بعدما نجحت في توطين الأعيان داخل الأحزاب “الإدارية” و”الديمقراطية” على السواء، ها هي الدولة تدخل غمار تجربة جديدة: زرع أعيان رأس المال الرمزي، أي أصحاب الأفكار والتجارب السياسية “الحية”، داخل الأحزاب “الميتة”. ومثلما يوزِّع الأعيانُ أموالهم لشراء الذمم وإقامة الولائم خلال الانتخابات، ها هم أعيان رأس المال الرمزي، من أمثال عبد الكريم فوزي وعبد الكريم الشاذلي وادريس هاني، الذين أعلنوا انضمامهم قبل أيام إلى حزب عرشان، يصرفون أفكارهم في التنكر لاصطفافاتهم القديمة، وتبرير انتمائهم الجديد، ثم التشويش على الأحزاب التي مازالت تحافظ على رصيد إيديولوجي وأخلاقي، وتشترك معهم في الجذر الإسلامي، مثل العدالة والتنمية.
لكن، ما هو وجه الشبه بين عبد الكريم فوزي، القيادي البارز في “الشبيبة الإسلامية”، وعبد الكريم الشاذلي، الشيخ السلفي، وادريس هاني، الذي ظل حتى عهد قريب يُعرف بزعيم الشيعة المغاربة، من جهة، وبين الأعيان التقليديين، “أصحاب الشكارة”، من جهة أخرى؟ إنهم يتشابهون في قابليتهم للتزوير.. تزوير الأولين للقيم والتاريخ عبر توظيف رأسمالهم الرمزي، تماما مثلما يوظف الأخيرون المال الحرام لتزوير نتائج الانتخابات، وإلا فكيف نفسر أن يصبح ادريس هاني، فجأة، مالكيا، وعرشان “وطنيا يجسد معنى الرجولة السياسية” بتعبير عبد الكريم الشاذلي الذي لم يجد حرجا في القول إنه كان مسؤولا كبيرا في “لادجيد” قبل أن يصبح محكوما عليه بثلاثين سنة سجنا بتهمة الإرهاب!؟
إن التحاق هؤلاء “الإسلاميين” بحزب عرشان يذكرنا بنوع من العلماء والوطنيين الذين كانوا يُعتبرون أعيانا محترمين في مناطقهم ومجالاتهم، فدفعت بهم السلطة نحو الدخول إلى أحزاب وجبهات سياسية خلقتها مع تفاقم الأزمة بينها وبين أحزاب الحركة الوطنية، أواسط الستينيات، لإضفاء نوع من المصداقية عليها.
لقد ظلت الدولة، من خلال الأحزاب التي فرختها وبوأتها المرتبة الأولى، حريصة على دسّ أعيان مثقفين وسطها، تقارع من خلالهم أحزاب المعارضة التي كانت تعج بالمثقفين. لكن نموذج مثقف الحزب الإداري هذا، سرعان ما كان يخسأ فينكفئ، لأنه كان يحاول أن يدافع عن الحق من موقع الباطل. ولعل آخر تجربة راهنت عليها الدولة، وبقوة غير مسبوقة، هي تجربة حزب الأصالة والمعاصرة، الذي ضخت فيه عددا كبيرا من المثقفين اليساريين الذين سرعان ما أبانوا عن فشل ذريع في لعب الأدوار المنوطة بهم، سياسيا وانتخابيا.. سياسيا، لأنهم استبدلوا الصراع الطبقي بالصراع الإيديولوجي مع الإسلاميين ورفعوا تناقضهم معهم إلى مستوى التناقض الرئيسي؛ وانتخابيا، لأنهم بتخليهم عن خطابهم ومواقعهم التقليدية إلى جانب العمال والطبقات الشعبية فقدوا امتدادهم الجماهيري.
الآن ومع الاستعداد لانتخابات 2016، يمكننا القول إن المغرب سيعرف جيلا رابعا من الأعيان: الجيل الأول جيل الأعيان الوطنيين؛ والجيل الثاني أعيان “الأحزاب الإدارية” الذين اضطلعوا بمهمة خنق “الأحزاب الديمقراطية” بعد إنهاء حالة الاستثناء وإلى حدود انتخابات 1993؛ ثم الجيل الثالث وتمثل في الأعيان الذين انفتحت عليهم “الأحزاب الديمقراطية” بداية من انتخابات 1993 فمكنوها من إيجاد موطئ قدم لها في البادية وفي مناطق كانت حكرا على “الأحزاب الإدارية” بدون أن تدري أن “السم في الدسم”، فغرقت في الأعيان الذين أصبحوا متحكمين فيها ولم يعد بإمكانها الاستمرار بدونهم؛ أما الجيل الرابع، وهو الذي يهمنا، فمكون من إسلاميين شاردين، لا يملكون سوى رأسمالهم الرمزي، وهم مستعدون لوضعه رهن إشارة الدولة لخلق نوع من التوازن السياسي والإيديولوجي، مع حزب العدالة والتنمية؛ وهذا الدور هو الذي فشل في أدائه يساريو “البام”، كما فشلت فيه أحزاب المعارضة البرلمانية.
هل سينجح أعيان الرأسمال الرمزي، الإسلامي، في استنبات أفكارهم في تربة حزب سياسي يجتر خطيئته الأصلية، وهل سيكون بإمكانهم منافسة العدالة والتنمية في المؤسسات، والعدل والإحسان في الشارع، من خلال حزب سلط عليه ادريس البصري الضوء، ففرّخ كائنات انتخابية، لا علاقة لها بالسياسة، لم تصمد أمام أول لفحة برد فاعتلّت وماتت؟
يحاول الأستاذ جاهدا أن يعمل مبضعه في الجسد السياسي المغربي في محاولة لتشخيص ظاهرة مرضية سياسية تلم به في خلق تيارات داخل أحزاب أو العمل على تفجير بعضها ، مع احترام وجهة نظر الكاتب أرى أن قناة متصلة بالجسد السياسي المغربي صادرة من أعلى هي التي تضخ فيه دماء الحركة وتوجهه الوجهة المرغوب فيها أشبه بمسرح العرائس ووو.