الفساد في المغرب

الفساد في المغرب
الخميس 12 فبراير 2015 - 09:37

..”منتصبَ القامةِ أمشي.. مرفوع الهامة أمشي”..

الفساد هو العدو الأول للتنمية والديموقراطية والحرية، وهو الحاجز الاساسي الذي يمنع الدول من التقدم والازدهار.

هذه حقيقة ملموسة، لا تضاهيها في بداهتها سوى حقيقة كون الفساد مع ذلك حاضرا في كل زمان ومكان، والفرق الوحيد بين الشعوب، يتمثل في نسبة الوعي التي تجعل الفساد أمرا واقعا يمكن التعايش معه هنا، وجريمة أخلاقية وجنائية مستقبحة هناك… وهنا مربط الفرس.

فالمانع الأول من استشراء الفساد في الدول المستنيرة، هو الخوف من السلطة المعنوية للرأي العام، ولذلك تتم التضحية في كثير من الأحيان بمسؤولين كبارا، لمجرد الشبهة أو بسبب أخطاء وتجاوزات بسيطة في حد ذاتها، لكنها تأخذ حجما أكبر بالنظر إلى موقع مقترفها..وسلطة الرأي العام التي تتحول إلى إجراء عملي وعقوبة مباشرة عبر صناديق الاقتراع، هي ما تجعل الفساد يبحث تلقائيا عن طرق أخرى، “قانونية” أحيانا، للتسلل دون أن يلحظه أحد..ولهذا نجحت الشعوب الواعية في التحكم في منسوب الفساد، الذي أصبح عليه تغيير لبوسه في كل مرة، ومحاولة تسويق نفسه بطريقة مختلفة، يتداخل فيها السياسي بالإعلامي بالاقتصادي بالاجتماعي والثقافي والرياضي…

وعلى كل هذا ليس موضوعنا، بل هو مجرد مدخل إلى ما يستحق التوقف عنده فعلا، في ارتباط مع الفساد بطعم “الخصوصية المغربية” المعلومة..إذا اعتبرنا أن لحظة الاستقلال تؤرخ لبداية فصل جديد من فصول تاريخ الدولة المغربية يقطع مع الممارسات التي قادت سابقا إلى “توقيع” عقد الحماية، فيمكن القول إننا كنا في الواقع أمام صفحة جديدة للفساد الذي جاء محمولا على أكتاف الاستقلال “الموهوم” أو “المزعوم”، بما أن كثيرا من وجهاء المرحلة لم يبدأوا من الصفر كما كان متوقعا ومفروضا في بلد خرج للتو من قبضة “احتلال غاشم” و”استعمار بغيض”، بل إن كثيرين استعدوا مبكرا لتلك اللحظة عبر توفير “خميرة” جعلتهم في المقدمة، وهي “خميرة” لم تكن لتثير تساؤلات لو أنها كانت متحصلة من “الحلال” ونتيجة عرق الجبين، لكن مصدرها في الغالب كان من باب “الغلول” أي “السرقة” باسم المقاومة، والمتاجرة في بطاقات الوطنية.. وحتى من لم تسعفهم ظروفهم لتوفير هذه “الخميرة” مبكرا، فقد أحسنوا القفز على الفرص التي جاء بها الاستقلال، فركبوا قطار “المغربة” واستفادوا من غنائم “الأراضي المسترجعة”.. وراكموا الامتيازات والاحتكارات.. التي تحولت بعضها حاليا إلى أمبراطوريات لا تغيب عنها “شمس” الصفقات والإعفاءات…

وعلى كل فتاريخ الفساد في تلك المرحلة “مشرق” ولا يحتاج إلى تسليط أضواء عليه..

بعد حوالي 60 سنة، خرج المغاربة إلى الشارع في ظروف تاريخية يعرفها الجميع، ورفعوا شعارات تطالب بـ”إسقاط الفساد”.. الذي أصبح دولة فوق الدولة… فكان مسلسل “20 فبراير” بما له وما عليه…ويمكن هنا أن نساير السيد فوزي الشعبي الذي اعتبر مؤخرا في حوار مع أحد المواقع الإلكترونية، تلك اللحظة شبيهة بلحظة تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال.. أي أن 20 فبراير 2011 مرادفة (مع التوسع المجازي طبعا) لـ 11 يناير1944..

وهي مقارنة تصبح صحيحة أكثر بالنظر إلى النهايات..

فكما قادت وثيقة 11 يناير إلى تغليب خيار “المقاومة السياسية” على المقاومة المسلحة، في زمن كانت فيه فرنسا نفسها تحت الاحتلال، وهي الازدواجية التي ستتحول مع مرور الوقت إلى ورم انفجر مع الشروع في “مفاوضات” إكس ليبان، واستمر في النزيف مع التصفية الجسدية لكثير من رموز الممانعة، وتواصل لاحقا ضمن ما يعرف في أدبيات المغرب “الجديد” بـ”سنوات الرصاص”..

-كما قادت وثيقة 11 يناير إلى ما قادت إليه – قاد حراك 20 فبراير إلى تغليب “الإصلاح من داخل المؤسسات” على “الهدم الكامل” للعشوائيات الدستورية والسياسية التي عرفها المغرب مند بداية الستينيات، وهي أيضا الازدواجية التي أفرغت دستور فاتح يوليوز 2011 من كثير من مضامينه، علما أنه أصلا جاء أدنى كثيرا من السقف الذي رفعه خطاب 9 مارس من نفس السنة..

ولهذا فإن الفساد الذي ولد مع “الاستقلال” وشب وترعرع في زمن “الرصاص” هو الذي أوجد المبررات لظهور حركة 20 فبراير التي كانت عبارة عن تجمع أشتات وفصائل ولدت خارج الرحم الحزبي التقليدي، وإن حاولت بعض الأيادي “المحترفة” تلقفها والركوب عليها..

اليوم وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على هذه اللحظة التاريخية المفصلية، من حقنا أن نتساءل : ماذا فعل الفساد؟ هل تراجع؟ هل غير تكتيكاته فقط؟ هل نجح الرأي العام في التحول إلى سلطة معنوية مؤثرة في مواجهته؟

الواقع يشهد بأن الفساد في الآونة الأخيرة لم يعد يحتاج للتخفي، بل أصبح يتجول في الشارع بوجه مكشوف ورأس مرفوع وقامة منتصبة وعلى لسانه مطلع قصيدة الشاعر سميح القاسم ..”منتصبَ القامةِ أمشي.. مرفوع الهامة أمشي”.. وربما مصحوبة بعزف منفرد على العود للفنان “التقدمي” مارسيل خليفة..لم يعد المفسدون والفاسدون يتحرجون من ممارسة فسادهم أمام الملإ، وعلى مرأى ومسمع من الجميع..ولم يعد الفساد مجرد “تكييف” قانوني لجريمة الزنى، بل صار عنوانا بارزا في مختلف المجالات…

ففي المجال الأخلاقي لم تعد العاهرة إنسانة منبوذة تعير هي وعائلتها وقبيلتها ومدينتها بـ”مهنتها” (الاقدم في التاريخ كما يقال)، بل صارت “العائلة” نفسها تعتمد على دخلها لتحقيق “تطلعاتها الطبقية” .. بدليل إصرار كثيرين على التعايش مع معادلة كون الكوافيرات المغربيات العاملات في الخليج أكثر من الخليجيات أنفسهن..

وصارت “القبيلة” التي كانت ترى في “الشرف” خطا أحمر تطير دونه رقاب، تعتبر قول الشاعر:

“لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى **حتى يراق على جوانبه الدم”

مجرد “تطرف” و”مصادرة للحريات الشخصية والفردية والجماعية”.. بل تعتبر المتنبي نفسه مجرد “داعشي”..من “الدواعش”..وصارت “المدينة/الدولة” ترى في “الدعارة” نشاطا تجاريا أو “خدماتيا” يساهم في تحريك العجلة الاقتصادية.. بل صار “الفساد” الأخلاقي علامة مميزة للبلد بأكمله في الداخل والخارج..وصارت الصحافة تعتبر “العاهرة” مجرد “عاملة جنس”.. بل هناك من يطالب اليوم بأن يتم “تضريب” نشاطها لتحقيق نوع من “العدالة الضريبية”، وإخضاع هذه “المهنة” لقانون الشغل صيانة لحقوق “الطبقة العاملة” فيها..

والأخطر من ذلك أن الدعارة لم تعد حكرا على بعض النساء ضحايا ظروف اجتماعية معينة، بل تحولت إلى “نشاط” مدر للدخل وفق تراتبية “طبقية” تميز بين أنواع الزبناء.. بناء على مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية.. وجنسياتهم أيضا..بل هناك آباء أصبحوا يستغلون “مواهب” أطفالهم (حتى الذكور) في هذا المجال للحصول على العملة الصعبة من منحرفين ضاقت بهم بلدانهم الأصلية فحلوا بالمغرب و”أعجبوا به” بما أن المال يفتح كل الأقفال فيه.. بما في ذلك “أقفال السراويل”..

وفي المجال السياسي صار الفساد ميزة ولم يعد عيبا، بل إن المفسدين في هذا المجال أصبحوا يتحدون الرأي العام صباح مساء، ومنهم من يحاضر في “الإصلاح” على الهواء مباشرة… وكأنه يعتبر مخاطبيه بلا ذاكرة..وفي المجال الاقتصادي، الفساد صار قرين النجاح، فلا يمكن دخول هذا العالم دون المرور من بوابة “شراء الرضى” الذي بدونه تتوالى العراقيل والمطبات..ويتم الحرمان من الصفقات..

وفي المجال الاجتماعي، يستحضر الجميع فضائح بعض الجمعيات الخيرية، والسرقات الموصوفة التي تعرضت لها مساعدات إنسانية .. وهي ممارسات أدى تراكمها إلى توقف كثير من الجهات المانحة عن الدفع، ومنها من فرضت مراقبة صارمة -تمس بالسيادة الوطنية- للتحقق من أن هباتها تصل إلى مستحقيها ولا تتحول إلى بضائع تباع في الأسواق، ولا إلى وقود لحملات دعائية لأشخاص أو جهات..

وفي المجال الإعلامي، وحتى إذا تجاوزنا قصص “ألف ليلة وليلة” التي تجري فصولها في التلفزة العمومية ويتم التذكير بها سنويا بمناسبة شهر رمضان، فإن الصحافة في هذا البلد تحولت في كثير من الأحيان إلى “شيطان اخرس” لا يسكت فقط عن الصدع بالحق، بل ينخرط في خلط الأوراق وفي تحويل الباطل إلى حق..

وفي المجال الثقافي، تحول الفساد إلى “ثقافة” قائمة الذات إلى درجة أن بعض المهرجانات “الثقافية” المدعومة بسخاء من القطاعين العام والخاص أصبحت تضاهي في “عائداتها” مردود رخص الريع التي يطالب الجميع بإلغائها..

وفي المجال الفني، يكفي أن نستحضر ما يروج هذه الأيام من فضائح ربط النجومية بغرف النوم، وانحدار مستوى الفن والفنانين إلى اسفل سافلين، لندرك أن الفساد لم يخطئ هذا الميدان المؤهل تلقائيا لاستشراء هذا الوباء فيه..

وفي المجال الرياضي بدوره، يكفي أن نتذكر كيف يتم انتخاب المكاتب المسيرة للنوادي والجامعات، والتراشق بقاموس الشارع، بين الفصائل المتناحرة وما يؤدي إليه ذلك من فضح متبادل لنفهم سر التقهقر الذي عرفته الرياضة في هذا البلد الذي أصبحت ملاعبه لا تصنع الحدث سوى بأعمال الشغب..

ويمكن أن نستمر في تتبع مختلف المجالات لنسجل نفس الخلاصات، فالفساد لم يكتف بـ”المرور من هنا”، بل حط رحاله واستقر ولم يعد يتحرك تحت جنح الظلام أو خلف ستار، بل صار “مواطنا” متمتعا بكافة “الحقوق” ويسجل حضوره في كافة المحافل، ويُنظر إليه في أسوإ الأحوال على أنه “ابن ضال”، لكنه يظل في النهاية “فردا من العائلة”..ولهذا لا ينخدع أحد بشعارات “محاربة الفساد”، لأن هناك حاضنة شعبية واجتماعية يختزلها السؤال التالي: كم عدد “المواطنين” الذين يفضلون مثلا، الوقوف في الصف وانتظار دورهم على دفع عشرة أو عشرين درهما لتخطي الرقاب؟

الجواب على هذا السؤال معروف لأن الفساد صار “عادة” تماما مثل شرب الشاي والقهوة.. ومن يدعي القدرة على القضاء على الفساد في هذه البلاد هو كمن يدعي القدرة على منع الناس من شرب الشاي والقهوة…في بلد يسمي أصلا الرشوة … “قهوة”..

https://www.facebook.com/my.bahtat

‫تعليقات الزوار

4
  • محمد أحمد
    الخميس 12 فبراير 2015 - 13:16

    الفساد كان وما زال كما كان أو أكثر مع الأسف الشديد
    الفقر والجهل وقود الفساد وهما البضاعة الرائجة
    المنتفعون من الوضع الحالي هم الطبقة السياسية وأرباب المال
    رحم الله الكواكبي حين قال:"كما أنه ليس من مصلحة الوصي أن يبلغ الأيتام رشدهم فكذلك ليس من مصلحة المستبد أن تتنور الرعية"
    دولة ورثت الفوارق الطبقية من المستعمر وعوض السعي ألى تقليصها بعد الاستقلال عمدت إلى الخوصصة وفي القطاعات التي تشكل الخطر على الحاضر والمستقبل:
    التعليم والصحة والسكن؛ وهكذا أجهزت على آمال الفئة العريضة من المجتمع
    لفائدة قلة قليلة من أصحاب الجاه والمال فازدادت الفوارق اتساعا وبسرعة مهولة.
    كيف يسلم المجتمع من الفساد وفواتير التعليم والسكن والتطبيب لا يطيقها إلا ذو الدخل الكبير؛ ومن إين سيأتي هذا الدخل للناس العاديين البسطاء
    وباء الزيادة في الأسعار من يستطيع إيقافه ففي كل فترة زيادات(الفترة تقاس بالأيام والأسابيع فقط) من سيوقفها؟ بالطبع لن يوقفها المستفيدون منها تبقى المهمة بيد المتضررين وحيث إنهم لايستطيعون المواجهة حاليا فأن ملجأهم هو التقشف الشديد أو الارتماء في أتون الفساد وهذا الأخير أيسر واقرب .

  • بوررو
    الخميس 12 فبراير 2015 - 13:34

    الواقع يشهد بأن الفساد في الآونة الأخيرة لم يعد يحتاج للتخفي، بل أصبح يتجول في الشارع بوجه مكشوف ورأس مرفوع وقامة منتصبة وعلى لسانه مطلع قصيدة الشاعر سميح القاسم .."منتصبَ القامةِ أمشي.. مرفوع الهامة أمشي".. وربما مصحوبة بعزف منفرد على العود للفنان "التقدمي" مارسيل خليفة..لم يعد المفسدون والفاسدون يتحرجون من ممارسة فسادهم أمام الملإ، وعلى مرأى ومسمع من الجميع..ولم يعد الفساد مجرد "تكييف" قانوني لجريمة الزنى، بل صار عنوانا بارزا في مختلف المجالات…

  • أم عبد الرحيم
    الخميس 12 فبراير 2015 - 13:56

    لقد تغلغل الفساد في النفوس واستشرت دماؤه الزرقاء في العروق، وأضحت عملية استئصاله مرادفة لعملية الإبادة للأفراد الذين نشأوا في بؤر الفساد وترعرعوا في كنفه، ولا يدركون أنهم رعاته وحماته. إن محاربة الفساد، هي محاربة للشعب الذي يحميه ويغذيه، بقصد وبغير قصد، قبل أن يكون محاربة لعفاريت خيالية….

  • الحسن لشهاب
    الخميس 12 فبراير 2015 - 19:07

    في الواقع كل الفئات المجتمعية لها وجهين ،وجه الخير و وجه الشر،الفقير مثلا قد يكون فقره و كفاحه سببا في نجاحه محافظاعلى اخلاقه ،وقد تكون علاقاته المشبوهة وطموحه السابق لاوانه او الزائد عن حده ،سببا في صعوده دون اخلاف ، وكدلك ابناء الطبقة الاجتماعية المتوسطة او الميسورة ،منهم من يرسم طريق الغنى المادي و المعنوي في ان واحد ومنهم من يهمه فقط الغنى المادي و منهم من يرسم طريقا من اجل الدخول و الصعود في العالم السياسي و السلطوي ، و لان الانسان خلق طموحا بطبعه ، كما خلق غير معصوم من الخطئ ،فان يبقى دائما معرضا للخطئ ،ولكن لو كانت منظومتنا التعليمية و الثقافية العربية ترسم للاجال افقا سياسيا و اجتماعيا ،يعرفه من خلال ارتفاع سقف حريته و يضبط من خلالها سلوكاته و تصرفاته مع نفسه ومع افراد اسرته و مجتمعه ،لما كان المواطن العربي على حريته هده التي لا تعرف سقفا اخلاقيا و لا ثقافيا معينا ،خصوصا وان طبيعة النظام الرأسمالي السائد يعطي حرية مطلقة لا تعرف سقفا سياسيا و لا اقتصاديا ، ولا تسأل من اين لك هدا؟بل ترحب باصحاب رؤوس الاموال مهما كان مصدرها ،اكثر ما ترحب باصحاب الاخلاق الرفيعة.

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 4

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 1

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 2

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة