لحم بالسفرجل

لحم بالسفرجل
الجمعة 26 شتنبر 2014 - 00:33

يخطر لها أحيانا أن راحة الإنسان الحقيقية لا توجد إلا في البوح و كتابة الاعترافات. هذا، رغم أنه مر عامان كاملان دون أن تكتب حرفا واحدا مما تريد أن تعبر عنه. أ في الكتابة راحة الإنسان ؟ إنه مجرد خاطر يهدهد القلب إذا أفاضت الآلام كأس الأحزان…

خاطر لا وزن له في حياة كل يوم. حلم يقظة، سحابة صيف…

و هل نجح الكتاب يوما في حل مشاكل العالم ؟؟؟

أي فرح يمكن أن تجود به الأيام ؟ أي أمل يبقى بعد عناء كل هذه السنين ؟

إنها العمود الفقري لهذا البيت، و قلبه النابض، وترمومتره، و أساسه المتين، فهي أول من يستفيق و آخر من يسلم للكرى أجفانه، و أكثر من يحنو على الأبناء، و يشاركهم الفرح و الألم و الحلم بغد أفضل، و لكن رغم كل التضحيات، ما زالت و ستبقى دائما و أبدا تحس أنها كائن يحيا على الهامش.

هاجر الأبناء كلهم، مراد وسلوى و سعيدة و أحلام، إلى ألمانيا و فرنسا و كندا و أمريكا، و لم يبق في البيت سواها، و زوج كثير النقار صعب المزاج سيؤه، و جهاز تلفاز متواتر الضوضاء، وسمكة ملونة سابحة في حوض رابض على طاولة الصالون، و ببغاء غريب الأطوار ثقيل الحركة قليل الكلام.

العمر يتقدم بها، و يشهد على ذلك التجاعيد التي بدأت تحفر لها أخاديد عميقة في الوجه و اليدين، وما تتراشق به مع زوجها من عتاب عميق الجذور، يتخفى حينا خلف الصمت، و أحيانا أخرى في ثنايا اللامبالاة أو لواذع الكلم.

متى يفهم الزوج و أب المهاجرين أن الحياة لا تنتهي في الستين ؟ متى يفهم أن نهاية الحياة المهنية ليس معناه أن يقبع في البيت، و يفكر في الموت، و يكف عن الحركة، و يغرق في الكآبة، و ينهال على الغير بوابل من النقد، و يقفز اليوم بكامله بين قنوات الساتل وراء الأخبار السوداء بما فيها فساد المجتمع، ونفاق كثير من المسؤولين، والحرب على غزة و القلاقل في العالم العربي، و فتنة الدواعش، و وباء الايبولا، و جرائم الشواذ، و هلم جرا… ؟

وهي بالمقابل لها من العيوب و السلبيات ما يملأ صفحات كتاب كامل، و لكنها إن لم تمارس الرياضة فهي تمشي كل يوم ساعة أو ساعتين، و إن لم تهتم كثيرا بالسياسة و تلقف الأخبار في التلفاز فإنها مواظبة على دروس الدين و التنمية البشرية، و إن لم تفكر كثيرا في الموت فهي حريصة قدر الإمكان على نظام غذائي متوازن يقيها بعضا من أمراض الشيخوخة الشائعة.

الزمن يقتلع المسافات كما الريح العاتي يقتلع أوراق الشجر، و وجوه عزيزة على القلب غيبها الموت، أو المرض، أو البعد، أو كل ذا و ذاك. و لكن هل يهم شيء ؟ دعونا من الماضي و لنستسلم لسطوة الحاضر. لكن… من منا يستطيع أن ينفلت من الماضي، و ذاكرته الحبلى بالقصص و الأحداث و المشاهد ؟

في الخامسة و الخمسين، قوية البنيان، قليلة الشكوى، صبورة، بيضاء القلب، صافية السريرة، حلوة المعشر، في عينيها نور و نصاعة و طفولة و شجن و شطآن حنان…

لا تفتح فمها لتحتج أو لتصخب أو لتصرخ في وجه أحد، لا يهمها أن ترتاح، و لكنها حريصة على التفاني و على أن تظل الشمعة التي تنير الآخرين باحتراق الذات و الذوبان في نهر العطاء…

عندما كانت في الخامسة من عمرها، أرسلتها أمها لإيصال الحلوى إلى الجيران في الضفة الأخرى من الوادي، و لأنها عبرت الشارع المصطفق بالسيارات و الشاحنات المهرولة في كل اتجاه دون أن تنتبه لإشارة المرور، أو تسلك ممر الراجلين، فقد دهستها سيارة مجنونة و كسرت في الحال ساقها اليمنى، فرفعت عقيرتها صائحة : “لا أريد أن أذهب للمستشفى”، و أغمي عليها، و لسوء حظها، أفاقت بعد ساعة على وجوه الممرضين، و هي ممددة، ملفوف ساقها في الجبس، بغير قدرة على الحراك.

و لكم ينتابها الضحك، و هي تتذكر اليوم، في عيد ميلادها الخامس و الخمسين، أنها حين كانت راقدة في المستشفى قبل خمسين عاما مضت، كان الراديو يصدح بأغنية “آش داني، علاش مشيت؟ “، و لبراءتها خيل إليها أنها موضوع الأغنية.

” لماذا حملت طبق الحلوى للجيران ؟ لم كان مصيري حادثة السير في ذلك اليوم الذي لا ينسى ؟ كيف ألقيت بيدي إلى التهلكة ؟ لماذا لم أرفض الخروج من البيت يومذاك ؟ “

و كانت أيام المستشفى طويلة، و خالتها شهورا عديدة، و لكنها في الواقع لم تزد على أسابيع ثلاثة. و ها هو ذا أبوها يسألها بحنان يوم خروجها من المستشفى :

– الحمد لله على سلامتك، ماذا تريدين أن تطبخ أمك للغداء اليوم ؟

– اللحم بالسفرجل.

– لحم بالسفرجل ؟ فقط ؟ متأكدة ؟ إنها أكلة عادية… لا تريدين بسطيلة أو دجاجا محمرا بالليمون و الزيتون ؟؟

– لحيمة بالسفرجل و صافي…

* أديب و أستاذ جامعي

[email protected]

‫تعليقات الزوار

3
  • جنازة وشموع
    الجمعة 26 شتنبر 2014 - 09:06

    لنقارن هده المحاولة الأدبية مع اخرى في نفس الصفحة و عنوانها جنازة ،لهما نفس الموضوع ،وهو الآباء المسنون ،منظور إليهما من زاوية الأبناء ،جنازة تطرح كوابيس أبناء الموظفين قبل وبعد التقاعد،عالم الرواية إسلامي مع شخصيات شعبية وأوصاف قاسية وفجة تلمس فيها نوعا من التعالي والاحتقار للفئات الفقيرة ،بالنسبة لمحاولة المهدي ،لا نلمس احكاما طبقية اجتماعية ،او مواضيع سياسية اجتماعية ،ولكن عالم النص إسلامي متفائل وليس عبر شخصياته او احداثه ،بل عبر أوصاف الكاتب للأحداث ،فالأمهات هن شموع في منازلهن ،وهده قولة شهيرة لابنكيران ، أكيد لكل إنسان قناعاته السياسية ،ولكنهما محاولتين لإسلاميين ،احداهما نقدية والأخرى إيجابية ،فالسؤال هل تلك الرسائل السياسية،كانت مقصودة ام عفوية ?

  • Hard Talk
    الأحد 28 شتنبر 2014 - 07:37

    ا لى جنازة و شموع
    لست ادري من ايتت, انت و اشباهك, بكلمة "اسلاميون", ربما اقترضتموها من قاموس اسيادكم الغربيين. نقول الفلسفة الاسلامية, المد الاسلامي, الفن اسلامي ولا نقول الانسان الاسلامي بل المسلمون. نحن لسنا اسلاميين بل مسلميين.
    اما عن كون الام شمعة, اكيد هي شمعة و ثريا. لن انس طفولتي و مراهقتي و جزءا من شبابي, كنت كلما عدت للبيت من المدرسة او الثانوية كانت اول من يستقبلني في الباب بابتسامتها الحنونة و عطفها, نشيطة و دائمة الحركة كالنحلة. نعم الام شمعة و عندما انطفات امي ذهب النور و لم يبق الا ضوء ضعيف جدا يحزن النفس.

  • محمد
    الأحد 28 شتنبر 2014 - 21:47

    محاولة جميلة لرسم واقع يومي لكبار السن، ومن ما يضفيها من الجمال أكثر، عملية التمهيد الاولي قبل الدخول للموضوع، وكأن اﻷمر تنبيه للقارئ الى موضوع القصة وجس لنبضه قبل السفر به عبر الزمن عكس عقارب الساعة.
    شكرا أستاذي العزيز.

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب