راسبوتين الذي يتكرر دوما

راسبوتين الذي يتكرر دوما
الأحد 27 أبريل 2014 - 08:19

تبدو شخصية راسبوتين غامضة وملتبسة لا تشبع نهم القراء الذين يسعون نحو الاستثنائي والعجائبي في التاريخ، ولعل اسم راسبوتين نفسه يحمل هذا الالتباس لأنه يدل في اللغة الروسية على مفترق الطرق، مزيج من الإيمان بالدين والانغماس الجنسي وشراهة السلطة… لقد وجد الرجل نفسه وهو الراهب الماجن في أحضان حكم القياصرة، وبامتلاكه لقوة باطنية استثنائية استطاع الرجل أن يقاوم تيار التاريخ الذي ستقذفه أمواجه إلى الأعالي قبل أن ينتهي به الأمر إلى القتل فالحرق.

كان راسبوتين يتمتع بقوة داخلية خارقة حتى تحول من مجرد فلاح بسيط وسكير وعاشق للجنس إلى قديس القياصرة في روسيا القادر على توبيخ القيصر العنيف وجعله مثل طفل وديع، فقد جاء من قريته التي نشأ فيها وحمل وشمها إلى بوطرسبورغ في أوائل القرن الماضي، وفي إحدى شوارع هذه المدينة التي حملت وشم ثورة البلاشفة سيتم إعدامه وبين البداية والنهاية ترتسم صور متناقضة لراسبوتين الراهب، القديس، والداعر المجرم وسيد الشيطان، لقد دخل حيز الأساطير ووجد نفسه أمام تمزق عائلي وكان الدين بمثابة البلسم لراسبوتين الذي سيتحول إلى راهب ستظهر له معجزات تبهر كل المتحلقين حوله، لكن الجنس كان نقطة ضعفه والذي قاده إلى العربدة.. النساء والخمر اليوم ولا أمر غدا، كان التقاء راسبوتين بالأب جون نقطة تحول ستقوده إلى قصر القياصرة، حيث سيصبح المتنبئ بوريث العرش الروسي الضامن لاستمرار نسل العائلة الحاكمة..

لم يكن راسبوتين رجلا جشعا لجمع المال لكن كان يحركه هاجس خفي للشهرة والسلطة ووشم التاريخ بميسمه الخاص وهو ما سيتحقق صحبة نيقولا الثاني حيث سيصبح راسبوتين الحاكم الفعلي لروسيا والذي على عهده سينتهي حكم القياصرة . بسبب مفترق الطرق أو “راسبوتين” الذي استغل ثقة وسذاجة القيصر لبسط نفوذه على البلاد وأجهزة الحكم، فهذا الفلاح الأمي سيحول عرش الإمبراطور إلى مجرد لعبة كراكيز بين يديه.

لكن كيف نجح هذا الفلاح في التسلل إلى بلاط آخر القياصرة؟

بدأ في خلق المعجزات للنساء اللواتي لهن نفوذ في البلاط الملكي وكتب عنه القيصر قائلا: “لقد تم التعرف اليوم على رجل قريب من الرب”. كان راسبوتين يستخدم قوته الباطنية في علاج مرضى القصر وداعت أساطير كثيرة وخرافات متقنة الصنع حول القدرات العجيبة لراسبوتين لعلاج المرضى الذي سيتحول إلى قديس صانع المعجزات، لم يكن الرجل مجرد دجال بل كان له نوع من النبوغ الروحي، ثقة العائلة المالكة هي التي ستبني المجد السياسي لراسبوتين الذي استطاع أن يكون دائرة في المحيط الحاكم من الأصدقاء الذين يدافعون عنه في دائرة البلاط ضد مكر الماكرين ودسائس الحساد، وكما يقول كولن ويلسن صاحب كتاب راسبوتين: “كلما تعاظم أثر راسبوتين في البلاط زاد عدد معاونيه وشركائه”، وسيصبح القصر كله يكن كامل التبجيل للفلاح الأمي وهو ما جعله في قلب المكائد، قربه من القيصر خلق له متاعب كثيرة لكنه استطاع بدهاء أن يزيح كل معارضيه من الطريق وأصبحت له اليد الطولى في تعيين الوزراء وجنرالات الجيش لدرجة أنه أصبح الحاكم الحقيقي..

تقرب من بنات القيصر وحين اشتكت الخادمة من سلوك راسبوتين تم طردها، وحين داعب ممرضة الأميرات واشتكت به للتزارينا زوجة القيصر أرسلتها إلى مصحة عقلية بل إن زوجة القيصر ستسقط في عشق راسبوتين يقول عنه أحد الكتاب: “كان راسبوتين يحصل على أتباعه وتلاميذه بلمح البصر، سيما بين النساء اللاتي انجذبن إليه كما ينجذب الدبور للعسل”، هذا النجاح الذي يؤدي دوما إلى حتف صاحبه غير الكثير من سلوكات راسبوتين الذي أصبح يحتقر كبار رجال الدولة وأصبح مهاب الجانب وسعى الكثيرون إلى التقرب منه أو محاولة تدميره.

بدأت فضائح راسبوتين الجنسية تطفو على السطح وبدأ الناس يتساءلون: هل راسبوتين قديس أم شيطان؟ وأخذت الفضائح تنزل تباعا على رأس هذا الرجل النافذ لكنه مع ذلك ما فقد قوته السحرية، وحتى حين نشرت إحدى الصحف: “راسبوتين زاني الأرواح الإنسانية وأجسادها”.. اكتفت زوجة القيصر بالتعليق: “الكل يكرهه لأننا نحبه”، فما كان من القيصر إلا أن أصدر مرسوما يمنع بموجبه أية صحيفة تتحدث عن راسبوتين عام 1905، كان ذلك هو العصر الذهبي لراسبوتين لكن مع بداية العقد الثاني من القرن الماضي سيعاني الرجل النافذ في قلب مملكة القياصرة مما يمكن أن نسميه بعمى التاريخ.. فقد تعرض القيصر إلى أكثر من محاولة اغتيال ووجد راسبوتين نفسه في المحرقة بعد انتصارات متتالية للينين وجماعته وكان موقف راسبوتين المناهض للحرب مع ألمانيا بداية العد العكسي لأمجاد هذا الرجل الساحر.. المهم أن بداية الثورة البلشفية ستكون نهاية القديس الفاسق راسبوتين حيث سينتهي مقتولا بشكل سيء وسيرمى في نهر النفكا الصغير ولم يكتف الثوار بذلك بل أخرجوا جثة راسبوتين من قبرها وأحرقوها إمعانا في الازدراء وفي نهاية مرحلة كان راسبوتين يحكم فيها روسيا على مشيئته وهواه، تلكم فقط بعض غوايات السلطة ودهاليزها التي سردناها كعبر للتاريخ.

‫تعليقات الزوار

3
  • نعيم
    الأحد 27 أبريل 2014 - 11:45

    أفصحت من طرف خفي الى ما يدور خلف الابواب المغلقة، ألمحت من غير ان تصرح، والحر تكفيه الاشارة

  • marrueccos
    الأحد 27 أبريل 2014 - 11:52

    روسيا نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 كانت تغلي ثقافيا ؛ سياسيا وإجتماعيا ! علماء ؛ أدباء ؛ فلاسفة ؛ تشكيليون ؛ سياسيون ؛ طبقة عاملة ملتهبة سياسيا ! طبقة بورجوازية منقسمة بين هم الوطن وأخرى همها منافسة البورجوازية الأوربية في المظهر !
    ما دور دجال في مجتمع أعطى علماء بيولوجيا وكيمياء وفيزياء ! " بافلوف " حائز على نوبل 1904 ؛ " ميتشنيكوف " نوبل 1908 . وأدباء " غوركي " ؛ فنانين " بلاكيريف " " بورودين " وغيرهم الذين ألهموا " تشيكوفسكي " ؛ الرقص والموسيقى بشهرة عالمية " Diaghilev " ؛ وتشكيليين هجروا القاعات الأكاديمية فإمتهنوا التجوال لنقل تجربتهم إلى المواطن البسيط " ريبين " ؛ " سوريكوف " !
    كل المؤشرات الدالة إشتعلت أضواءها الحمراء ٱذنة بثورة ( البلاشفة ) ليت " ماركس " ما وجد ! لكون الإنتقال إلى الجمهورية كان حتمية أجهضها ملوك البلاشفة وعلى رأسهم الإمبراطور " ستالين " !!!

  • لطيفة ب -ك
    الإثنين 28 أبريل 2014 - 15:09

    مع الاسف عندنا عدد كبير من الناس يشبهون راسبوتين

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة