التعليم والتربية والتطوع

التعليم والتربية والتطوع
السبت 18 أبريل 2015 - 00:46

هناك العديد من الناس، و أنا واحد منهم – و لعلك تقاسمني الرأي الذي سأدلي به- تشمئز أنفسهم و تقشعر أبدانهم حينما يتم الحديث عن إصلاح التعليم بناء على الاختيار اللغوي… اللغة دون المحتوى و الأهداف و منظومة القيم. لو فكرت في هذا الأمر بأسلوب تحليلي و بشيء من العمق، لأدركت أن القشعريرة و الاشمئزاز و ربما الإحباط أيضا، كل هذه أحاسيس تحرك أي قارئ واع مثلك، خصوصا عندما يتعلق الأمر بإصلاح أهم قطاع في البلاد، بنوع من السطحية و الارتجال.

لماذا ؟ لأن اللغة وسيلة و ليست غاية، و المهم هو التفكير في مجموعة من الإجراءات أكثر فائدة و مردودية : تمكين أقصى عدد ممكن من الأساتذة من التكوين المستمر، التوظيف المتزايد كما و كيفا لتكنولوجيات الإعلام و الاتصال في العملية التدريسية، التركيز على تعليم مهارات الحياة و تنمية المواهب لدى التلاميذ و الطلبة عوض تحويل عقولهم إلى مخازن يتم تحشوها و تكديسها بالمعلومات، تشجيع المتعلمين و الأساتذة على حد السواء على الابتكار، و لا شك أنه على رأس جميع هذه “التوصيات” يتموقع تثمين ثقافة العمل و الإنتاج.

التعليم ما هو إلا وسيلة تمكن الأفراد، في تصورنا المثالي، من تنمية الذات و القدرات و النجاح في الحياة. اللغة أيضا وسيلة. لماذا هذا التمسك الأعمى بالفرنسية كلغة رئيسية في المنظومة التربوية، و اعتبار العربية لغة الجلباب و العمامة و المساجد، ناهيك عن احتقار الأمازيغية بتصويرها في وسائل الإعلام على أنها لغة الرقص و الفلكلور و الأهازيج ؟ لا أعرف بلدا متقدما، في الوقت الحالي،لا يراهن في تعليمه على اللغة الأم، إلى جانب الإنجليزية طبعا كلغة ثانية. كيف نريد أن ندفع بتعليمنا إلى الأمام و نعولمه و نرفع من شأنه عندما تكون الأولوية القصوى للغة بدأ يهجرها، في مختبرات البحث العلمي، أبناؤها الأصليون، متوجهين أكثر فأكثر من لسان موليير إلى لسان شكسبير ؟

من منا لا يحب المغرب ؟ من منا لا يحلم أن يصبح مشرق الأنوار دولة متقدمة بكل المقاييس ؟ كلنا نحب هذا الوطن و دماؤنا و أرواحنا فداء له. ما هي إذا لغات التعليم الأكثر نفعا و ضمانا لبناء المستقبل ؟ أنت قارئ ذكي و لبيب. لن أجيب عن هذا السؤال. أنت تعرف الإجابة. أزمة التعليم في مغربنا ليست قدرا مستحيل التغيير، بل هي تراكم لمسلسل من الأخطاء، إنها تحصيل حاصل. التعليم في نظري مثل العلم الوطني؛ إنه يعكس و يجسد كل فضائل و مميزات هذا الوطن. عندما يرى الكثير منا العلم خفاقا حرا تدمع العيون و تنبض القلوب لهذا الرمز الخالد. لدي حلم أن تسكب دموع العرفان و تخفق القلوب في هيبة و جلال عندما نرجع بالذاكرة إلى الوراء و نتمثل الأستاذ الحقيقي، و معه بل مثله التعليم الحقيقي؛ ليس تعليم الترهيب و الاستظهار و الاستحقاق المبني فقط على العلامات، و لكن تعليم التأسيس و التشييد و البناء. بناء الإنسان، المواطن، الحر، المنتج، و المتطوع. التعليم القوي يرتبط بتربية الأجيال على التطوع. كيف ذلك ؟

لو أني قلت لك : ” لديك الآن أرقى شهادة جامعية فابحث لك عن عمل ! “، و كان جوابك: “الفرص قليلة، هناك أزمة شغل خانقة، لا أظن المسألة بهذه السهولة، ليس الأمر كما تتصور”، فإن جوابك يدل، مع كامل احترامي لك، عن نقص كبير لديك، ربما بسبب التعليم الذي تلقيته و الذي ينتج لنا كائنات سلبية خاضعة… نقص هائل و ربما غياب لحس التطوع. ما المقصود ؟ ما علاقة ذلك ببحث حامل شهادة جامعية عن العمل ؟ الجواب بسيط، ربما أبسط مما تتخيل.

التطوع يعني هنا جملة من الحركات و الأعمال الجادة : إرسال العشرات و ربما المئات من نسخ السيرة الذاتية، عدم الاكتفاء بذلك و طرق أبواب المشغلين بشكل مباشر، سد ثغرات التكوين الجامعي النظري بما أمكن من دورات اللغات و الإعلاميات و الكمبيوتر، التدرب على فن الحديث أمام الجمهور، التمرس على فن الإقناع و التفاوض، تملك أهم أدوات و تقنيات التواصل اللفظي و غير اللفظي دون نسيان مهارات التواصل الفعال، التغلب على الخجل و التلعثم و التردد بالنسبة لمن يعاني من ذلك و اكتساب مزيد من الثقة بالنفس. في هذه الأثناء، أنت متوتر، و أنا أفهم أن حصولك على عمل أمر ممكن رغم صعوبته و طول النفس الذي من المطلوب أن تتحلى به. ربما ينقلب توترك إلى صداع في الرأس و قلة في النوم و أوجاع في المعدة، كل هذه أمور مفهومة، و حصلت لي شخصيا. لكن، دعني أسألك : هل تتوقف الحياة عندما نبحث عن العمل ؟

أرجوك، حتى في أصعب الأوقات، حتى و أنت منهمك من قمة الرأس إلى أخمص القدمين في المشاريع الأكثر أهمية، لا تهمل طقوس التطوع، و اجعل منها بالنسبة لك منهاجا أصيلا و فلسفة حياة : سخر كل الجهود لإيجاد العمل، و لا تنس توازيا مع ذلك أشياء بسيطة و لكنها أساسية : واصل مساعدة الفقراء و المحتاجين، لا تنقطع عن عملك الجمعوي و لو كان متواضعا و غير مدر لأي ربح مادي، لا تهمل ترتيب فراشك عند الاستيقاظ من النوم،لا تنس المساعدة في أشغال البيت من كنس و مسح و طبخ و تسوق إن كنت تسكن مع الأهل، فكر في تحمل مسؤولية سانديك العمارة و لو لشهور قليلة، كن صديقا للبيئة و تعهد أن تسقي كل يوم ما غرسته من نبات في شرفة البيت أو في الحديقة، تطوع بتجميع أفراد العائلة الذين ما عادوا يتلاقون إلا نادرا بحكم الحياة الطاحنة و الجري المشروع خلف المصالح و ضيق الوقت.

تعلم كل ذلك، و رب نفسك عليه، و تسلح بالتطوع، بل كن التطوع نفسه.

* أستاذ جامعي و كاتب
[email protected]

‫تعليقات الزوار

3
  • Salah-Salah
    السبت 18 أبريل 2015 - 09:45

    يبدأ إصلاح التعليم بتقليص عدد المتعلمين والمتعلمات إلى 20 أو24 على الأكثر داخل حجرات الدراسة التي يجب أن تكون بدورها معدة بشكل أفضل لممارسة التطوع والتربية والتعليم …اللغة العربية كلغة أولى ثم لغة شكسبير- مادامت قد استولت على الساحة العالمية – وبعدها لغة موليير- ولو أن هذه الأخيرة أسهل وأجمل من سابقتها – . هذا بعد وجود من يرغب ومن ترغب حقا في تعليم ناجح وتربية أفضل وتطوع فعال – كبارا وصغارا – كبيرات وصغيرات – !

  • منا رشدي
    السبت 18 أبريل 2015 - 10:02

    في الوقت الذي نتحدث فيه عن إصلاح مناهج التربية والتعليم ؛ إنتقلت الدول السكاندناڤية إلى السرعة القصوى وأخذت في تعليم " أطفال " التعليم الأولي البرمجة على الكمبيوتر ! حدث هذا قبل ثلاث سنوات ! طفل يدرس البرمجة على الكمبيوتر !
    قبل يومين إشترت نوكيا الفينلاندية ( عملاق ) التكنولوجيا الفرنسية ٱلكاتيل !
    إتساع الهوة الرقمية بين شمال أوربا وجنوبها يجب أن يساءل الساهرين على إصلاح التعليم ! ويستحضروا أن 20% من الفرنسيين لم يستعملوا خدمة الأنترنيت ولا يعلمون عنه شيئا ! في حين أن النرويج على سبيل الذكر عممته كليا رغم قساوة الطبيعة وتشتت الساكنة وتعدد اللغات الرسمية لهذا البلد !!!
    من حسنات المواد العلمية وبخاصة الرياضيات أنها لا تعترف بالميز بين بورجوازي وأجير بين إبن الوالي والشاوش بين الأبيض والأسود ! بين الأمازيغي والياباني ! تتعامل مع الكل بالتساوي ! لا توجد قاعدة علمية خاصة بالصيني وأخرى خاصة بالأمريكي وثالثة بالكيني أو المغربي !
    التعليم في المغرب أفسدته الأيديولوجيا ! ولكي نتحرر منها وجب الإقتداء بسويسرا والتفكير في نشيد وطني جديد !!!! فمشرق الأنوار حمالة أوجه !!!!

  • احمدي235
    السبت 18 أبريل 2015 - 10:23

    [ تمكين الأساتذة من التكوين المستمر، توظيف تكنولوجيات الإعلام و الاتصال في التدريس، التركيز على تعليم مهارات الحياة و تنمية المواهب لدى التلاميذ و الطلبة عوض تحويل عقولهم إلى مخازن يتم تحشوها و تكديسها بالمعلومات، تشجيع المتعلمين و الأساتذة على حد السواء على الابتكار، و تثمين ثقافة العمل و الإنتاج ]
    الاعتماد على المهارات عوض تكديس المعلومات / تدريب التلميد على مهارات التواصل والبحث والتعلم الذاتي / عوض أن نطلب منه استظهار المعلومات بشكل آلي (بضاعتنا ردت الينا)
    اشراك التلميذ في بناء الدرس عوض التلقين والخطاب أحادي الاتجاه من الاستاذ نحو التلميذ
    لقد هرمنا في سماع هذا الكلام وسئمنهاه ولم نر شيئا يتحقق في ارض الواقع
    المدرسة العمومية لا توفر لك حتى آلة النسخ لاستنساخ التمارين
    حينما يتجذر التخلف في مجتمع ما فالتخلص منه صعب المنال
    اصحاب المجالس العليا للتعليم لا يعلمون أننا في كل مرة نقول ان تعليمنا وصل الى الحضيض ثم بعد حين نكتف حضيضا احط من حضيض
    لم نعد ندرس تلاميذ بل مشرملين حتى يثبت العكس / والمسؤولون غارقون في لغة الخشب غرقا لا يوازيه سوى غرقنا في التخلف.
    استاذ + 30 سنة من الأقدمية

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32 7

احتجاج أرباب محلات لافاج

صوت وصورة
"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 15:07

"كتاب الضبط" يحتجون بالبيضاء

صوت وصورة
“أش كاين” تغني للأولمبيين
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 13:52 1

“أش كاين” تغني للأولمبيين