إنجيل ماركيز

إنجيل ماركيز
السبت 26 أبريل 2014 - 11:10

كان إدوارد سعيد يقول دائما إنه يعتبر الأدب ملتقى للتاريخ والسياسة والاجتماع والدين، ويرى أن الأدب هو”نص محوري”. فقد كان هذا المفكر الفلسطيني ناقدا أدبيا في الأصل، ومن هناك ذهب ليقرأ خارطة التفكير الأوروبي تجاه الشرق، معتبرا أن الأدب هو مرآة الأنثروبولوجيا الثقافية للشعوب. وبدل أن يلجأ إلى الكتابات الرسمية، التي عادة ما تختلط بالأكاذيب، فضل أن يصنع ذلك من خلال الروايات والرحلات الأوروبية، وليس كتابه”الاستشراق” ـ الذي لقي صدى عالميا واسعا وما يزال يدرس ـ سوى اشتغال على الأدب نفسه.

يصدق ذلك الكلام على الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، الذي توفي نهاية الأسبوع الماضي، ذلك أن رواياته ظلت صورة لأمريكا اللاتينية بامتياز، مثله مثل آخرين من نفس القارة صنعوا من الأدب سلاحا للمقاومة، كالمكسيكي كارلوس فوينتس والغواتيمالي ميغيل أنخيل أستورياس والبرازيلي خورخي أمادو وغيرهم. فقد جمع هؤلاء بين الانتماء إلى الحدود الوطنية والانتماء إلى الثقافة اللاتينية الواسعة التي تضمهم جميعا، ولذلك قلما نجد تعريفا لواحد من هؤلاء في حدود بلده، بل يشار إليهم دائما في علاقتهم بأمريكا اللاتينية، بسبب الخصائص الثقافية والدينية وحتى السياسية المشتركة التي توحدهم، والتي جعلت من النخبة الثقافية والأدبية طبقة واحدة. ولعل رواية ماركيز الشهيرة”مائة عام من العزلة” دليل على ذلك أيضا، فهي ولدت في المكسيك لا في كولومبيا التي هي بلده، بعد أن فر منها خوفا من السلطة المستبدة.

تتميز روايات ماركيز بالإغراق في المحلية، وهي محلية ناتجة عن الارتباط بالأرض والإيمان بأن الشخص الذي يتعلم يجب أن يظل في خدمة شعبه، وقد كتب يوما يقول بأن المحلية هي قمة العالمية. ولعل هذا ما لفت إليه أنظار النقاد الأوروبيين بعد ترجمة أعماله، ودفع الأكاديمية السويدية لمنحه جائزة نوبل للآداب في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. وقد يكون هذا الاختلاف في الطابع الأدبي للكتابة الروائية الجديدة هو الذي وقف وراء ذلك التوشيح، فحتى ذلك الوقت لم يكن قد حصل على الجائزة من أمريكا اللاتينية سوى شاعران من الشيلي، أحدهما هو بابلو نيرودا، بينما لم تكن الرواية اللاتينية مرحبا بها. ويبدو أن ذلك الموقف كان ناتجا عن تصور معين ـ قد يكون عنصريا ـ للرواية على أنها جنس أدبي مرتبط بالمجتمع البورجوازي الرأسمالي، ولذلك فإن الشعوب المتخلفة التي لم تندمج في نمط الإنتاج الرأسمالي لا تعرف الرواية، كجنس أدبي حديث. لذا فإن تتويج ماركيز بالجائزة كان بمثابة انتصار للرواية اللاتينية، ولجنس روائي جديد بات يطلق عليه”الواقعية السحرية”.

مزج ماركيز في رواياته بين الواقع والخيال الجامح في حدوده القصوى. فقد كسر العلاقات المنطقية بين الوقائع، ونفخ في الأشياء روحا بما يذكر بالثقافة البدائية التي يعيش فيها الناس علاقات حميمة مع الأشياء من حولهم، وجعل الناس ضحايا مصيرهم الأزلي الذي يلاحقهم فيستسلمون له دون مقاومة. فأحداث “مائة عام من العزلة” مثلا تدور في قرية معزولة تحدث فيها أمور غريبة لا يصدقها العقل، حيث يعود الأموات إلى الحياة، ويحضر فيها الموت على شكل امرأة عجوز تطلب من البطل تهيئة كفنه، ويختلط السحر بالواقع بل يصبح هو الفاعل الرئيسي في الأحداث.

ويرى بعض النقاد من أمريكا اللاتينية أن ماركيز تأثر بشكل كبير بالإنجيل في رواياته، فالمسافة الضيقة بين الواقع والخيال موجودة في هذا الكتاب بأكثر مما هي موجودة في أي كتاب آخر في تاريخ البشرية. وقد كان ماركيز يعتبر أن الإنجيل”كتاب عجيب تحدث فيه المئات من الأشياء الغريبة”، ولذلك كان مصدر إلهامه في خلق شخصيات ملحمية تجمع بين الكرامات أو”المعجزات” بلغة العهد الجديد وبين الرذائل البشرية. وتمثل روايته الشهيرة أبرز دليل على ذلك، حيث يمكن أن نجد مفاهيم مثل الخلاص والمنفى(إيكزودوس) وطاعون مصر والخطيئة الأصلية.

لقد استرجع ماركيز تجربة المسيح في الفكر الأوروبي لإعادة صياغة تجربة شعبه المقهور، فكان العهدان القديم والجديد الإطار القصصي الذي أتاح له الهروب من قيود الزمن ومنطقية الأحداث، مثل ذينك الكتابين تماما. فالرواية تبدأ مع بداية الخلق، حتى قبل أن تنشأ اللغة:”كان العالم حديث النشوء، حتى إن أشياء كثيرة كانت بلا أسماء، ومن أجل ذكرها كان لا بد من الإشارة إليها بالأصبع”. وهي تستعيد خروج النبي موسى من مصر، بعد أن قتل مصريا دفاعا عن أخيه العبراني، من خلال خروج البطل أركاديو بوينديا من قريته بعد أن قتل غريما له. كما أنها تستعيد رمزية بلاد كنعان، في مثال قرية ماكوندو الخيالية، التي كان كل فرد فيها يحمل إسمها، مثل أهل كنعان تماما.

هذه هي عبقرية ماركيز، الجمع بين الدين والتاريخ والفن والسياسة في أعماله الروائية الخالدة. فمعظم الروايات التي تركت أثرا في الأدب العالمي كان الدين خلفية رئيسية لها، كما يمكن التماس ذلك في أعمال دوستويفسكي على سبيل المثال، دون أن ننسى رائعة جيمس جويس”أوليس”. بل يمكن القول بأن الروائي العظيم في الآداب الأوروبية ملحد في ثقافته، لكن أعماله “متدينة”.

‫تعليقات الزوار

2
  • SIFAO
    السبت 26 أبريل 2014 - 15:21

    استلهام ّ"غارسيا " لبعض قصص وروايات الدين وتوظيفها في الكتابة الادبية لا يعني ان انتاجه الفني كانت وراءة خلفية دينية ، بمعنى انه يدافع عن قيمه من خلال اعماله الفنية ، الدين هو الخزان الرئيسي لكل ما هو مدهش وخلاب وعجيب حيث يغيب الانسان في متاهات زمكانية لا حدود لها ولا تسري عليها قوانين الطبيعة ، الدين في رواياته لا يعدو ان يكون مغذيا للخيال و"محررا" للعقل من قيود المنطق ليستطيع النفاذ الى العوالم الممنوعة عليه وهو في افضل لحظات يقظته وانتباهه ، عالم الاساطير المدهشة.
    في بوليفيا ، على ما اعتقد ، وكل سنة يتم الاحتفال بموتاهم من خلال طقوس مستوحات من تراثهم الثقافي الاصيل ، يعدون لهم ما كانوا يشتهونه من الاطعمة وما يفضولونه من اللباس وهم احياء في اجواء احتفالية خاصة لا مكان فيها للبكاء والنحيب.
    بالعودة الى ما يهمنا في الموضوع ، هو امكانية استغلال ما جاء في القرآن من مغامرات وقصص وشخصيات في الانتاج الادبي والفني ؟
    موقف الاسلام واضح وصريح وجدي جدا من الفن ، لا مجال فيه لغير ما له علاقة بالدين ، ويعتبر منع فيلم "نوح" افضل دليل على ان الدين هو العائق الاساسي امام الابداع بكل الوانه

  • هشام الزيتوني
    السبت 26 أبريل 2014 - 17:35

    للإشارة فإن وقائع رواية ماركيز " مٱة سنة من العزلة " لم يلعب فيها الدين اي دور، فمند تأسيس البلدة ظلت الروابط التي تجمع الأفراد لا تخضع لأي مرجعية دينية ، وكانت البلدة تستقبل الوافدين وتفتح لهم ذراعيها، وقد مر زمن طويل قبل أن يحضر لاوكاديو الأب نيكانورالذي أحضره من بلاد المستنقعات الدون ابو لينار لتنظيم قداس زفاف مارلينا، واستغل الأب نيكانور المناسبة، وقام بحركات فوق طاقة البشر لينشر المسيحية مثل شربه سائلا يجعله يرتفع عن الأرض اربع بوصات ليثبت وجود قوة خارقة ، لكن الحيلة لم تنطل على خوزيه اركاديو بويندا حيث صرخ قائلا " أرفض أن تكون هاته التجربة برهانا يثبت وجود الله ، ان هذا لأسهل من اكتشاف الإنسان للحالات الأربع للمادة"…إن معتقدات البلدة كانت عبارة عن خليط مما حمله المكتشفون الأوائل وماكان يحمله الهنود الحمر المستعرضون في تلك الفترة ، وظلت بعيدة عن الطقوس الدينية..، ولم تتأثر بتعليمات المسيحية بالرغم من انشاء كنيسة فيما بعد..

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات