في "موت" السياسة: دافعية المؤشرات وبؤس المشهد

في "موت" السياسة: دافعية المؤشرات وبؤس المشهد
الإثنين 8 فبراير 2016 - 09:15

يحيل مفهوم الموت في ضميرنا الجمعي إلى الفناء المادي. ويتحدد على أساس ذلك باعتباره قطيعة نهائية، بينما هو في الواقع مجرد محطة لها ما بعدها، ولا تخلو من تجدد من منطلق أن الزوال ليس سوى ماديا، في حين أن جانب البقاء الرمزي هو أقوى وأكثر امتدادا في الزمن. وفي حقل السياسة يتمظهر هذا المفهوم في بعديه المادي والرمزي على السواء. فكثيرة هي الهياكل السياسية التي تعرضت للزوال المادي بفعل عوامل عدة، وكثيرة هي الأفكار والقوالب النظرية التي هجرت وانمحت من الوجود، وقل الإقبال عليها، وتبرم منها معتنقوها، وأعرض عنها الناس.

في المغرب، موت السياسة في بعديه أمر ملحوظ وملموس وواقع يعيشه الناس، وذلك رغم التغيرات المتسارعة في مختلف البنيات الاجتماعية والثقافية والفكرية والديموغرافية والتي تحدث باضطراد:

-هرم سكاني متسم بطغيان الفئات العمرية الشابة والمتعلمة.

-تحول متنامي في الظاهرة الحضرية على حساب الاستقرار الريفي، وما يستتبع ذلك من تحولات في البنيات الذهنية والسلوكات المدنية.

-اتساع قاعدة الطبقة المثقفة والمتعلمة من خلال العدد الهائل من حاملي الشواهد العليا والمتوسطة.

-تراجع مهم في نسبة الأمية بفضل البرامج القطاعية مقارنة بالعقود القليلة الماضية.

إلا أنه عند إمعان النظر للمشهد السياسي الذي يسير بشكل متواز مع هذه التحولات في شموليته، فإنه لا مناص من اختزال الوضع في كلمتين: الصدمة وبشاعة المشهد. ويمكن تلمس بعض عناصر المشهد السياسي “الظاهرية” من خلال المؤشرات التالية:

-تراجع الهياكل السياسية القائمة تأطيرا وإشعاعا في أوساط الفئات الاجتماعية.

-ضمور وتراجع خطاب وسلوكات القوى السياسية التقليدية.

-انحسار دائرة إشعاع وتأثير المعارضة غير البرلمانية وتأكد مقولة “الأحزاب الصغرى”.

-نهاية الاستقطاب السياسي على الأساس الإديولوجي-إذا استثنينا الساحة الجامعية-بحيث بات الانقلاب على المبادئ الفكرية والاتجاه يمينا ويسارا أمرا عاديا بعدما قلت جاذبية الخطاب الإيديولوجي.

-تبرم الفئات المثقفة من الخطابات السياسية بأنواعها والتصرف إزاءها بالتجاهل والسخرية والازدراء.

-سيطرة الأعيان وأصحاب النفوذ الاقتصادي من ذوي المؤهلات الثقافية الدنيا وتسلقهم سلاليم المناصب التنظيمية بالأحزاب.

-تنامي وعي مختلف الشرائح الاجتماعية من الفئات المسحوقة-على الأقل على مستوى الخطاب-بعدم جدوى وجدّية الكائنات الحزبية.

-تراجع تراجيدي في أصالة وصدقية وقوة وجودة الخطاب السياسي للأحزاب لصالح أشكال جديدة من الفرجة السياسية تقوم على التنابز بالألقاب والهمز والغمز واللمز وتبادل التهم والتهريج العبثي في مشهد يثير الإشفاق والتقزز في الآن ذاته.

-انزواء الأطر والكفاءات، لا سيما من بين العقائديين سياسيا بعد أن “غسلوا أيديهم” من السياسة مقابل سيطرة فئة من التنظيميين والمتنطعين.

بناء على ما سبق، فإن المشهد يرتسم كالآتي: دافعية المؤشرات وبؤس المشهد.

إلا أن ما يستغرب له حقا، ويحتاج إلى دراسات سوسيولوجية معمقة، هو ذلك التناقض العجائبي بين المؤشرات الاجتماعية والفكرية والثقافية والديموغرافية من جهة والواقع السياسي من جهة أخرى. ذلك أن الصورة المفككة كما حددنا عناصرها أعلاه لا تلبث أن تستحيل في الزمن الانتخابي المغربي إلى لوحة جذابة في منتهى الجمال، منتظمة، متناسقة الأجزاء والألوان، ففي اللحظة الانتخابية ينقلب الوعي الاجتماعي والسياسي على عقبيه، وينكفئ الانتقاد، ويتوارى الغضب السياسي، ويحدث التماهي المغربي الذي نرسمه كما يلي:

-تسابق الفئات المثقفة لتزكية الفاعل السياسي وخدمة الكائنات السياسية والترويج لها، مع تناسي ونسيان هويتها النقدية ولعن الثقافة العالمة والكفر بها وبما يأتي منها لصالح ثقافة شعبوية تقوم على “التعوريط” و”المزاوكة”.

-اصطفاف وتزاحم الفئات الاجتماعية المسحوقة والناقدة والناقمة والساخطة أصلا على الأحزاب-في طوابير-أمام الحوانيت السياسية الموسمية لخدمتها مقابل فتات الريع الانتخابي ولو بتحصيل دراهم معدودة.

-تناسي الغاضبين لمواقفهم السابقة من الأحزاب والتعامل معها كأنها وليدة اللحظة والأعراض عن محاسبتها على أدائها خلال تسييرها للشأن العام على قاعدة المقولة الشعبية “احنا ولاد اليوم”، فتنطلي عليهم الوعود التي يعرف الجميع أنها لن تتحقق، ويأتي التسويف بمفعول عجيب على هؤلاء.

-تغيير بنسبة 360 درجة في تمثلات الكثيرين السلبية أصلا عن الأحزاب، وانخراطهم معها في “جدبة” و”حضرة” انتخابية يفتقدون معها ذلك الوعي السابق.

-الغاضبون عن الأحزاب الذين قالوا فيها ما لم يقله مالك في الخمر هم أنفسهم من يحشرون بالآلاف في المهرجانات والتجمعات الانتخابية، فيصفقون ويطبلون ويزمرون لمن هم أقل منهم كفاءة في بعض الأحيان، ويتحولون بقدرة قادر إلى دعاة للتحزب ومبشرين بالسياسة.

قد يعجز أكبر المحللين عن فك رموز هذه الصورة وفهم هذه الخلطة الغريبة الموسومة بطابع التناقض، والتي تدعو إلى طرح الأسئلة أكثر من التفكير في البحث عن الأجوبة. فأي معنى لهذه الصورة المركبة؟

-أليس معناها أن الغضب من الأحزاب لا يعني بأي حال رسوخ وعي سياسي حقيقي لدى الشرائح الاجتماعية التي تكتفي بالانتقاد والتفرج ثم لا تجد بدا في انخراط لا معنى له في معمعة الأحزاب؟

-أليس معناها أن منتقدي الأحزاب يفتقدون في واقع الأمر القدرة على التحول من ردة الفعل إلى الفعل، وبالتالي تحويل وعيهم السياسي إلى ممارسات سياسية بديلة؟

-أليس معناها أن الظاهرة الحزبية لم تترسخ بعد، وأنها مجرد ظاهرة اجتماعية بلبوسات سياسية، فالانتماءات القبلية والمناطقية والولاءات العائلية والشخصية لا تزال أقوى من الانتماء الحزبي ومن المواقف السياسية التي سرعان ما تذوب لدى الغاضبين من الأحزاب عند أول اختبار؟

-أليس معناها أن التمثل السائد لدى منتقدي الأحزاب هو تمثل خاطئ للسياسة وللديموقراطية كآلية لإحداث التغيير الاجتماعي؟

-أليس معناه أن البؤس الاجتماعي والاقتصادي ينهض دوما ككابح، ومعرقل لنمو الأفكار السياسية، والاستقلالية الفكرية، وللقدرة على الاختيار. ويستحيل في محصلة الأمر إلى رصيد تقتات منه الأحزاب المغضوب عليها؟

*كاتب وأستاذ باحث

[email protected]

‫تعليقات الزوار

1
  • saccco
    الثلاثاء 9 فبراير 2016 - 21:06

    لقد ادرك المغاربة بحسهم السياسي ان مشاكلهم اوإحتياجاتهم اليومية المباشرة لن يكون لها حل الا بالإنخراط المباشر ويقضة المجتمع المدني ودفاعه السلمي (ما حك جلدك مثل ظفرك )
    فلقدت لعبت وسائل التواصل في إيصال مباشر لصوت وصورة الظلم الاجتماعي الذي تلقاه طبقة واسعة من المجتمع كما لعبت دورا مهما في تقوية المجتمع المدني وبروزه كقوة للضغط قصد التغيير المباشر على ارض الميدان
    فإذا كانت الاحزاب تسعى للإصلاح عبر تنظيرات واهداف تعوم في العموميات كإصلاح التعليم والعدل و الصحة ومحاربة الفساد فإن المجتمع المدني يتميز ببراغمتية وبخصوصية وإستهداف في دقة المطالب كغلاء ماء وكهرباء أمانديس ،الريع السياسي من خلال الارتفاع المهول لأجور وإمتيازات الوزراء والبرلمانيين والمدراء العامين ،توظيف الاساتذة المتدربين ،فساد الطرقات (فضيحة الزفت)….
    أكيد ان الوعي بمذى قوة المجتمع المدني في المغرب ويقضته تشكل أداة فعالة ووازنة لإحداث تغيير حقيقي

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 3

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة