و قضية للاحنفية المشرفي ليست قضية معروفة و لا مشهورة، كما أن هذه السيدة الشريفة لم تطلب إنصافا أو اعتذارا من طرف الجلاد الفرنسي، و اكتفت بسعادة غمرتها، رغم كل المآسي الماضية، بمجرد حصول المغرب على الاستقلال، شأنها في ذلك شأن الغالبية الساحقة من الأسر الوطنية المغربية التي أذاقها الجلاد الفرنسي شر عذاب، و التي فضلت الصمت و السير قدما و التألق في الحياة بدل التشكي و التذمّر غير المنتج، خصوصا و أنها، ربما، تعودت على عجرفة فرنسا في تعاملها مع المغرب و المغاربة كلما صعد الاشتراكيون إلى الحكم… ولكن لاشك أن جميع الأسر الوطنية المغربية عانت و مازالت تعاني من آثار نفسية صعبة كانت لها عواقب وخيمة على الصحة البدنية لنسبة معتبرة من أفرادها.
نعم للإنصاف و المصالحة بعد المحاكمة العادلة، ولكن لا مصالحة بدون إنصاف، مع جبر الضرر و الاعتذار من طرف الجلاد الفرنسي. فلقد ارتكب الجلاد الفرنسي من الجرائم النكراء في حق المغاربة الوطنيين الشرفاء ما تشيب له الولدان، و لم تندمل الجراح بعد…
لقد قتل و عذب و سجن الجلاد الفرنسي الكثير الكثير من المغاربة الأبرار الوطنيين الشرفاء، ثم ذهب إلى حال سبيله منزويا في الركن المخصص له في القارة العجوز. سرد كل جرائم الجلاد الفرنسي أمر شبه مستحيل، ولكن لا بأس من التذكير ببعضها، بين الفينة و الأخرى، حتى لا يحسب الجلاد الفرنسي أنه فوق كل محاسبة، و حتى تظل اللعنة تطارده إلى يوم الدين. فإذا كانت عدالة البشر عاجزة أمامه، رغم تغنّي الغرب ب”حقوق الإنسان” ليل نهار، فعدالة السماء لن تخطئه.
كان ذلك في سنة 1952. كان عمر للاحنفية بالكاد ثمان سنوات. كانت تقطن بمدينة وجدة منذ إطلاق سراح والدها، و بعد أن سمح له الجلاد الفرنسي بدخول مدينته حيث ولد و نشأ. و أما والدتها، للارحمة وزاني شاهدي، تلك المناضلة الهادئة الفائقة الذكاء، رحمها الله و أسكنها فسيح جناته، فكانت تلزم حينها والدها الذي كان على فراش الموت.
حوالي الساعة الثالثة صباحا، و دون سابق إنذار و لا مقدمات، شرع الجلاد الفرنسي في كسر باب المنزل محدثا رعبا لا يوصف في كيان طفلة الثمانية سنوات. و في رمشة عين، احتل رجال مدججون بكل أنواع الأسلحة الفتاكة جميع أركان المنزل، ثم توجه كبيرهم يكلّم والد للاحنفية بفظاظة و غلظة، فرد عليه بنفس الغلظة غير آبه بعصابة الجلاد الفرنسي المدججة بالأسلحة النارية و التي كانت قد احتلت منزله للتو، فما كان للجلاد إلا أن وجّه بمقبض مسدسه ضربة قاسية لوالد للاحنفية جعلت دمه يفور من رأسه بغزارة و دون توقف، ولكن الوالد الوطني الشريف ظل شامخا واقفا صلبا لا يركع للجلاد، مما أحدث رعبا في نفس الأخير الذي بدا مهتزا لوهلة قبل أن يأمر باعتقال رب البيت، والد للاحنفية ذات الثمانية ربيعا.
ثم قامت عصابة الجلاد الفرنسي بالعبث بمحتويات المنزل و بعثرتها بحثا على كل ما من شأنه أن يتعلق بالمقاومة، من سلاح أو منشورات و غيرها، ولكن باءت كل المحاولات بالفشل، و ذلك لأن والدة للاحنفية كانت قد قامت بدفن كل شيء بإتقان، و في مكان آمن لم يصل إليه الجلاد الفرنسي أبدا.
حرم الظالمون الظلاميون الفرنسيون للاحنفية من معانقة أبيها، و أتلفوا دواء هذا الأخير منعا له من تناوله في حقد لا يضاهيه حقد، ثم أخذوه إلى مخافر السجن و التعذيب من جديد مهددين للاحنفية ذات الثمانية ربيعا، و إخوتها الذين يصغرونها سنا، بأسلحتهم النارية في تأهب عجيب كما لو كانوا يواجهون جيشا عرمرما متكونا من جنود شداد غلاظ.
ثم عم الصمت في المنزل. صمت رهيب. لم ينل الجلاد الفرنسي شيئا يذكر من رب البيت الرجل المقاوم الفذ الصلب المتمرس على المقاومة و المستعد لكل الاحتمالات في سبيل وطنه المغرب. ولكن الجلاد الفرنسي كان قد نال من نفسية للاحنفية، الطفلة الصغيرة التي عاينت، في ربيعها الثامن، هجوم الجلاد الفرنسي الغادر المتوحش على بيت أسرتها و عالمها الآمن، مما أحدث جرحا عميقا في نفسيتها لم يندمل بعد إلى حدود كتابة هذه السطور. و هو جرح غائر واجهته للاحنفية بالصمت و التحمل لسنين طوال مما أثر على صحتها الجسدية أيضا في ما بعد.
فجأة، قررت للاحنفية عدم الانهزام و الثأر لأبيها البطل المقاوم المقدام الذي كانت قد لحقته أيادي الغدر و الغطرسة و الاستبداد. ولكن، ماذا كان بوسع طفلة في ربيعها الثامن أن تفعله…؟ لم تكن للاحنفية طفلة عادية، بل كانت بنت مقاوم شرس شجاع ينشر الشجاعة أينما حل و ارتحل، فمن الطبيعي أن تكون للاحنفية قادرة على فعل الكثير للنيل من العدو الجلاد انتقاما لأبيها المقاوم الشجاع.
كانت للاحنفية تلميذة مجتهدة نجيبة متعطشة للعلم و المعرفة، ولما اقتحمت عصابة الجلاد الفرنسي بيت آل المشرفي قاموا من بين ما قاموا به بتفتيش محفظتها ثم ألقوا بها أرضا. قمة الإهانة و قمة الخطر بالنسبة لطفلة في سنتها الثامنة، فالمحفظة مقدسة لأنها تحفظ كتب العلم.
ولكن عوض الانهزام و القبول بالأمر الواقع، قررت للاحنفية أن تواجه الجلاد الفرنسي بسلاح المعرفة، سلاح الكتابة التي كانت تجيدها رغم صغر سنها و خاصة اللغة الفرنسية حيث كانت، و ما زالت، تتوفر على أسلوب مبهر سليم رائع، فأخذت تهيئ كل صباح ورقة تكتب عليها جملة مفيدة قوية: “سأقتلكم جميعا”، و ترفق جملتها الصغيرة برسم مسدس، ثم تخرج إلى المدرسة، و في طريقها إليها تختار كل يوم منزلا من منازل الجلادين فتلقي بالورقة و تنصرف في صمت و حذر. و هكذا كانت للاحنفية تثأر لأبيها، و أيضا لجدها الذي كان قد ألقي عليه القبض من طرف الجلاد الفرنسي الذي وضعه في السجن ثم دسّ السم في طعامه، فاستشهد رحمه الله مع ثلة من رفاقه الوطنيين الأبرار.
كان وقع رسالة للاحنفية على الجلاد الفرنسي ربما أشد بكثير من وقع سلاح المقاومة، حيث بات يضع أمام كل منزل يقطنه جلاد من الجلادين الفرنسيين لافتة يكتب عليها: “احذر. هنا كلب شرس”. و سيشهد لا شك قدماء الجلادين الفرنسيين الذين كانوا يقطنون آنذاك في تلك المنازل في مدينة وجدة الأبية، إن كانوا ما زالوا على قيد الحياة، بأن الرعب الذي أحدثته للاحنفية المشرفي في نفوسهم كان رعبا لا يقاوم.
سيشهد الجلاد الفرنسي برعبه آنذاك من جراء تلك الرسائل المهددة إياه بالقتل الوشيك، و لكن مفاجأته ستكون بدون شك كبيرة إن هو علم اليوم بأنها كانت رسائل منبعها طفلة صغيرة في ربيعها الثامن قررت الانخراط في المقاومة في سرية تامة حيث لم تبح بسرها أبدا ولو لأقرب أقربائها، و لم تكن لتفشي سرها لولا أنها صادفت، مؤخرا، مقالا في إحدى الجرائد تطرق إلى قضية منطقة أغبالو حيث تم ذكر اسم والدها رحمه الله، الشريف مصطفى المشرفي، الذي كان قد عينه المناضل المقاوم المجاهد محمد الخامس رحمه الله، مباشرة بعد الاستقلال، قائدا ممتازا على مدينة فكيك و نواحيها، فكان القائد الممتاز النزيه الوفي المخلص لوطنه إلى أن وافته المنية أربع سنوات بعد ذالك على إثر حادث مؤسف…، ذلك القائد الممتاز الذي عرف بنزاهته و وطنيته، و الذي كان يفرض على أبنائه و بناته مناداته “أبي” و ليس “بّا” أو “بابا”، و يصر على أن لا ينادي أطفاله أمهم سوى ب”أمي” و ليس “مّي” أو “ماما” حتى يرد الاعتبار للغة وطنه، لغة القرآن، و ظلت أسرته و عائلته على هذا النهج إلى يومنا هذا، مع بعض التغيير حيث “أمي” و “أبي” أضحت تخص الجد و الجدة دون غيرهما.
للاحنفية المشرفي تكابد المرض اليوم. مرض أفقدها القدرة على المشي، ثم على الحركة، ثم على النطق، و احتار أمهر الأطباء في شأن مرضها و لم يجدوا له سببا، و اكتفوا بالقول بأن حال للاحنفية المشرفي كحال شمعة تتآكل ببطء إلى أن ينطفئ نورها. ولكن في الحقيقة لا حاجة لأطباء لمعرفة سبب مرضها، فلقد عانت طوال حياتها في صمت مضر من عنف المشهد الذي فرضه عليها الجلاد الفرنسي في عقر دار أبيها، لما كانت طفلة في ربيعها الثامن، حيث شهدت على انهيار عالمها، فترتب عن ذلك ما ترتب من أضرار نفسية بليغة جعلتها في آخر المطاف تصاب بشلل ينال من أعضائها، رويدا رويدا، منذ ما يربو عن 15 سنة، إلى أن أصبح شبه كلي…
فتحية خالصة للشريفة للاحنفية المشرفي مع الرجاء لها بالشفاء العاجل، إن الله ولي ذلك و القادر عليه.
كان لي حديث مع الشريفة للاحنفية المشرفي حيث كنت قد زرتها في منزلها بالعاصمة الرباط قبل بضعة سنين، كان المرض قد تمكن منها و أصبح يتعذر عليها النطق، فكتبت لي في لوحة تخصصها للتواصل مع ذويها جملة مفيدة : “لدي ما أقوله…”. علمت أن الأمر يتعلق بسر ما و لكنني لم أكن لأتوقع بأنه سرا بهذه الضخامة احتفظت به الشريفة ابنة القائد الممتاز النزيه لعقود و عقود، متحملة لوحدها كل ثقله، سر يتعلق بجريمة كبرى من جرائم الجلاد الفرنسي الكثيرة جدا. أجبتها بأني كلي آذان صاغية، ولكنها توقفت عن الكتابة و كأنها تقول لي: “في ما بعد ربما…”.
و ها أنا ذا اليوم سعيد بكتابة هذه السطور التي تضع الجلاد الفرنسي تحت المجهر، الجلاد الفرنسي الذي نتمنى أن يتابعه القضاء حتى لا يفلت من العقاب. بل يجب أن يناضل الجميع حتى لا يفلت من العقاب.
للا الحنفية المشرافي سيدة في قمة الوطنية و الذكاء و الشهامة، سيدة فاضلة و عظيمة غرست و تغرس فينا حب الوطن و الشجاعة . أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيها شفاء تاما لا يغادر سقما و أن يطيل عمرها و يمتعها بالصحة و العافية حتى تظل دائما زهرة فواحة و شمعة منيرة بيننا. و رحم الله سيدي مصطفى المشرفي و للارحمة الوزاني.
مع الاسف دائما اجد كتابات الوطنيين الحقيقيين الاشراف في بلادنا لا تجد متابعات كثيرة و تعاليق توازي قيمة الموضوع كموضوع السيد فنيش عن هذه المراة الوطنية للا الحنفية المشرافي ووالدها وجدها وربما الكثير من عائلتها وأمثالهم ربما ممن حاربوا الاحتلال الفرنسي العسكري والثقافي ودفعوا دمائهم وكل غالي ونفيس للدفاع عن بلدهم وقيمهم ودينهم ؟؟؟؟ بينما تجد متابعات لكل غاو او باحث عن الشهرة او مرتزق او عن مواضيع لا تستحق حتى قرائة عنونها كموضوع المرتد المغربي المسيحي الذي نشر له موضوع لا يستحق حتى الاعلام به فكيف بمتابعته والتعليق عليه والتي تعدت 160 الى حدود كتابة هذه الاسطر؟؟؟
Une histoire à couper le souffle! Et quelle grande dame!
Les familles nationalistes ont rendu de grands service à la nation. Il existe aussi des familles non connues du public qui ont fait beaucoup pour le Maroc. On a besoin de plus de livres sur l'histoire de l'indépendance du Maroc pour que les jeunes puissent en tirer profit.Puisse Dieu .
guérir Madame Hanafiya. Et merci à l'auteur pour cet excellent article.
Salam Oustad FENNICH, vous voilà encore une fois nous surprendre avec une histoire des plus extraordinaires dont les détails nous échappent. votre style à la fois simple et percutant nous a replongés dans un passé pas comme les autres. ce passé qui a forgé le nom ELMECHRAFI et qui représente nos valeurs , notre raison d'être. votre plume a su retracer une période totalement oubliée et nous sommes incapables de trouver les mots pour vous remercier de cette initiative. comme je vous l'ai déjà dit, la plume de Younès ne cessera de nous surprendre et s'acharnera à susciter nos esprits, par négligence, en hibernation.
هذه المرأة الاستثنائية، الحنفية المشرفي، تستحق تكريما من طرف الحكومة انتصارا للوطنية و للوطنيات و للوطنيين، و لنشر القدوة الحسنة.