لا تنقُضُوا غَـزْلَ رمضانَ

الخميس 31 يوليوز 2014 - 13:09

توفيق وتتويج وشكر:

إنه لما كان صيام رمضان عطاءً وكرماً إلهياً إرضاء لحبيبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تكفّل عز وجل ووفر شروط استفادة الصائمين من هذا العطاء الإلهي. وفي الحديث أنه إذا حل رمضان تزينت الجنة وفتحت أبوابها، وأغلقت أبواب جهنم، وصُفدت الشياطين، حتى لا يفسدوا على أمة حبيبه صيامهم. فيجد الصائمون في نفوسهم استعدادا للطاعات، فتخف منهم الأعضاء، وتتزاحم بهم المساجد.

ومن حديث ابن حبان والبيهقي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول للملائكة يوم عيد الفطر، والمسلمـون في المصليات لأداء صلاة العيد: “ما جزاءُ الأجير إذا عمل عمله؟ فتقول الملائكة: إلهَنا وسيّدَنا، جزاؤه أن توفيه أجره. فيقول: إنّي أشهدكم يا ملائكتي، أني قد جعلت ثـوابهم من صيـامهم شهـر رمضان وقيامهم رضـاي ومغفرتي، ويقول: يا عبادي سلوني، وعِزّتي وجلالي، لا تسألوني اليوم في جمعكم لآخرتكم إلاّ أعطيتكم، ولا لدنياكم إلاّ نظرت لكم. فوَعِزّتي وجلالي، لأسترَنّ عليكم عثراتِكم ما راقبتموني. وعزّتي وجلالي، لا أخزيكم ولا أفضحكم بين أصحاب الحدود. انصرفوا مغفورا لكم، قد أرضيتموني ورضِيتُ عنكم. فتفرحُ الملائكة وتستبشر بما يُعطي الله عزّ وجلّ لهذه الأمّة إذا أفطروا من شهر رمضان”.

عيد الفطر يوم الجائزة الربانية، يتوافد فيه الصائمون والصائمات على المُصليات وقد أخذوا زينتهم ظاهرا وباطنا فرحا وابتهاجا بنعمة الهداية والتوفيق أن يسّر لهم أسباب العتق من النار. يقول جل وعلا في سورة البقرة بعد آيات الصيام: “وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ”. والشكرُ جوهر العبادة، إذ هو اعتراف بنعم الله وفضله.

العهودَ العهودَ:

وإذا كان الشكر أعلى مقامات العبادة، وقد كان صلى الله عليه وسلم عبدا شكورا، فإن جوهر الشكر وحقيقته هي لزوم الطاعة، فلا يليق بمن ذاق حلاوة الإيمان وتفيأ ظلال الطاعات والقربات في شهر رمضان أن يرتدّ على عقبه، ويعود إلى ما كان عليه من الغفلات وهدر الأوقات، قبل رمضان. ما استفاد من رمضان، وإن حُطت عنه خطاياه بصيام وقيام رمضان من فرّط في رصيد رمضانه من الطاعات. يقول تعالى: “ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوةٍ أنكاثا”. نقْض الغزل تعبير عن تضييع رصيد الطاعات من الثواب والحسنات. نقضَ غزلَ إيمانه وعهدِه مع الله من سارع إلى المسجد لأداء الصلوات المكتوبة محافظا على نوافلها ورواتبها خلال رمضان، ثم أعرض بعده عن نداء “حي على الفلاح”، ولم تعدِ “الصلاة خيرا من النوم”. نقض غزله وخرّب بيت إيمانه من هجر كتاب ربه، وهو الذي ختمه ختمات خلال رمضان. نقض العهد مع ربه من تثاقلت منه الأعضاء ليقف بين يدي ربه لُحيْظات متعرضا لأنوار السحر، وهو الذي شهد تهجد شهر رغم نصب الصيام والسعي عن العيال. نقض العهد من بإعلان رؤية هلال شوال انتهت عنده صلاحية “اللهم إني صائم”، فأطلق للسانه العِنان وعاد لطبعه الغضبي يتسابّ ويتشاتم، لسبب وبدونه. نقض العهد من كف عن الكسب الحرام خلال رمضان، ثم عاوده الحنين لأكل أموال الناس بالباطل. خسف صرح إيمانه من عاد لتضييع حقوق العباد وعاد إلى سوء الأخلاق وقبيح المعاملات وضيع واجباته المهنية، بعد توبة بصلاحية شهر فقط. ما عرف قيمة الصيام وكيف يعرج بالروح ويسمو بها عن السفاسف من استثقل صيام ستٍّ من شوال تعدل ثواب صيام الدهر. يقول عز وعلا في سورة الأعراف، الآية: 101: “وما وجدنا لأكثرهم من عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين”. ألا فلْنُـراقبْ عهودنا مع الله تعالى، ولْنـنْـظر درجتنا من قوله تعالى مستعرضا تجليات البر في سورة البقرة، الآية: 176: “والمُوفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عاهدوا”. لذلك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمِل عملا ثبته وداوم عليه، فلا نبات لشجرة الإيمان إلا بثبيت الطاعات. وإن خير الأعمال أدومها، ولو قـلَّ. كما في الحديث.

سبيل الأكياس:

من صفات الأكياس راجحي العقول وأرزنها، العمل لما بعد الموت مرورا بدوام اتهام النفص بالتقصير، فلا يستكثر ما قدم بين يدي الله تعالى. والأكياس من استثمروا أعمارهم القصيرة في مشاريع طاعات وقربات تنمي رصيدهم من الثواب تطلعا لأرفع درجات الجنان والرضا الرباني، يوم لا تجدي العشيرة أو الألقاب الدنيوية أو الأموال، وإنما ينفع الاسم والصفة واللقب في الملكوت الأعلى.

الأكياس من استثمروا دنياهم لآخرتهم فانخرطوا في أعمال يستمر ثوابها وتتعاظم أجورها بدوام فائدتها جيلا بعد جيل، وإلى قيام الساعة. أعمال كثيرة نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعضها. وفي الحديث: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”. ما أكثر الصدقات الجارية التي ينتفع بها العباد! وما أكثر العلوم التي تتطلبها عزة الأمة! ولا يُحصر الأولاد في الأبناء الطينيين، فكما أن الأبوة الدموية ليست هي الأبوة الحقيقية كما وردت ضمنا في وصايا لقمان، فكذلك البُنوّة، تتعدى آصرة الدم لتشمل آصرة التربية الإيمانية. وعليه، فأجيال الأمة مشاريع أبناء صالحين متى أحسنت تربيتهم، من آبائهم الطينيين، وإلا ممن ندبوا حياتهم لانتشالهم من الجهل والغفلات والموبقات التي تتخطفهم صباح مساء.

شتان في الدرجة الإيمانية بين من سلك في عبادة ربه سبيل الخلاص الفردي، فاهتم بنفسه، صلى وصام وزكّى وحج وقرأ القرآن وبرّ بوالديه وأهله، وبين من فعل ذلك وتهَمّـم بأحوال المسلمين، ففرّج الكرب، وحارب الجهل، ودفع الظلم، وسعى في حاجات المحتاج، وهيأ للناس ظروف الإقبال على ربهم.

شتّان بين من تعلم القرآن يريد أعلى درجات الارتقاء، يوم يقال: “اقـرأ وارْقَ” وبين من تعلمه وعلمه، وفي الحديث: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه”. يقول رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه: “أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم ـ أيْ أكثرُهم نفعا ـ وأحبّ الأعمال إلى الله عز وجل سرورٌ تدخله على مسلم، أو تكشفُ عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطردُ عنه جوعاً، ولأنْ أمشيَ مع أخي المسلم في حاجة أحبّ إليّ من أن أعتكِفَ في المسجد شهراً، ومن كفَّ غضبَه، ستـرَ الله عورته، ومن كظَمَ غيظاً، ولو شاء أن يُمضيَه أمْضاه، ملأ الله قلبَه رضىً يومَ القيامة، ومن مشى مع أخيه المسلم في حاجته حتى يُثبِتَها له، أثبتَ اللهُ تعالى قدمَـه يومَ تُزال الأقدامُ، وإنّ سوءَ الخلق لَـيُفسِدُ العمل، كما يُفسد الخلُّ العسل”.

ألا فلينظر كل مشتغل بخويْصة نفسه، أي ثواب، وأية درجات قرب وتقرب يُفوِّتها على نفسه؟ ألا فليعلم من اختار هذا النهج سبيلا للعبادة، ومن باب الذكرى، أن الإيمان تعلق دائم بالله واشتغال بهموم العباد وحياء هو ضابط الرقابة لله في الأعمال، نظرا في صلاحها نيةً وكيفية. عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “الإيمان بضع وسبعون ـ وفي رواية البخاري بضع وستون ـ أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان”.

والحمد لله رب العالمين.

‫تعليقات الزوار

3
  • هواجس
    الخميس 31 يوليوز 2014 - 18:07

    "الصيام ارضاء من الله لحبيبه محمد" هذا شيء جديد لم اكن اعلم به من قبل ، الله يرضي رسوله وليس العكس …في رمضان تُصفد الشياطين وبعده يُطلق صراحها لتعيث خرابا في نفوس الناس ومن بعد ذلك يُحاسبون على افعالهم كبيرها وصغيرها ، ولا اعرف لماذا لا يبقيها مصفدة ليعم الخير في الدنيا ويدخل الناس في دينه افواجا وتُغلق ابواب جهنم مرة والى الابد …
    طفرة نوعية في الاسلوب ، غابت عنه عبارات السب والشتم والتكفير والوعد والوعيد والتسفيه والشيطنة …تقدم ملموس

  • من اجل سنة نقدية
    الجمعة 1 غشت 2014 - 11:45

    دائماً علينا العودة للأحاديث الموضوعة ،عن النبي ،اولا لمادا ستين الجنة ،وهي جنة ،تانيا الصلاة عمل للانسان من اجل يوم الحساب لانها دين ،وليست من اجل النبي،وكدلك الصوم والتصور البراغماتي يبني ان الصلاة دات بعد اجتماعي اخيراً محمد ليس عالم إسلاميات ،لم يتحدث يوما عن عدد اشكال الإيمان ،ان الرسل تبلغ ما أوحي اليها ،ولا تضيف شيئا وقطعا، فبدون سند قرآني ستبقى تلك الاحاديث موضوع نقد ،هناك اجتهادات لبعض الفقهاء هي اقرب الى علم الكلام ،متل حديث الفرق الناجية او صفد الجن ،وقد تم ترقيتها الى احاديث في خضم الصراعات الاجتماعية والسياسية التي عرفها الاسلام او لانعدام آليات اجتماعية تقافية لضبط المرويات من مدارس او مجموعات بحوث في بداية الاسلام على منوال القران ،ويجب ان نعترف ان السنة قد طالها ما طال التورة والإنجيل من إضافات وتغييرات

  • الحسين السلاوي
    السبت 2 غشت 2014 - 00:11

    خلال رمضان تصفد الشياطين..اي نعم .. لكن ليس كل الشياطين .. ..ففي هذا الشهر الكريم شهر المحبة والاخاء تهيج ..شياطين.. وتكثر النزاعات حد القتل على اتفه الاسباب ..حتى أنه الشهر الوحيد الذي ترتفع فيه نسبة الاجرام والمشاجرات ..على لا شيء ..انهم شياطين الانس الذين لا يصفدون الا "بنميرو خمسة " .
    وعلى ذكر امتلاء المساجد خلال هذا الشهر الفضيل ينشط هؤلاء الشياطين ..فبفضل شيطنتهم المتمرسة وبراعتهم في سرقة الاحدية يتصيدون.. الرواد الجدد و عباد رمضان.. فيتركونهم يمشون "بصندالات" المسجد المفرومة ..عندها.. يتعلمون أول درس وهو أن "صندالات" الوضوء لم يتم فرمها الا لمنع الايدي عن سرقتها من مكان المفروض فيه وجود امن وأمان روحيين وطهارة نفس .. وثاني درس هو فهمهم للافتة الموضوعة على السواري ;ضعوا أحذيتكم أمامكم .. وثالث درس سيدركون معنى المقولةالتي قالها عبد الرزاق الجبران وهو مفكر ديني عراقي: ليس كل الذين يدخلون المسجد مؤمنون .. (مع العلم اننا لا نشاركه تصوراته الفكرية).
    تحياتي للاستاذ سنكي

صوت وصورة
ليالي رمضان في العيون
الجمعة 29 مارس 2024 - 15:57

ليالي رمضان في العيون

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج