على غير العادة وجدتني أستيقظ باكرا صباح هذا الأحد، شعرت وكأني قد اكتفيت تماما من النوم، حاولت دون جدوى أن أغمض عيني مرة أخرى، خصوصا طوال الاسبوع وبحكم العمل أستيقظ عند الفجر. يوم الأحد أعوض هذا النقص المرعب من ساعات النوم، بقية الأيام أستيقظ بصعوبة قصوى، أستعين بمنبهين – الهاتف والساعة -، أغادر فراشي الدافئ بصعوبة كبيرة! تجدني أخاطب نفسي بمرارة وغبن ورأسي تحت الوسادة: لقد هانت، سوف يأتي يوم الأحد لأنتقم منك أيها النوم اللعين اللذيذ… يأتي أخيرا هذا الأحد فأجد نفسي مستيقظا مع أولى صيحات الديك! أي كساد أكبر من هذا؟
نهضت، هيأت فنجان قهوة، و أنا ألعن حظي العاثر، شعرت برغبة الجلوس في الشرفة، لم يكن يستهويني الجلوس فيها لارتفاعها الشاهق، كان بيتي في الطابق العاشر، يُخيل إليك وأنت تطل من الشرفة كأنك تركب الطائرة!
وأنا أنظر بحذر إلى الأسفل رأيت الحديقة التي توجد أسفل العمارة شبه خالية إلا من فتاة تجلس وفي يدها شيء يبدو كهاتف صغير (محمول)… ثم وجدتني أشهق من هول ما رأيت!
طفل ربما في عامه الثالث يقترب من البحيرة التي توجد وسط الحديقة، كنت أعرف أن البحيرة عميقة قد تبتلعه إذا ما وضع قدمه الفتية فيها! كان الطفل يجري ويلعب بمحاذاتها… تحول بصري بسرعة إلى الفتاة الجالسة، كانت تتكلم في الهاتف… آه يا ربي ما أغباها! أكيد أنها أمه أو مربيته، كيف لم تنتبه؟ كيف يصبح هذا الجهاز الصغير الملعون أهم من طفلها؟ تَراها الآن تتكلم في أمر تافه! الطفل أراه يقترب أكثر إلى البحيرة والمرأة كأنها في عالم آخر منهمكة في دردشة فارغة، قد تكون الآن منتشية بالحديث والضحك مع صديقة تافهة مثلها بينما طفلها يقترب أكثر إلى الموت!
كنت أعلم أن صوتي لن يصل إليها من هذا الارتفاع الشاهق ومع ذلك أخذت أصرخ، وجدتني أتنقل بين جنبات الشرفة ذهابا وايابا لعلي أرى أحدا، لعلي أستطيع أن أفعل شيئا… وجدت أمامي المقعد الذي أجلس عليه في الشرفة، حملته ورميته بكل قوتي إلى الأسفل لعلي أثير انتباهها، لعلها تسمع صوت ارتطامه بالأرض فترفع بصرها حيث أنا، لكنها وكأنها في عالمها الآخر وكأن الدنيا اختصرتها فقط في هاتفها الصغير!
كان علي أن أتصرف بسرعة و أن أسابق الزمن، وقوفي هكذا في الشرفة أنتظر وقوع الكارثة كأنه مشاركة في هذه الجريمة! أما المراهنة على أن المرأة قد تنتبه فهي مراهنة خاسرة بكل تأكيد
بح صوتي من الصراخ، قررت أن أنزل… كنت أعرف أن الأمر يتطلب مني حتى أصل إلى الطفل زمنا ليس بالقصير، بخلاف الموت فإنه على بعد خطوة واحدة يخطوها الطفل المسكين إلى البحيرة! إنه سباق غير عادل بيني وبين الزمن، حتى أنه سباق غير ممكن، فنقطة الوصول مختلفة ومغايرة، أنا أجري من أجل الحياة وهو يسرع من أجل الموت!
خرجت بمنامتي، طبعا من السذاجة أن أنتظر حتى ألبس ملابس الخروج، وجدت المصعد ينتظرني في الطابق العاشر… رميت جسدي داخله، شعرت بأمل يكبر داخلي، لعل النوم الذي استعصى على جفوني، ودخولي للشرفة رغم أني لا أحب الجلوس فيها، والمصعد على غير العادة عند بابي ينتظر قدومي،كلها بشائر تجعلني أعتقد أن القدر معي في سباقي مع الزمن! هذا ما خطر ببالي وأنا بالمصعد، كانت الثواني التي قضيتها فيه أطول مما أستحمل، كنت أستعجل الوصول كطفل يجري الى دورة المياه ليفرغ مثانته الممتلئة لكنه عندما يصل يجدها مشغولة، فيصير يقفز في مكانه ينتظر!
دفعتُ الباب وخرجت أجري الى الحديقة، لاحظت بدهشة وجود سيارات الإسعاف والشرطة والمطافئ كلها قرب الحديقة، دخلتُ أبحث عن الطفل عند البحيرة … أخذت نفسا عميقا وحمدت الله على أنه في أحضان رجل المطافئ، رأيت امرأة تهرول نحونا ما أن رأتْ الطفل حتى ارتمتْ تحتضنه وتقبله، تبكي وتقول:
– بحثت عنك في كل مكان يا كبدي، كدت أجن عليك
تمسحُ دموعها وتريد أن تقبل يد الرجل الذي كان يحمل طفلها
– شكرا لك
ابتسم الرجل وقال:
من يستحق الشكر بالفعل، تلك المرأة الجالسة هناك، إنها من أجل طفلك هاتفت كل المصالح الأمنية
ضحكَ وتابع قائلا: من أجله أقامت الدنيا و لم تقعدها
التفتنا حيث السيدة، وجدتها تلك الفتاة، ربما في عقدها الثاني، نحيفة وشاحبة، كانت تبتسم للطفل وتشير إليه بيدها، رأيت رجلا يقترب منها يقبلها في جبينها، تلفٌ يداها حول عنقه ،فيحملها ثم يجلسها في مقعد متحرك كان بجانبها ويغادران الحديقة، رجل المطافئ يعلق قائلا:
– المسكينة تعاني من شلل نصفي
*عن المجموعة القصصية ” أشواق مهاجرة “
فعلا كان المشهد مرعب , ونهاية مشوقة وسعيدة واشارة الى اناس بالرغم من اعاقتهم تجدهم يتصرفون بعقلانية ,واسوياء جسديا معاقين ذهنيا !!! شكرا للاستاذ الكريم "الجباري" هذا الاسم الذي ذكرني بالمرحوم الفيلسوف الجابري بطبيعة الحال بارجاع حرف (الالف) قبل (الباء) مرة اخرى شكرا على هذه الاشارة القيمة …
مادا اقول وقد ابكاني هدا الموضوع اقول الحمد لله الدي سخر هدا لداك ولكل عن الله اجره
قمة في الاحساس وروعة في السرد منتهى التشويق كأنني كنت أشاهد فيلما هتشكوكيا شكرا لهسبريس وللكاتب على هذه القصة -التحفة ,القصة تدعونا أكثر للقراءة بأسلوبها السهل الأنيق …أين ممكن الحصول على كتاب <أشواق مهاجرة > ?
أشواق مهاجرة تباع في القصر الكبير .. مدينة بشمال المملكة المغربية .. مدينة آل الجباري وآل الطود وآل القنطري وآل الخمار الكنوني وآل عبد السلام عامر …
باستعمال الكاتب المعجم اللغوي السهل, استطاع أن يختصر المسافة للقاري في العملية القراءتية, وساعده على استيعاب ميلودراما, بعيدا عن أسلبة اللغة, وفضل كتابتها بلغة المكان والصورة, مستخدما الترتيب السردي, حتى يفاجئ القارئ بعنوان القصة.
محمد الجباري
شاب طموح جمعوي اعرفه
عن قريب يعشق الكلمة .. مثقف , لا يحتاج الى بوصلة
متمنياتي
محمد التطواني كاتب /
لذلك وجب على الانسان ان لا يستبق الامور ويصدر الاحكام قبل ان يلم بكل تفاصيل الاحداث وحيثياتها ، لو بقيت في الشرفة تراقب من بعيد لكان عنوان مقالك هذا "لعنة التيكنولوجية" لينضاف ال سلسسلة ما يحكى من "فضائع" وقعت بسبابها ،فقد سمعنا الكثير من القصص عن اضرار التقنية االحديثة واكتساح الصوت والصورة للآذان وعيون الناس ، وخصوصا من افواه المتوجسين من كل ما تأتي به الرياح التي تهب من الغرب وبعضها محض خيال
بطلة هذه القصة معاقة جسديا لكن ذلك لم يمنعها من لعب دور البطل وبنجاح ، شقاءها بسبب عجز الم بجسدها لم يطن سببا لتحقد على الاصحاء وتتمنى ان يحل بهم ما حل بها …
tres tres beaux merci mr jebbari
ما شاء الله قصة جميلة جدا،حركت مشاعري وجعلتني ارجع الى ايام الطفولة لنهايتها،المكتبة الخضراء وبداية ونهاية يوميات نائب في الأرياف ،وغيرها الكثير ،شكرًا كاتب القصة