا يعودون. يلتئم شمل العائدين بالمنتظرين العاجزين أو المخلّفين أو المستفيدين من المكوث، أو اليائسين من عبثية التنقل اليومي. يتكدس الجميع في علب من الآجر، تحت سقوف واطئة، خلف جدران يخترقها شخير الجيران، وكبت آهات الليل المسروقة.

تنتظر السيدة ” زينب” أمام بوابة العمارة 20. من المجموعة السكنية 53. شابة يبدو أنها تطل على الأربعين. كل شيء في مظهرها داكن، حتى عيناها العسليتان. موعد يومي مقلق، مثير. تنتظر في نفس الموقع إلى جانب الأمهات في انتظار الأطفال العائدين من مدارس الأحياء القديمة. لا مدارس. لا مرافق عمومية. لا خدمات اجتماعية. لاخضرة في الغابة الإسمنتية. تتلهي النسوة باجترار حكاية الحوادث اليومية التي لاتفتأ تنمو وتتطور.. تستمر “زينب” في التحديق في فلول العائدين من الأطفال. تزداد لهفتها وهواجسها. ينفلت صغارها الثلاثة من بين الزحام. تلحظهن. يهدأ التوتر.. تشرق العينان العسليتان.

يهرع نحوها أطفالها الثلاثة: فهد، فاروق، ناريمان. أسماء من معجم النبلاء. لا ضير في القليل من البلاغة. يصل الأطفال إلى بوابة الصندوق الكبير. يرمون محافظهم الثقيلة أمام أقدام الأمهات. يستجمعون ما تبقى من طاقة مستهلكة. يسارعون الخطى نحو الطوابق العليا في جلبة وضوضاء، تاركين أحضان الأمهات ممدودة.. مُحبطة. تنحني “زينب” نحو محافظ أبنائها. تتابع الأقدام المتلاحقة. تلحظ حالة الأحذية المتردية. تبتلع الأمر. تحمل المحافظ. تشرع في الصعود.

ينتهي سباق أطفال “زينب” عند الطابق الرابع. الشقة 35. يدفعون الباب المُشْرع. يدلفون بلهفة بالغة، بعيون مغمضة، بأمعاء فارغة. يعبرون حجرة من خمسة أمتار، تُدعى، ظلما، صالون الضيوف. لم يعيروا أي التفاتة إلى الأب “رشيد”. أربعيني، مُيَاوِم متعدد المواهب، ضئيل الحظوظ، نادر الفرص. لم ينتبه الأب بدوره إلى المشهد المألوف. يظل متمددا علي أريكة من القش، يوزع نظراته بين جريدة قديمة وجهاز تلفاز صامت. يلج الأطفال علبة المطبخ الضيقة. تتسابق الأنامل نحو الثلاجة. يُفتح الباب العلوي. ثلج مُكوَّم بدون وظيفة.

يُفتح الباب السفلي. الفراغ سيد المكان. تتجمد الأنامل. تقشعر الجلود. تجحظ العيون. تعجز العقول الصغيرة عن الفهم. تنطلق الذاكرة نحو شذرات من الزمن الماضي. تستجمع العناصر الغذائية لإعادة تأثيث الفراغ الأبيض: هنا بيْض، هنا جُبن، هنا حليب، مُربى، لحم، علب سردين.. في الأسفل خضر متناغمة الألوان. يتذكرون. يبدعون. يحلمون بوجبة ساخنة، شهية. يسيل ريقهم. يعودون إلى نقطة البداية، إلى عيد الجياع. ثلاجة جديدة، كبش سردي، أوراق نقدية متبقية من مبلغ الاقتراض السنوي. شواء، دخان كثيف، ضحكات “رشيد” الثملة، حركية “زينب” المتراقصة. وداعة الجيران ووجوههم الباسمة. يشبع الأطفال حلما. يئِنّون ألما. يصرخون احتجاجا.

تصل “زينب” لاهثة، مقطوعة الأنفاس. تلقي المحافظ أرضا. ترمي جسدها المتهالك أسفل الأريكة. تسد أذنيها، يذوب عسل عينيها في بياض الثلاجة، في اصفرار الوجوه الجائعة. يدفن “رشيد” رأسه بين صفحات الجريدة الخالدة. يتسرب اليأس إلى النفوس الصغيرة. يخرصون أصواتهم. يبتلعون تمردهم. يتهاوون في تراخ وعياء. يعم الصمت. تظل الثلاجة مُشرَعة. يتسرب صعيقها المخنوق. تنتشر البرودة في أجواء الصندوق. يكبر السؤال. تبتلع “زينب” لسانها. لا حل بين يديها. ستأخذ حصتها من الرصيد المتبادل بين الجارات بالتناوب بعد ثلاثة أشهر. آنذاك يمكنها الكلام. يفهم الجميع صمتها. تتجه الأنظار نحو “رشيد”. يمتعض. يشعر بالحرج. ليس لديه ما يقول. كل وعوده تبخرت. الطلب على حِرفِه المتنوعة شحيح. يجيل النظر بين العيون المحيطة. يبتسم متوسلا الصبر. يتحسس جيوبه الكثيرة عبثا. العيون تلاحقه. ييأس. يشعر بالضآلة، بالدونية. تفقد عيناه وجهتهما. ترتجف شفتاه. يتصاعد الصداع إلى رأسه. يمتد بصره نحو الثلاجة الفارغة. يرمي الجريدة. يقف متوثبا. تنكمش “زينب”. ترتمي الصغيرة على ظهرها. يظل الطفلان جامدين محملقين ببلاهة. يتجه “رشيد” إلى الثلاجة. يصفق بابيها بعنف. يخترق الصوت جدران الصناديق المجاورة. يتراجع خطوة إلى الوراء. لا فضاء لخطوات أخرى. يتقدم خطوة. يفتح الثلاجة.

يفزعه الفراغ. يصفقها. يزداد العنف تأججا. يضع يديه على رأسه. يسلط نظرة شريرة على الأشباح الجائعة من حوله. يرفع نظره نحو الأفق. يتصفح لائحة مديونيته. تتهاوى القروض فوق رأسه المشتعل شيبا قبل الآوان. قائمة قرض للسكن طويل الأمد. قروض استهلاكية متنوعة: الدخول المدرسي. أضحيات العيد المتوالية. ديون الجزار، الخضار، مقسط السجائر.. مصاريف الماء، الكهربا، النقل، غاز البوتان .. نسبة عجز خارج كل المعادلات. يبتسم. يضحك. يتعالى ضحكه بعصبية وهستيرية. زينب مندهشة. الأطفال واجمون. يدور حول نفسه. يعود إلى الثلاجة. يفتح بابها العلوي. يحط رأسه فوق الثلج. دهشة الأشباح عارمة.

تمر الدقائق بطيئة. تُفيق “زينب” من جمودها. يتعالى الصراخ. يسل “رشيد” رأسه من الثلاجة. يلتفت مبتسما. يعود متباطئا إلى أريكته. يأخذ وضعه السابق في هدوء، برأس بارد جدا. يفتح جريدته القديمة على مصراعيها. تنضم إليه الزوجة والأطفال. تستعرض العيون العناوين الكبرى، تدقق في التفاصيل. تبحث جاهدة عن مدلول آخر للثلاجة في هرطقات السياسيين، في تراهات الاقتصادانيين، لدى خبراء الأرقام والنسب والمعدلات، لدى اللاهثين وراء التوازنات الكبرى، من أجل رفع الأرصدة الكبرى.. من أجل شحن، تأثيث الثلاجات.. الكبرى.

‫تعليقات الزوار

5
  • les écrasés
    الثلاثاء 4 مارس 2014 - 14:34

    Les misérables désespérés marocains du 21 ème siècle ! Ils souffrent en silence.. se forcent de survivre, et finissent par agonir… en silence…, loin du monde des politiciens menteurs ,toutes couleurs !! qu’ils soient des rouges , des libéraux ou des demi barbus spéculateurs de religion.
    Professeur Tarous , on a pris du plaisir à lire votre texte, comme toujours ! et cela fait de vous un grand écrivain visionnaire de sa société

  • جلال المزغوب
    الثلاثاء 4 مارس 2014 - 18:55

    ومضة سريعة ، انتزعها الكاتب ، ومر لا يلوي على شىء، ومضته(فلاش)خلفت بين أيدينا صورة نابضة بتلاوين البؤس والمعانات ، واليأس، تناسلت الإسئلة بعد رؤيتها، وانعدمت كل الأجوبة، ماتت، فنيت.. تركنا الكاتب الفنان وحدنا على شفير ليل مظلم قاس وطويل! كيف مرت خطى الزمن الثقيلة على الجياع؟ كيف كانت اصوات أناتهم ؟ خافتة؟ صامتة؟ مسجوعة؟ منتظمة في لحن واحد للألم واليأس؟ هل حاولت ذات العينين العسليتين الرماديتين أن تحكي حكاية ( الذئب والنعجة ) لأطفالها؟ هل منتهم بموعد الصبح وأكدت لهم قائلة" اليس الصبح بقريب؟" وهل كان للأب جوابا؟ أم أنه صارحها بأن الصبح نفسه لن يغني عنهم شئا؟
    أما ليلنا نحن القراء فيبدوا أن ليست له نهاية، نحن نداري الليل بالنوم، لكن الكاتب رجنا رجا عنيفا فلم يعد للنوم من سبيل!

  • rhandi
    الثلاثاء 4 مارس 2014 - 19:01

    bravo prof biendit
    Pauvre citoyen que faire devant cette misere

  • le philosophe
    الأربعاء 5 مارس 2014 - 06:42

    la conjoncture économique tendue est le résultat d'un modèle qu'il faut repenser en admettant des distributions de richesse avec des marges qui permettent de luter contre l'exclusion social et en faisant l'effort de réduire les charges d'endettement des couches sociales à faible revenu ou à revenu limité.
    le comportement des ménages à faible revenu doit faire l'objet d'étude économique à même de cibler les actions nécessaires qui incombent au ministère de la solidarité sociale …..etc

  • خالد نيويورك
    الخميس 6 مارس 2014 - 02:59

    كيف، ولماذا
    تعبير متقن راق، فقد أحسست بالرعب، والبرد،بالجوع والإحباط وانا اقرأ هذا المقال، وفكرت في حلول، لم لا يبع رشيد هذه الثلاجة فلا محل لها في الأعراب، ثم قلت لنفسي كيف لرشيد ان لا يسرق كيف لزينب ان لا تعص ربها كيف لنا ان لا نثور.

صوت وصورة
هلال يتصدى لكذب الجزائر
الخميس 18 أبريل 2024 - 13:45 3

هلال يتصدى لكذب الجزائر

صوت وصورة
مع المخرج نبيل الحمري
الخميس 18 أبريل 2024 - 13:17

مع المخرج نبيل الحمري

صوت وصورة
عريضة من أجل نظافة الجديدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 12:17 3

عريضة من أجل نظافة الجديدة

صوت وصورة
"ليديك" تثير غضب العمال
الخميس 18 أبريل 2024 - 11:55 1

"ليديك" تثير غضب العمال

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"