"سيريزا" والحال عندنا

"سيريزا" والحال عندنا
الأحد 8 فبراير 2015 - 23:55

لم يأت فوز حزب «سيريزا» اليساري في الانتخابات اليونانية من فراغ، لقد كان نتيجة للأزمة الأوروبية العميقة التي ترتبط بمجالات خاصة بالهوية، وبالاقتصاد وتأثيراته الاجتماعية، وبارتباط ذلك كله بسياسات دول المركز الأوروبي وانعكاسها على دول الهامش.

في ماي 2010، أقرت «خطة الإنقاذ» التي تفاهمت عليها الحكومة اليونانية مع «الترويكا»، أي المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي، على تأجيل سداد الديون اليونانية للاتحاد الأوروبي، في مقابل سلسلة من الإصلاحات وإجراءات التقشف.

كانت التوقعات التي شكلت أساس الخطة تعتبر أن اليونان، خلال مرحلة التعافي، ستعيش تراجعاً اقتصادياً مؤقتاً يؤثر على سوق العمل والبطالة لغاية العام 2012، قبل أن تتحقق النتائج الإيجابية للخطة بعد ذلك. لكن انعكاس هذه الخطة على الاقتصاد اليوناني، الذي كان يعيش فترة ركود أصلا، كان سلبياً، فيما كانت تأثيراتها الاجتماعية كارثية. ففي الوقت الذي زادت فيه نسبة الضرائب التي تقتطعها الدولة من حجم الناتج المحلي، والتي خصص نصيب كبير منها لسداد الدين العام، تراجع هذا الناتج بشكل كبير. ومع ارتفاع معدلات البطالة إلى مستويات قياسية وبلوغها نسبة ستين في المئة، وصلت البلاد إلى حد الإفلاس في العام 2014، وهي بذاك تشهد حالة انهيار متواصل، من دون أن تظهر أية تاثيرات إيجابية واضحة لسياسات التقشف.

ظهور اسم «سيريزا»، في أعقاب الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية السلبية للسياسات النيوليبرالية في اليونان، وأصداء فوزه الانتخابي الكبير التي جعلت البعض يتساءل عن احتمالات نجاح أحزاب اليسار الراديكالي في دول أوروبية مأزومة أخرى كإيطاليا وإسبانيا، يثير فينا محاولة استنطاق النظير العربي لهذا اليسار اليوم. وبمراعاة البون الكبير الذي يفصل بين ضفتي المتوسط ،لا اختلاف أن النظير العربي لـ «سيريزا» وأمثاله، يبدأ بمطلب التخلص من المنطق الريعي الذي يحكم الاقتصادات العربية، وفي مقدمتها بلدان الخليج، القائمة أساسا على استخراج البترول وتصديره، وربطِ سياسات الحكومات بالأموال السائلة على حساب الاهتمام ببناء اقتصادات منتجة.

والملاحظ هنا أن اليسار اليوناني أصبح عنوانا للاحتجاج على سيطرة دولة الإنتاج القوي في أوروبا، أي ألمانيا،على سياسات أثينا، بعد عجز الأخيرة عن الوفاء بالتزاماتها تجاه الاتحاد، كما يمثل اعتراضا على سياسة التقشق وإرهاق المواطن اليوناني بالضرائب من أجل ذلك. فيما منطق الريع المُحتج عليه عندنا، يقوم على عكس ذلك تماماً. إذ إنه يقوم على تهميش الإنتاج وشراء الذمم والولاءات مباشرة، ويستبدل نظام الضرائب، أي تدفق المال من المواطن في اتجاه الدولة مقابل خدمات وتامينات اجتماعية وقدرة على المحاسبة، بتدفق أموال من الدولة في اتجاه المواطنين، أو بعضهم، مقابل التخلي عن حق الرقابة والمسائلة، وهذا جوهر مايسمى بـ “نظرية الدولة الريعية”.

والنظير العربي لليسار اليوناني يهدف الى إعادة الاعتبار لشعارات «الربيع» الأولى، فاذا عرفنا أن عبارة «كرامة» طغت بشكل كثيف على الحملة الانتخابية لحزب «سيريزا»، بعدما أثقلت إجراءات الترويكا المالية «الإصلاحية» كاهل أهل اليونان وأرهقتهم، لا بد أن نتذكر شعار «عيش، حرية، عدالة اجتماعية». ولا بد له أن يشكك في دائرة الثنائيات المفرغة المتحكمة بحالنا وواقعنا، والتي يتأرجح حدَّاها بين الحياة في كنف دولة أمنية لا تقيم اعتبارا لهذا الشعار، والانزلاق إلى أتون الفوضى والتطرّف والعنف ، وتبرير التحالف مع تيارات التخلّف، من أجل الحفاظ على هذاالربيع.

لقد فشل النظير العربي لليسار اليوناني في إثبات ذاته لأسباب ذاتية وبنيوية عميقة، يرتبط بعضها بتخلّف العقل العربي عن استيعاب الحداثة وموجباتها، وضعف البنى التحتية الاجتماعية والثقافية التي تساعد على نمو أفكار بديلة، وقوة الثورات المضادة التي تستقوي بأنظمة خارجية نافدة وأكثر من «دولةٍ عميقة» وجملة من المماليك النفطية.

والملاحظ أن اليسار اليوناني الذي تطور مع نمو توجه نقدي داخل الغرب تجاه السياسات النيوليبرالية الصارمة، كان قد تناغم رمزياً مع شعارات «الربيع العربي» الشعبي في بداياته، حتى وصلت تأثيرات الأخير إلى أسواق المال في «وول ستريت» على الجهة الأخرى للأطلسي. فيما «الربيع العربي» أصبح أثراً بعد عين، وأنصار «التغيير» الأقوياء في ميادينه اليوم، يسيرون بعكس مجرى التاريخ، وبإصرار مذهل .

في الحالة الأوروبية، يرسم اليسارمستقبله في عدد من الدول الأوروبية المعروفة بثنائيتها الحزبية التقليدية والتي ظلت متمنعة على الاختراق على مدى عقود. وفي حين، تصعد أحزاب يمين متطرف في مواجهته، تقاسمه الاحتجاج على الأزمات الحياتية إياها، وعلى تكاليف الانضمام للاتحاد الأوروبي نفسها، لكنها تتقوقع على ذاتها في سياق تعبيرها عن أزمة الهوية الحادة التي تعيشها القارة العجوز .وفي حين يبالغ اليمين المتطرف في تعبيراته الشعبوية عن برامجها وتصوراته، التي تأخذ أبعادا فاشية في كثير من الحالات، يتجه اليسار الراديكالي في اليونان وغيرها من دول الاتحاد الاوروبي، إلى طرح حلول بديلة تتجاوز منطق الشعبوية الذي يميل له الخطاب الثوري في العادة.

يغيب النظير العربي للحالة الأوروبية هذه تماماً. غياب لأي شبيه ل «سيريزا» في الأفق، في مقابل تغول متعدد لأشكال اليمين المتطرف التي تذهب بأزمة الهوية العربية ــ الإسلامية إلى أكثر تعبيراتها دموية وعنفا . يغيب هذا النظير إلى أجل غير مسمى. وفي انتظاربروز كتلة تاريخية مماثلة في بقعة أرضنا المضطربة، تبرز ضرورة ملحة إلى الإعتراف ببعض العوائق التي تناساها «ربيعنا» الموؤود، أو أريد له أن يتناساها، حتى ينحرف عن مساره الأول. من دون ذلك، سنظل في دوائرنا المُقفلة على حروبها التي تزينها ديماغوجيات الإعلام الكاذب.. إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.

‫تعليقات الزوار

3
  • Maghribi
    الإثنين 9 فبراير 2015 - 02:32

    قرأت العنوان و فرحت .. أخيرا أجد مقالا حول التحولات السياسية في أوروبا و كيف يمكننا أن نستفيد من تجارب هذه الدول في وطننا "المغرب"

    لكن عندما وجدت مصطلحات مثل "النظير العربي" او "الهوية العربية ــ الإسلامية" لاحظت أن اليسار "المغربي" لم يتخلص من حمولة إديولوجية القومية العربية التي بدأ بها المشوار حزب البعث السوري و نظيره العراقي و التي أبانت عن فشلها في عقر دارها أي دول جل سكانها يعتبرون عربا فما بالك في المغرب … لهذا إذا كنت تسكن بالرباط أو إحدى المدن الكبرى أنصحك بالسفر قليلا في رحلة لاكتشاف وطنك

    ما نحتاجه في المغرب هو يسار مغربي مبني على قيم مغربية و يمين مغربي مبني كذلك على قيم مغربية و ليس سياسة مستوردة لا من الشرق و لا من الغرب

  • منا رشدي
    الإثنين 9 فبراير 2015 - 19:57

    أوربا كانت تنفق بسخاء وحان زمن شد الحزام مع ظهور منافسين عالميين في الإقتصاد وهو ما كان يشكل قوة أوربا ! أين كان سيريزا حين كانت الحكومة اليونانية تغدق الأموال بسخاء وهي تصرف على المشاريع العمومية ! مشاريع قام على ضفافها إقتصاد موازي قائم على الريع ما أنتج طبقة من الأغنياء دون قيمة مظافة على إقتصاد البلاد ! أين كان اليسار والحكومات المتعاقبة تفرط في الإقتراض من البنك الأوربي وتقدم أرقاما مزورة عن حالة البلاد الإقتصادية ووضعيتها المالية !
    اليونانيون إستفاقوا على الواقع سنة 2008 يذكرهم أن زمن إحتيال الحكومات قد ولى وحان وقت مصارحة المواطن اليوناني بأزمته وأنه مدين بأكثر من 300 مليار دولار وبأن خدمة الدين وحده لا تقدر عليه اليونان لضعفها ! وقد أحسن " ماريو مونتي " حين قدم للرئيس اليوناني الجديد ربطة عنق ونصحه أمام الصحافة بتزيين عنقه بها ! فشيوعيته لن تنفع في شيء اللهم إن إستخدمها لشنق نفسه بعد أن يعي إستحالة تنفيذ ما وعد به اليونانيين !

  • Kant Khwanji
    الإثنين 9 فبراير 2015 - 23:24

    الحزب اليساري «سيريزا» نشأ في بيئة وطنية يونانية و بهوية وطنية يونانية ليخدم هذه البيئة و هذه الهوية!
    فهل استفاد المريد مما عنعنه، ويعمل على التفكير في وطنه الواقعي الملموس لا بوهم محسوس!؟
    أما السراب، أو التابوت العربي "اليسار العربي" فلا محل له من الاعراب و هو ممنوع من الصرف في أرض لغتها لا تعرف الاعراب!
    فلن تفلح ولو حاولت، انبات شجر الزيتون في قفار نجد والحجاز!
    يمكنك تعريب لسان البشر، لكن، لن تفلح ولو حاولت، تعريب وجدان البشر!
    تعبير "اليسار العربي" يلخص تخبط مريدي العقيدة البعثية العبثية، تلك العقيدة التي بنيت على جماجم شعوب أصلية أصيلة لها حضارة ضاربة في عمق التاريخ!
    إن الاستمناء الفكروي والتغني بمجد وهمي والتشبث بوطن ورقي وتعليق الإخفاق والاندحار على قوى شيطانية وهمية لن تسقي العطشان "العربي" شربة ماء!

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 2

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 4

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل