موعد مع الشمس : الفصل الثاني -المكالمة –(1)

موعد مع الشمس : الفصل الثاني -المكالمة –(1)
الأربعاء 18 يوليوز 2007 - 04:02

الفصل الثاني

المكالمة

الجزء الأول

كانت الساعة تشارف العاشرة صباحا..وقد تسللت بعض خيوط الشمس نحو صحن البيت.. عندما سمع نعمان طرقا قويا على الباب إنه العم مبروك البقال :

–          نعمان ..نعمان أنا مبروك.. تعالى بسرعة عندك مكالمة من القنصلية الأميركية.

–          من ؟ عمي مبروك ..؟!  هل هذا صحيح .. ؟ كيف ؟ متى ؟

–          هيا اسرع فقد تركت الدكان مفتوحا سوف أسبقك.. أسرع

–          حاضر ..قل لهم أنا في طريقي .. قل ..لهم..وناري قفرها الميريكان

كان مرتبكا ومذعورا ..يسابق خيال ظله وهو يلبس سرواله ، قفز درجات البيت الهرم..تخطى إحدى الجارات وهي منهمكة في غسل ثياب أبناءها ببهو المنزل التي تحول إلى بركة ماء راكدة .. تجاوزمبروك إلى الدكان و التقط سماعة الهاتف وهو يلهث:

–          ألو ..Hello

–          ألو صباح الخير ..هل أنت نعمان بن حسين ؟

–          Yes   نعم .. نعم ..شكرا هو أنا

–          هل تقدمت بطلب تأشيرة للولايات المتحدة الأميركية ؟

–          نعم ..صحيح ..لقد فعلت ذلك

–          يجب عليك أن تحضر إلى القنصلية يوم الخميس المقبل على الساعة الثالثة بعد الظهر.

–          حسنا سوف أفعل ..هل وافقتم على التأشيرة ؟

–          لا أعلم يا سيدي فأنا مسؤولة عن الإبلاغ بالمواعيد فقط..سوف يخبرونك عندما تأتي يوم الخميس..وللتذكير يجب أن تحضر معك نسخة من كشف حسابك البنكي ..لأن ملفك ناقص..لاتتأخر فقد يضيع عليك الموعد.

–          حاضر سأفعل ..ولكن ..ألو..ألو

قفز فرحا وهو يصيح بسعادة وحبور بينما أطلقت أمه زغرودة من شرفة البيت وعيناها تنهمران بدموع الفرح.. أما هو فلم يكد يصدق ما يحدث من حوله .. تجمهر سكان الزقاق حوله والكل يبارك له الخبر السار الذي شاع في الحي مثل النار في الهشيم ..كان نعمان يقفز مثل الأطفال ويصيح:

–          جاءت ياعمي مبروك .. جاءت الفيزا..جاء الفرج

–          هنيئا لك يا نعمان .. وأتمنى ألا تنسى وأنت هناك أن تبعث لي المال الذي دفعت به فاتورة التلفون ..فقد رهنت حلي زوجتي كما تعلم ..وآمل ألا تغدر بي.

–          لن يحصل ذلك يا عمي مبروك ..لن أنسى جميلك أبدا..ثم إنني لا أفكر بالعيش هناك إلى الأبد كلها سنوات وأعود إليكم بما يلزمني من مال ..يومها ستعرفون من هو نعمان الميريكان..وتصدقون أنني لم أكن أحلم. سأعود لأحرركم من عبووديتكم لهذا القدر المشؤوم.

تقدم منه عبده الحشاش مع زمرة من رفاقه في الحي الكل كان يخفي إحساسا بالقلق على مصير نعمان ..فقد ترعرعوا مع بعض في هذه الحارة الفقيرة، تقاسموا الأفراح والأطراح وباتوا شبه عائلة واحدة لا يكاد مكروه ما يصيب عائلة بالحي حتى ينتفض لها الزقاق بكل أهله ..كان الحي عبارة عن تعاونية تشاركية تحكمها قوانين وعادات إبتدعوها لتلبي حاجاتهم البسيطة..بالقرب منه وقف إدريس الذي تخرج معه في نفس السنة من كلية الحقوق..كان إدريس يتعمد إظهار السعادة لكنه في الحقيقة كان يخفي ألما بفراق هذا الصديق الوفي الذي نادرا ما يجتمع به ولكنه  يكن له إحتراما وتقديرا كبيرين

–          هل أنت متأكد يا نعمان أن الهجرة هي الحل

–          نعم يا إدريس..لست أجد حلا غيرها ثم صدقني أنا لا أنوي البقاء هناك..سأعود حتما بمجرد حصولي على الدكتوراة

–          الدكتوراة ؟!! ..من أميركا !!؟ هل تعتقد أن الأمر بهذه السهولة ؟

–          نعم ولما لا ..؟ إن الشهادات في امريكا أسهل مما تعتقد..يمكن للفرد أن يعمل ويدرس ويتوقف لسنة أوسنتين ثم يعود لإكمال دراسته..صدقني سأعود.

نظر إلى الجموع من حوله وصاح بأعلى صوته

–          سأعود لكم وأنا أحمل الحل لهذا الحي بل لهذه المدينة ولكل الوطن..

نطقت الجارة فاطنة من شرفة بيتها وهي تكاد تنفجر من الغيظ:

–          أنا متأكدة أنك ستعود بالمال مثلما عاد مصطفى زوج أختك من فرنسا .

فبادرتها   موي (5) عيشة ( أم نعمان ) من شرفة البيت وهي تكاد تنفجر حنقا منها:

–          طبعا سيعود ولدي غانما منتصرا ويكيد الحساد أمثالك..يا وجه النحس

–          وماذا تملكين لكي أحسدك يا عجوز يا شمطاء..؟ إن قصصك يا مسكينة على كل لسان..ولد عاطل والباقي بنات..عوانس  وكل الحي يعلم من هي إبنتك مريم ..وماذا تشتغل ..الله يسترنا جميعا..

–          هذا من بغضك وحسدك يا حطب جهنم ..والله أحسن ما فعل زوجك عندما تزوج عليك فلو كان فيك الخير ما كان ليفعل ذلك

–          أنظروا من يتكلم ..كومة العظام التي لا يفصلها عن القبر سوى أسبوع إن الشرع أعطاه الحق في أربعة ولكن أربعة نساء وليس قرود مثلك.

–          اصمتي يا حثالة البشر..كان أولى بك أن تباركي لنعمان مثل باقي أهل الحي..ولكن الله ابتلاك بمرض الحسد ..والحسود لا يسود

–          قسما لو لم تصمتي لصعدت إليك وعلمتك الأدب ..

–          تعالي ..تعالي وسترين من منا يجب أن تتعلم الأدب..

تدخلت بعض نساء الحي في محاولة لتهدأت الوضع بين الجارتين العدوتين ، ففاطنة أعلنت الحرب على عائشة وبناتها منذ اكتشفت أن زوجها سالم يتسلل خفية ليلتقي بمريم في سطح البيت ويضع بين يدها كل ما يكسبه من مال ..وكان ما كان من أمر هذه القصة القديمة…

كانت معركة الملاسنة بين فاطنة وعائشة  حامية الوطيس وفرصة لمن لا يريد المساهمة أن يتفرج ويستمتع بهذا الوجه القبيح للفلكلور الشعبي.  كما لم يكن من السهل على أي أنثى من نساء الحي الدخول في مثل هذه الحروب، فتقنيات التلاسن أو ” المعايرة(6) ” صعبة ومكلفة ..بحيث تحتاج الأنثى منهن إلى سرعة للبديهة وقدرة خارقة على الإرتجال والرد السريع وملكات صوتية خاصة ..فمجرد السكوت لثوان قد يفسح المجال للغريمة بالتفوق وإيهام المستمعين من أهل الحي بانتصارها وإقناعهم بحقيقة ما تدعيه من أباطيل..معارك عادة ما كانت تنتهي بتدخل الأبناء دفاعا عن أمهاتهم أو أخواتهم أو عندما يمس شرف الأسرة أو عرضها..

قطع المعركة صوت مزمار وطبل ..بموسيقى شعبية مغربية انطلقت من عمق الحارة ..فقد انتبه العم أحمد النجار أن اليوم هو يوم فرح، فترك محله وذهب للتعاقد مع جوقة الحي التي تتكون من طبال وعازف مزمار ورقاص كوميدي ..وهي المجموعة ذاتها التي تحيي أفراح الحي ومناسباته السعيدة .. تكلفهم بعض المال القليل وفي غالب الأحيان طبق كسكس مغربي باللحم أو الدجاج مع بعض الحلويات المنزلية الصنع، كان يكفي لهم أجرا فكانوا يعزفون ويطبلون إلى غاية بزوغ الفجر.

اقتربت الجوقة لتتوقف وسط الزقاق بينما امتلأت الشرفات بالمتفرجات اللواتي أطلقن زغاريد اهتز لها الزقاق وأعادها الصدى بقوة..الكل كان يرقص ويغني ووسط هذا الجمع كانت أم نعمان موي عائشة تمسك بيد غريمتها فاطنة للمشاركة في رقصة على صوت المزمار والطبل وغناء العذارى وكأن شيئا لم يحدث بينهما قبل قليل..

أما نعمان فقد تسلل من الزقاق خفية من أهله الذين إستهواهم الطرب ..وكأنهم كانوا يتحججون بأبسط الأخبار المفرحة ليعبروا عما تكدس في أعماقهم من حزن دفين..

توجه نحو مكتب صديقه سفيان الذي يعمل محاميا متمرنا بأحد أرقى المكاتب بشارع أنفا وسط الدار البيضاء ..لم يكن يملك ثمن أجرة الطاكسي فاستقل الحافلة المكتظة وهو لايكاد يصدق نفسه فحلمه أصبح على وشك أن يتحقق..توقفت الحافلة عدة مرات لتلقي ما بداخلها من جموع بشرية وتستقبل أخرين..ومن حين لآخر كان يسمع صوت الشحادين وهم يلفقون قصصهم الأليمة بحنكة روائية متقنة ..وأحيانا أخرى كان يصعد أحدهم وهو يحمل آلة وترية تسمى في المغرب بالغنبري(7) فيتحف الركاب بأغاني ثراتية تلخص معظم همومهم..اقترب أحدهم من نعمان وكان شيخا عجوزا يرتدي جلبابا مغربيا ممزقا

–          لله يا محسنين ..لا خيبك الله ولا أصابتك مصيبة يا ولدي لقد توفي إبني الوحيد وليس عندي مال لدفنه

–          وهل الدفن يا سيدي يحتاج إلى مال ؟

–          طبعا ..والله العظيم..وحياة أغلى ما أملك ..أقسم لك أن البلدية طلبت مني دفع رسوم الدفن

تداول الراكبون أمر الشحاد..بين مصدق ومكذب فهذا يؤيد كلام الشحاذ وذاك يكذبه..وتفجرت نقاشات فرعية بينهم حول شروط الدفن ورسوم الدفن بل ومنهم من انهمك في الإفتاء حول سنن غسل الميت وبين هذا وذاك كانت الدراهم والسنتيمات تتساقط في صحن العجوز الشحاذ  وكأن الجميع يؤدي واجبا محتوما..وبينما هم كذلك صعد إلى الحافلة عازف عود متجول فاختلط نواح الباكي بمعزوفات رفيقه العازف فأحس الأول أن المتسول الثاني أفسد عليه ما خلقه من جو الألم والمواساة..فرفع بكاءه درجة أعلى ففعل الآخر نفس الشيء  وتحول المشهد إلى حالة درامية متناقضة الطبقات..كان الأول يصيح باسم ولده الفقيد والثاني يصيح بعقيرته وهو ينشد أغنية مرسول الحب وقد مسخها بصوته الخشن وعزفه المشوه أما جمهور الراكبين فانقسموا بين متعاطف مع الباكي وبين منسجم مع العازف وأغانيه التي تعذب أسماعهم.

–          وهل لديك أبناء غيره يا شيخ ؟

–          لا يا ولدي إنه إبني الوحيد وكان عمره عشرين عاما

انهمر الشيخ العجوز يبكي وبدا يلطم وجهه بقوة فسكت الجمع متأثرا لحالته..فأحس متسول العود أن بضاعته غير مرغوب بها داخل هذه الحافلة الحزينة..فتركها عند أول محطة بينما واصل العجوز بكاءه بإتقان درامي رائع

–          لاحول ولا قوة إلا بالله ( قال أحدهم )

فيما كانت إحدى السيدات تذرف دمعة على خدها وهي تقول:

–          حتى الموت أصبح مكلفا ..

وفجأة إقترب من الشحاد طفل صغير وهو يصيح

    –  أبي ..يا أبي إن هذا الرجل وضع يده في مؤخرتي ..

إنتبه الجميع أن الشيخ العجوز كذاب ..فتهاطلت عليه الشتائم واللعنات..بينما انطلق آخرون في ضرب الرجل الذي تحرش بالصبي ..أما نعمان فقد ارتسمت على شفتيه إبتسامة عريضة وهو يردد مع نفسه..كم هو مبدع هذا الشعب ..كم هو مبدع.

(يتبع)

تلتقون مع رواية موعد مع الشمس كل أربعاء وسبت حصريا على موقع هسبريس

 لقراءة – موعد مع الشمس : الفصل الأول -التأشيرة –الجزء الأول-

 لقراءة – موعد مع الشمس : الفصل الأول -التأشيرة –الجزء الثاني-

اللوحات المرافقة للرواية للفنان محمد سعيد الوافي

لمراسلة الكاتب والفنان محمد سعيد الوافي : [email protected]

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 3

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 5

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال