فيلم “كاريان بوليود” الرومانسية في مزبلة
يقترب الحبيب من حبيبته. تركز الكاميرا على الوجهين الشابين. توشك الشفاه على سقي بعضها بالريق. ينتظر الجمهور الحدث فيسيطر الصمت على القاعة. نسمع خوار بقرة. يتغير الكادر فنرى الحبيبين وسط فضاء صادم. كان ذلك لقطة من فيلم “كاريان بوليود” للمخرج المغربي ياسين فنان. بوليود هي هوليود الهند، فما هو الكاريان؟ وما العلاقة بينهما؟
مزابل وحمير وأكواخ وأزقة محفّرة، أغنام قذرة تتغذى عما تجده، مجاري ماء صرف صحي تبحث عن مسالك أمام الأبواب وأطفال حفاة يجرون وشبان غاضبون في الزوايا ونساء يمضين مسرعات ومشهد يسبب الغمة… هذا هو الكاريان تقريبا. لا تقبض الكلمات المشهد بالضبط ولا تستوفي الألم الذي يسببه.
يصور فيلم “كاريان بوليود” الرومانسية في مزبلة. إنه أثر قانون المكان على البشر. ما هي الرومانسية؟ هي التحمل البطولي لألم من أجل الحبيبة حتى على حساب النفس. للوصول للحبيبة يستخدم بطل الفيلم السينما كصنارة. تسهل السينما تفاهم العشاق. السينما قنطرة حب.
يقول البطل لحبيبته أنه يريد تصوير فيلم ويحتاج ممثلة جميلة كبطلة. تقبل بسعادة ويقوم صديقه بدور المنتج يتحدث عن أماكن التصوير وعن التكاليف وعن تجهيزات الإضاءة. أثناء عرض الفيلم كان جمهور الطابق السفلي يضحك بشدة نظرا لتطابقات وتشابهات مع المنتج النصاب والطارئ على الميدان. وهذه سخرية مبطّنة من استسهال الكثيرين اقتحام مجال السينما في المغرب وهم يفتقرون لثقافة سينمائية. الطابق السفلي فيه النخبة. أما الجمهور العادي في الطابق العلوي فكان يضحك من العنف اللفظي في الحوارات. حوارات تكشف حلم شباب مغرب اليوم. يحلمون بحبيبة وغرفة. الحبيبة موجودة والغرفة معدومة. يحلمون بخلوة وطاولة مملوءة. هذا حلم بسيط لا حلم طبقي. الحلم سلاح العاجزين. الحلم في قاع البؤس. الرومانسية في مزبلة.
هل يعرف الفقراء الرومانسية؟
ربما يعرفونها أكثر من البورجوازية التي تعيش الرومانسية فعلا ولا تحلم بها. ومما زاد من مصداقية الفيلم اعتماد المخرج على شبان الحي الذي صور فيه. حين حضر هؤلاء مهرجان طنجة وساروا على البساط الأحمر تصرفوا بفخر. تناسوا للحظة أنهم أبناء الكاريان.
ستمد الفيلم قوته من نظرة المخرج لأبناء الكاريان بشكل محترم. لم يعاملهم باعتبارهم “بوزبال” ولم يصورهم من فوق. لم يصور بوزبال في مزبلة. بل يصور الإنسان مضطرا للعيش في مزبلة. ويعتبر وصف شخص ما بأنه “ابن الكاريان” شتيمة لما تحمله صورة ساكن “الكاريان” من سلبيات اقلها استخدام معجم “ساقط”. حين شاهد الشبان أنفسهم على الشاشة وسمعوا معجمهم لم يشعروا بالعار. لكن أثناء مناقشة الفيلم لامهم ملاحظ طُهراني على معجمهم. كان ذلك حكم الجاهل بقوانين المكان. وقد رد عليه الشبان بأنهم أثناء التصوير جربوا حوارات بلغة نظيفة فشعروا بالتفاهة واللاواقعية. لذلك استخدموا معجمهم الحقيقي. مهمة السينما هي أن تعري الواقع لا أن تجمّله بالماكياج. لذا وفي كل مرة يغرق المتفرجون في الرومانسية يذكرهم صوت البقرة بالواقع. هذا الواقع المشبع بالمفارقات التي تشعّب أبعاد الفيلم. فهناك سخرية من وضع السينمائي في المغرب. وهناك حكاية علاقة الشبان بالسينما الهندية، وهناك سوسيولوجيا التلقي التي تتناول طريقة تفاعل الجمهور مع الفيلم.
يغضب المخرجون بسبب الاقتصار على التناول السوسيولوجي لأفلامهم. عادة تهتم السوسيولوجيا بالمحتوى فقط ونادرا ما تستنطق الأشكال الفنية. يقدم فيلم “كاريان بوليود” قصة متماسكة تحترم قوانين التلقي، بخلاف أفلام لكتاب سيناريو طارئين على السرد يبدؤون بالفلاش باك. يرقصون قبل تعلم المشي فيسقطون في حفرة. وهذا درس لكل سيناريست: تعلم حكي قصة قبل الانتقال للتفلسف. لقد تعلم بيكاسو الرسم وبعدها انتقل للتكعيبية. القصة المتماسكة مهمة لأن المغاربة يشتكون أنهم لا يفهمون قصص أفلام مخرجيهم لأنها غير مبنية وليس لها نهاية. يردد المتفرجون بسخرية”نهاية لا علاقة”.
لقد تفاعل المتفرجون مع فيلم “كاريان بوليود” – وهو ليس تحفة فنية على كل حال، لكنه متن سوسيولوجي ملائم – لأنه يستثمر التأثير العميق للسينما الهندية في وجدان المغاربة. فالفيلم الهندي يعرض حلما قابلا للتحقق، وهو حلم الوصول للحبيبة. لا مكان للشك في البطل في الفيلم الهندي. لذا رسخت السينما الهندية مكانتها خاصة في الأحياء الشعبية التي كان متفرجوها يبكون من فرط التأثر. ويرجع تأثير السينما الهندية في وجدان المتفرج المغربي للأسباب التالية:
أولا قصة مفهومة من تلقاء ذاتها، بلا تعقيدات. قصة شعبية بالكثير من العواطف الجياشة. وهذا نتيجة تراكم تراث سردي شفوي عريق ينبع من كليلة ودمنة. والفيلم، أي فيلم هو سرد أساسا.
ثانيا قصة فيها غرام وانتقام. غرام في الحقول وليس في السرير. وهذا ملائم للحياء الشعبي الإسلامي.
ثالثا إخراج وظيفي. فالمخرج يهتم بسرد القصة وفهمها أكثر مما يبحث عن التجريب وابتكار كادرات جديدة.
رابعا التصوير في فضاءات تسمح للمتفرج بالقيام بالسفر في الهند من خلال أفلامها ويتصور المتفرج البسيط أن الهند كلها حدائق.
خامسا وضوح شديد في رسم الشخصيات الخيّرة والشريرة. يعرف المتفرج الظالم والمظلوم. وهذا يروي تعطش المشاهدين للعدالة.
سادسا استخدام أغاني ورقصات مصممة لتخدم القصة وتبين اتصال البطل بالبطلة بعفة.
سابعا الاعتماد على ممثلين وسيمين يمتعون العين ويتماهى معهم المتفرج بسرعة حتى أن ابن الكاريان يتوهم نفسه الممثل أميتا باشان أو شاه روخان.
ثامنا نظرة رومانسية للعالم. نظرة واثقة لا تخترقها أي شكوك. فالخير موجود في العالم وبين البشر.
تاسعا تحقق الحلم. فالنهايات السعيدة مضمونة. وهذا تحقيق لحلم المتفرج الذي عجز عن الوصول إليه في الواقع. عاشرا احترام شديد لثقافات الشعوب وعدم صدم الوجدان الجمعي للعامة.
لقد أسعدت هذه الوصفة الفنية ملايين المغاربة لذا استعادها فيلم “كاريان بوليود”، مع إضافة خوار البقرة غير المقدسة والذي يلعب دور المنبه في تذكير الحالمين بحقيقة المكان الذي يعيشون فيه. إنهم في الكاريان الذي تستره السلطة بسور لكي لا يظهر العار. وقد ارتبط الكاريان بالبؤس بمدينة الدار البيضاء، حيث للكلمة ثقل تراجيدي. حتى أن للكاريان حضور كبير الأدب المغربي مثل كما في مسرحية عبد الكريم برشيد “ابن الرومي في مدن الصفيح” الصادرة في 1975، ورواية أحمد المديني “ممر الصفصاف” الصادرة في 2014.
لم يكن بالإمكان تصوير هذا الفيلم في المغرب في السنوات الماضية لأنه قد يقدم صورة غير مشرفة عن المغرب وهو أجمل بلد في العالم حسب التلفزيون الحكومي. أما وقد صور الفيلم فهو ينتهي بجرافات تهدم الحي الصفيحي بحراسة البوليس. ستنقل الدولة السكان المحظوظين لعمارات جديدة. اختلطت مشاعرهم بين عالم يهدم وعالم يبنى. كان الحنين أقوى.
في الوقع بنيت الاف العمارات ومع ذلك نشأت عشوائيات جديدة بسبب الهجرة القروية الكثيفة الى الدار البيضاء. لذا لا جدوى من إزالة العشوائيات بقرار إداري ينفذه البوليس. سيكون ذلك سحقا لنمط عيش آلاف الأشخاص. البديل هو وضع برنامج طويل المدى يطرح بدائل فعلية لسكان العشوائيات… وحينها ستنقرض العشوائيات ذاتيا. لن يحتاجها الفقراء. هذا حلم لن يقاوم خوار البقرة.
La tâche du cinéma c est de mettre à nu la réalité et non pas de lui mettre du maquillage pour l embellir.Toute la noble tâche de la vraie création cinématour à phi que réside dans cette phrase de votre beau texte.Merci , on prend toujours du plaisir à vous lire.
المزبلة هي ما يوجد في بعض العقول التي تحتاج الى تنظيف من الأفكار و المعتقدات العفنة التي تضر صاحبها بالخزي في الدنيا و العذاب في الآخرة ،يا ليتنا حين قلدنا الغرب قلدناهم في تقدمهم العلمي و حافظنا في الوقت نفسه على هويتنا الاسلامية لكنا جمعنا الحسنيين ، ولكنا اعدنا العزة لهذه الأمة ، لكننا و للأسف فعلنا مثل ذلك الغراب الذي اراد ان يقلد مشية الحمام ،فلا هو استطاع ذلك و لا هو عاد لمشيته الاصلية فأصبح يمشي مشية عرجاء ، هاذا هو حالنا اليوم لا تقدم ادركنا و لا دين ابقينا
و اللبيب بالإشارة يفهم