قرار رقم 14-950 .. نحو التأسيس لمفهوم البت النهائي

قرار رقم 14-950  .. نحو التأسيس لمفهوم البت النهائي
الأحد 15 فبراير 2015 - 11:29

قرار المجلس الدستوري حول القانون التنظيمي لقانون المالية.. نحو التأسيس لمفهوم البت النهائي

أثار قرار المجلس الدستوري رقم 14-950 الصادر بتاريخ 23 دجنبر 2014 حول القانون التنظيمي رقم 130.13 لقانون المالية، نقاشا سياسيا- قانونيا لم ينحبس صداه إلى حدود ساعة كتابة هذه الأسطر، بالنظر لما قرره من قواعد تفسيرية تهم، من جملتها، مسطرة نظام التداول المكوكي بين المجلسين كما أقره وابتغاه روح الدستور.

ويعتبر هذا التجاذب الفكري بين مضمون القرار وبعض الفاعلين السياسيين طبيعيا، لكون التجربة البرلمانية الحالية تتسم بطابعها التأسيسي، لارتباطها الزمني اللاحق مباشرة بدستور 2011، ومن ثم تتحمل فيها جميع المؤسسات الفاعلة في العمل البرلماني، فعليا أو توجيهيا، مسؤولية إنزالها الدستوري والديمقراطي، لوضع مجلسي البرلمان في مسارهما السليم، ومن المتعين لزاما الدأب على تقييم وتحليل النوازل العملية التفسيرية باستخدام العقل الدستوري، وتجنب الارتكان إلى منطق الحسابات السياسية ما أمكن، حتى يتأتى ترسيخ قواعد عمل برلمانية، مكتوبة وعرفية، متناغمة فلسفة مع المبادئ والأهداف الدستورية، ومتسمة عمليا بالفعالية على جميع الأصعدة التشريعية والرقابية والدبلوماسية.

وهذه النازلة الدستورية تتلخص حيثياتها في قيام المجلس الدستوري، بمقتضى قراره الوارد ذكره أعلاه، بالتصريح بعدم دستورية القانون التنظيمي لقانون المالية شكلا ثم مضمونا في بعض مواده، لكن ما استأثر بالاهتمام هو تصديه لمسألة مخالفة مسطرة إقراره التشريعية للدستور، لما صادق مجلس النواب على تعديل طرحته الحكومة لأول مرة على أنظاره في إطار القراءة الثانية، دونما أن يعرض على مجلس المستشارين، قبل إحالته الإجبارية-القبلية إلى المجلس الدستوري، فارتفعت على إثر ذلك بعض الأصوات المستنكرة لمنطوق هذا القرار، وانتصبت بعض الأقلام للدفاع عن الفعل والتأويل التشريعي المشترك للحكومة ومجلس النواب عن طريق الاحتجاج المطلق بمفهوم التصويت النهائي.

وفي مستهل المناقشة العلمية للدفوعات المثارة، يسوغ التأكيد على أن هذا القرار يعتبر إطارا تأسيسيا للنموذج الدستوري لنظام التداول المكوكي، أمام ما بدأت تطفو على سطح العملية التشريعية لمجلس النواب من ممارسات تحاول الانتقاص من السلطة التشريعية الممنوحة لمجلس المستشارين بمقتضى الدستور، ولاسيما الفصول 60 و70 و84 منه، انطلاقا من الإشعار المستمر لورقة التصويت النهائي المنصوص عليه في الفصل 84 من الدستور، مما يقتضي معه تحديد المعنى الاصطلاحي لهذا المفهوم، لتبيان مجال تطبيقه العملي، دونما أن يتمخض عنه منح أي امتياز غير مخول دستوريا، أو انتزاع أي حق مكفول بنص الدستور وروحه.

التصويت النهائي…ضرورة تحديد الدلالة الاصطلاحية

تعتبر مسطرة التداول التشريعي بين المجلسين من أهم المؤسسات القانونية التي خضعت للتعديل الدستوري، إذ بعدما كانت سلطة المجلسين في هذا الصدد متوازنة، في ظل التجربة الدستورية الماضية، وعند استمرار الخلاف التشريعي بين المجلسين يلجأ إلى تشكيل اللجنة الثنائية المختلطة، وعند فشلها في إقرار نصوص موحدة، آنذاك ترجح كفة مجلس النواب، فإنه قد أصبحت سلطة هذا الأخير مرجحة، في ظل الدستور الحالي، عند عدم التوصل إلى المصادقة على نص موحد بصيغة الفصل 84.

وبالرجوع إلى الفصل 84 من الدستور، يستشف أن مفهوم التصويت النهائي جاء عاما وفضفاضا، بيد أنه عند تشريح المفردات الاصطلاحية، والعبارات الدستورية المستعملة، وتراتبيتها في السياق النصي، يتضح أن المشرع الدستوري إن كان قد أعطى لمجلس النواب سلطة التصويت النهائي بعد بت مجلس المستشارين في النص القانوني بتأكيده على أنه: “…يعود لمجلس النواب التصويت النهائي على النص الذي تم البت فيه…”، فإن دلالة النص الواجب البت فيه، كما ورد في هذا الفصل، تنسحب، على السواء، على مواده الأصلية، وعلى التعديلات المدخلة سواء في إطار القراءة الأولى أو المتتالية، التي يجب أن تخضع لمبدأ سبقية تصريح مجلس مستشارين برأيه التشريعي في مضمونها، لأن التصويت النهائي يفترض دلالة نشوء خلاف تشريعي يحول دون التوصل إلى رأي موحد بخصوص المواد في صيغتها المحالة على مجلس المستشارين، وبالتالي فلا يمكن استعمال هذه الآلية الامتيازية عند انتفاء القراءة التشريعية لمجلس المستشارين التي تفيد وجود هذا الخلاف التشريعي من عدمه، فيما يتعلق بالتعديل الوارد على المادة الحاصل بشأنها اتفاق المجلسين، مما يتعين معه فتح مسطرة التداول التشريعي من جديد، وإلا بالمقابل، أضحى مجلس المستشارين مجرد مؤسسة صورية تشريعيا، فتعمد الحكومة أو مجلس النواب عندئذ على تمرير التعديلات في القراءة الثانية دون أي يطلع عليها مجلس المستشارين، وهذا فيه مخالفة صريحة للمقصد الدستوري لمفهوم الثنائية البرلمانية، وفيه مساس مباشر بالسلطة التشريعية الكاملة الممنوحة لمجلس المستشارين كما أكد على ذلك الدستور، ولاسيما في الفصل 70 منه، بتنصيصه على أنه: “يمارس البرلمان السلطة التشريعية. يصوت البرلمان على القوانين، ويراقب عمل الحكومة، ويقيم السياسات العمومية…”.

وعلى أساس هذه الفلسفة القائمة على التحليل الدلالي الدستوري للفصل 84 من الدستور، أخضع مجلس المستشارين مفهوم التداول المكوكي بين المجلسين والتصويت النهائي، لمبدأ التأويل الدستوري عند وضعه لنظامه الداخلي لسنة 2013، لما نص في مادته 84 على أن مجلس المستشارين يحتفظ بحق القراءة الثانية فيما يتعلق بمشاريع القوانين المودعة بالأسبقية لديه- طبعا بعد تعديلها من طرف مجلس النواب-، فما كان على المجلس الدستوري إلا النطق بدستوريتها دونما تحفظ أو تعليق، لمطابقتها للدستور، فأعطى مجلس المستشارين لنفسه حقا استقاه من الفهم الدستوري السليم لمسطرة التداول التشريعي كما أقر فلسفتها المشرع الدستوري.

التصويت النهائي…حدود التطبيق العملي

تأسيسا على الطروحات الدستورية المذكورة آنفا، يتأتى القول بأن التصويت النهائي لا يعطي لمجلس النواب الحق في إحالة النصوص إلى الحكومة من أجل إخضاعها لباقي المسطرة التشريعية، بمجرد أن يبت فيها مجلس المستشارين في إطار القراءة الأولى، وذلك على الوجه المطلق لا تقييد فيه يراعي الفلسفة الدستورية، بل على العكس لا يمكن لمجلس النواب الاحتجاج بالتصويت النهائي في الأحوال التالية:

– الحالة الأولى: عند تعديل مجلس النواب لمشاريع القوانين العادية أو التنظيمية المودعة لدى مجلس المستشارين بالأسبقية، أو مقترحات القوانين الخاصة بأعضاء هذا الأخير، فعليه في هذه الحالة إحالة النص إلى مجلس المستشارين في إطار القراءة الثانية.

– الحالة الثانية: عند تعديل مجلس النواب لمادة من مواد مشاريع القوانين العادية أو التنظيمية أو مقترحات القوانين، بعد أن تم الاتفاق بشأنها على صيغة موحدة (إخلال بالاتفاق المشترك).

وموقف مجلس المستشارين من التعديلات المدخلة في هذين الحالتين، هو الذي سيحدد المسار التشريعي للنص القانوني، فإذا انتفى الخلاف التشريعي بين المجلسين بمصادقة أعضائه على النص كما ورد من مجلس النواب، فلا سبيل لإعادة إحالته إلى مجلس النواب، بل إن رئاسة المجلس تعمل على إحالته إلى الحكومة من أجل استكمال المسطرة التشريعية بصدده، أما إذا وقع الخلاف التشريعي الناجم عن عدم مصادقة مجلس المستشارين على نص المادة كما وردت من مجلس النواب، فإنه يتعين إحالة النص في إطار التداول المكوكي إلى مجلس النواب، الذي له في هذه المرحلة صلاحية استعمال التصويت النهائي بخصوص المواد الخلافية.

وفي المحصلة، يكون قرار المجلس الدستوري هذا، قد انتصر لمفهوم التنزيل السليم للنص الدستوري البرلماني، بناء على التأويل الديمقراطي القويم للفصل 84 من الدستور، وأعاد التوازن بين المجلسين في إطار الأدوار التشريعية المكفولة دستوريا لمجلس المستشارين، وذلك بتقييده إعمال التصويت النهائي على المواد النصية الخلافية، في خضم مرحلة تأسيسية يتعين معها على جميع الفعاليات بمجلسي البرلمان تحليل الممارسة البرلمانية باستخدام العقل الدستوري، قصد الإسهام الرصين في إرساء قواعد برلمانية نموذجية تغني النموذج البرلماني المغربي في آفاقه الدستورية.

*باحث أكاديمي

‫تعليقات الزوار

4
  • سعيد
    الأحد 15 فبراير 2015 - 19:21

    مقال مهم يغني الساحة الدستورية الوطنية

  • مصطفى
    الإثنين 16 فبراير 2015 - 00:00

    على مؤسسة البرلمان أن تستمر في التنزيل السليم للوثيقة الدستورية المغربية لسنة 2011

  • دستوراني
    الإثنين 16 فبراير 2015 - 12:28

    يوما عن يوم تتأكد الرؤية الملكية السامية في ترسيخ الثنائية البرلمانية، تحقيقا للتوازنات، وتأكيدا لللدور الترابي والاجتماعي والاقتصادي لمجلس المستشارين في ظل المرحلة الانتقالية التأسيسية.

  • ثريا
    الإثنين 16 فبراير 2015 - 16:20

    "يتعين معها على جميع الفعاليات بمجلسي البرلمان تحليل الممارسة البرلمانية باستخدام العقل الدستوري"، هذا هو المدخل لتحليل وقراءة الوثيقة الدستورية 2011 بعيدا عن امتطاء جواد السياسة ايتغاء تحقيق المكاسب على حساب النص الدستوري المؤسس

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش