من إثارة قضية بنعيسى إلى مقتل الحسناوي والحاجة إلى شجاعة النقد الذاتي

من إثارة قضية بنعيسى إلى مقتل الحسناوي والحاجة إلى شجاعة النقد الذاتي
الخميس 15 ماي 2014 - 07:45

كم هو مؤثر ذلك الموقف النبيل الذي عبرت عنه والدة الشاب الشهيد عبد الرحيم الحسناوي، حينما تحلت بشجاعة الصفح والغفران، وعبرت عن مسامحتها لقاتله، وهي الأم المكلومة على فلذة كبدها، التي شقت وكدت من أجل أن ترسله طالبا إلى الجامعة بحثا عن العلم والمعرفة فعاد إليها بشهادة على أسوأ ما في هذه الجامعة: تسوية الاختلاف في الموقف والرأي والملة السياسية بأدوات موروثة من القرون الوسطى: السيوف الحادة بمختلف أنواعها.

يشعر المرء بالتقزز والاشمئزاز حينما يقرأ ما بين سطور بيانات هيئات “سياسية” و”حقوقية” و”طلابية”، استخفافا بما تفرضه هذه اللحظة التراجيدية من استحضار لمشهدها الإنساني بالقصد الأول، وليس اغتنامها فرصة لتذبيج بيانات تنم عن بؤس في الحس الانساني وفقر في النبل الأخلاقي، من قبيل تلك التي نعتت الضحية بأحد “العناصر الظلامية” !

إن الذين تألموا اليوم بسبب فقدانهم لعضو من عائلتهم، البيولوجية أو السياسية، يعلمون، علم اليقين، أن الطالب عبد الرحيم الحسناوي ليس أول شهيد للحرم الجامعي، وإن كنا نتمنى أن تتكاثف الجهود من أجل أن تغسل دماؤه الزكية كل آثار العنف الأعمى الذي يهدد كياننا الجامعي بما هو فضاء للحوار وتبادل الأفكار وتلاقح المذاهب وتزاوج التيارات عملا بالمبدأ الفلسفي القائل “من الاختلاف يولد أجمل ائتلاف”.

وعلى صعيد آخر على الذين أحييوا، بعد مضي عشرين سنة، ملف الطالب بنعيسى أيت الجيد، المقتول سنة 1993، بجامعة فاس، خلال مواجهات طلابية دامية وهمجية، غاب فيها صوت العقل والحكمة والحوار، وحل محلها قانون الغاب والغريزة البربرية؛ عليهم أن يتأملوا العمق الإنساني لتصريحات والدة الحسناوي المسامح للقتيل، من دون أن توجه الاتهام إلى شخص محدد أو طرف سياسي محدد.

وهي مفارقة كبيرة أن تسامح أم جريحة مكلومة في لحظات لم يوارى فيها جثمان ابنها الترى بعد، بينما “يتذكر” طائفة من “المتحزبين” أن طالبا قد قتل قبل عقدين من الزمن ويطالبون ب”القصاص”، لا من القتلة الحقيقيين، وعدم التسامح معهم، بل يوجهون الاتهام إلى شخص بعينه، من دون غيره من الناس، وياليتهم اكتفوا بتوجيه الاتهام، بل صوروا الشخص المعني كأنه القاتل الحقيقي، في تجاوز صارخ للأحكام القضائية والتحقيقات الجنائية التي طالبوا بها !

لو صدرت مثل هذه الاتهامات عن جهات طلابية لاعتبرنا الأمر جزءا من “البوليميك” الطلابي الذي تعرفه جامعاتنا والذي قلما تهمه الحقيقة في ذاتها بقدر ما يهمه مواجهة خصمه السياسي، سواء بالحق أو بالباطل، طالما أن الغاية تبرر الوسيلة في أجواء ملوثة وغير سليمة.

لكن، أن يتبنى القضية رجال سياسة يتصدرون المشهد الحزبي، ويطرحون القضية في إعلاميا وحقوقيا وسياسيا، بأسلوب تنبعث منه رائحة الحقد والانتقام، ولا علاقة له بسماحة قلب والدة الشهيد الحسناوي، فإن الأمر يدعو إلى الدهشة والاستغراب وإعادة تركيب الأحداث وتسلسلها إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من مشهد مأساوي.

هكذا يحق لنا أن نتساءل عن الدور الذي لعبته تصريحات بعض السياسيين، سواء داخل قبة البرلمان أو في وسائل الإعلام، حول قضية بنعيسى أيت الجيد، وتوجيه الاتهام إلى شخصية سياسية بعينها، في توتير الأجواء وشحنها بما يجعلها قابلة للاشتعال عنفا وقتلا ودما في أي وقت، وهو ما حدث بالفعل للأسف الشديد.

لا نريد من هذا التساؤل أن نستعير من قاموس الاحتراب المصري تهمة بئيسة يسهل تلفيقها لأي خصم سياسي، فنتهم بعض قادة حزب سياسي معروف ب”التحريض على القتل”، ولكن نريد فقط مطالبة هؤلاء القادة بشجاعة النقد الذاتي في هذه القضية بالذات.

إن عددا من رفاق الطالب أيت الجيد، يتخذون مسافة واضحة بينهم وبين الحزب المذكور، بل يشككون في صدقية نوايا الذين “تذكروا” فجأة مقتله، وهؤلاء الرفاق لا يطالبون إلا بمعرفة الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة، ولا يوجهون الاتهام إلى أي كان، ويرفضون رفضا قاطعا توظيف قضية رفيقهم الشهيد في تصفية حسابات سياسوية ضيقة، تستهدف الاغتيال المعنوي لشاب شارك بفعالية في ملحمة 20 فبراير، وعرف بمواقفه المعارضة لتأسيس حزب سلطوي جديد.

إنه مهما بلغت درجة الاختلاف والاستقطاب بين الأحزاب السياسية، فلا يجوز لها أن تضرب بعرض الحائط، أبسط مبادئ دولة الحق والقانون، التي يفترض أن تناضل هذه الأحزاب من أجل تحقيق الانتقال الديمقراطي المدعم لأسسها والمؤصل لقواعدها، فتلجأ إلى أسلوب الضرب تحت الحزام، محولة السياسة من فن نبيل لمعالجة أمراض الواقع إلى جزء من مشاكله المزمنة.

ألم يكن واجبا على جميع الهيئات الحقوقية والسياسية والطلابية أن تصدر بيانات، بل أن تنظم وقفات، منددة ومحتجة، على التهديدات التي صدرت ضد نشاط طلابي كان من المتوقع أن يكون موضوعه “الحوار الإسلامي العلماني”؟ وبأي حق يتم التهديد بإسالة الدم إذا ما حضر قيادي من حزب العدالة والتنمية ؟ ومن خول الجهات المعنية حق اعتباره “قاتلا ويداه ملطختان بالدماء”؟

لقد قضى السيد عبد العلي حامي الدين سنتين على ذمة القضية نفسها، واعتبرت هيئة الانصاف والمصالحة في وثيقة رسمية لها أن اعتقاله كان اعتقالا تعسفيا وأن محاكمته تبعا لذلك لم تكن عادلة، ثم عاد خصومه السياسيون للمطالبة بمحاكمته مجددا بعد عشرين سنة، فقالت الجهات القضائية المعنية كلمتها، فلم التمادي والإمعان في إثارة هذا الملف إلى درجة التهديد بالقتل؟

ألا تدعو هذه التصرفات الغريبة والمشبوهة إلى عدد لا يحصى من التساؤلات المشروعة حول أهدافها ومقاصدها الحقيقية؟ هل هي من أجل إسكات كل صوت سياسي معارض ومشاكس؟ لنفترض جدلا أن السيد حامي الدين قد حضر رفقة زميليه حسن طارق ومحمد مفيد؟ هل كنا سنشهد جريمة اغتيال سياسي بالواضح ومع سبق الإصرار والترصد؟ ألم نتخذ عبرة من جرائم الاغتيال السابقة؟ لعل أقربها إلى الأذهان جريمة اغتيال الزعيم الاتحادي عمر بن جلون، فضلا عن العشرات من الاغتيالات التي ذهب ضحيتها عدد من الطلبة الجامعيين، على يد “طلبة” آخرين، وليس الطالب أيت الجيد أولهم وإن كنا نصلي من أجل أن يكون عبد الرحيم الحسناوي آخرهم؟

إن الجريمة التي وقعت بينت أن السيد عبد العلي حامي الدين مهدد بالقتل فعلا، بعدما اعتقدنا أن الأمر مجرد “مزحة” حينما تعرض لما تعرض له بجامعة القنيطرة وأدرك أن حياته في خطر، وصدر بيان تضامني معه من طرف عدد من الفاعلين السياسيين والجمعويين والحقوقيين. فمن يطلب دمه ؟ ولأي هدف يا ترى؟

لاشك أن الإجابة على مثل هذه الأسئلة ستبقى مجرد تخمينات وظنون، من الصعب إثباتها بالحجة والدليل، لذلك، وعوضا من الاستسلام لما تثيره من خوف وقلق، ندعو الجميع، خاصة أولئك السياسيين، الذين لم يرقوا، للأسف الشديد إلى الحس الفطري لوالدة الشهيد عبد الرحيم الحسناوي، أن يتحلوا باعتراف الشجعان ويزنوا مواقفهم وتصريحاتهم حول القضية التي أججت الحريق الدامي مجددا بجامعتنا، بميزان النقد الذاتي، بعيدا عن كل محاولة للهروب إلى الأمام لإخفاء فقر مشهدنا السياسي لأدوات نبيلة لتدبير الاختلاف السياسي وتسوية الصراع الإيديولوجي على أرضية ديمقراطية مؤسساتية تحترم أسس وقواعد دولة الحق والقانون.

‫تعليقات الزوار

3
  • لا بد من قراءة التاريخ
    الخميس 15 ماي 2014 - 15:43

    قال كاتب المقال:"وهي مفارقة كبيرة أن تسامح أم جريحة مكلومة في لحظات لم يوارى فيها جثمان ابنها الترى بعد، بينما "يتذكر" طائفة من "المتحزبين" أن طالبا قد قتل قبل عقدين من الزمن ويطالبون ب"القصاص"، لا من القتلة الحقيقيين، وعدم التسامح معهم، بل يوجهون الاتهام إلى شخص بعينه، من دون غيره من الناس، وياليتهم اكتفوا بتوجيه الاتهام، بل صوروا الشخص المعني كأنه القاتل الحقيقي، في تجاوز صارخ للأحكام القضائية والتحقيقات الجنائية التي طالبوا بها !"
    كذلك من المفارقة أن حزبكم وخصوصا جمعيتكم الدعوية التوحيد والإصلاح عبر الرجل التاني فيها بالخصوص يصدق عليها وعليه:"أهل الميت صبرو والمعزيين كفرو" فقد نادى السيد الهلالي بإنزال أقسى العقوبات بالمجرمين القاعديين بل طالب باعتبارهم إرهلابيين وماحكمتهم بالإرهاب وووو في تجاوز صارخ أيضا لعمل ومجريات القضاء
    أبدا لن يتم إغلاق ملف العنف داخل الجامعة ما لم تتم قراءة تاريخه من ألفه إلى يائه قبل المرور إلى مرحلة المصالحة مع هذا التاريخ وتوفير كل الشروط المادية والموضوعية لعدم تكراره.
    فلماذا إذن يفزعكم التاريخ؟

  • أنا حماد
    الخميس 15 ماي 2014 - 16:20

    خلقت بعض الأحزاب السياسية لتكسير أخرى في زمن ما وخلقت معها كيانات طلابية ونقابية و جمعوية ودعوية لذات السبب فماذ تنظر إلا العنف والعنف المضاد . والخاسر هو الشعب والمستفيد هو خالق الأحزاب والكيانات ………

  • abdellah
    الخميس 15 ماي 2014 - 19:58

    إن الذين يكيلون التهم المجانية يدركون التصاقها بالوعي الجمعي حتى بعد تفنيدها ونفيها بواسطة حكم قضائي نهائي .هذا ما حصل مع الشيخ أنهاري فقد اتهم بالتحريض على القتل وتجندت الآلة الإعلامية للتشهير به وبعد تبرئته ومرور وقت غير يسير عادت القناة البئيسة لنفس التهمة وقدمتها كدليل على دعواها الزائفة دون الرجوع إليه استيفاء للموضوعية الغائبة عن القناة المولة غصبا عن الشعب .

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش