الإبداع ضرورة إنسانية

الإبداع ضرورة إنسانية
السبت 18 فبراير 2017 - 13:38

(2)

أحاول في هذا المكتوب أن أظل وفيا لمنهجية تستقي من الخبرة – بمفهومها الإجرائي – وتتوسل بمنظور شمولي يقفز على الحدود الفاصلة بين الأجناس الفنية وينظر إلى الفنون من أعاليها، دون أن يضيع في الجزئيات.

وأقول.. إنه لا يكفي الإلمام بتقنيات البناء والصياغة داخل جنس فني بعينه لتحقيق شروط الإبداع بمقاصده الجمالية والوظيفية. إن القدرة على الانتقال السلس بين الأجناس الفنية واستثمار “تقنياتها” مصهورة في نسيج إبداعي واحد يرفع منسوب الإبداع في المنجز الفني.

يحتاج الأمر، والحالة هذه، إلى حرفية ماهرة تنتقي من كل جنس فني ما يخدم الحالة الإبداعية، دون أن تعمد إلى هدم الأنساق الفنية وحدودها الفاصلة، ولا إلى كسر القوالب والقواعد، بزعم الحرية في الإبداع.

ولأضرب مثالا عمليا على ذلك:

يوظف الاستطلاع الصحافي، ضمن ما يوظف، تقنية التصوير. طبعا لا أقصد التصوير الفوتوغرافي، بل التصوير الفني بما هو نقل لتفاصيل الصورة الماثلة تحت الأعين والحواس، بأسلوب يتجاوز الوصف “البارد” إلى النقل النابض بالحياة للصورة – الحدث.

والتصوير، بهذا المعنى، تقنية عابرة للأجناس الفنية والأدبية، لأنها – ببساطة – محركة للخيال ومثيرة للمتعة.

إن توظيف هذه التقنية – على سبيل المثال – يعطي فكرة جيدة عن هشاشة الحدود الرخوة بين الأجناس الفنية، لكنه يمنح – في الآن ذاته – إمكانيات إبداعية لا نهائية للصحافي المبدع والسينمائي المبدع والروائي المبدع والشاعر المبدع وهلم جرا.

أعني أن الصحافي المبدع يستطيع أن ينقل أجواء السينما وشخوص الرواية وروح القصيدة، في توليفية تصويرية تمتح من واقع الحدث وتلتصق به وتحيط بتفاصيله، دون أن يخرج عن الضابط العام لصياغة وبناء الاستطلاع الصحافي، كما هو متعارف عليه تحت كل السماوات.

وهذه مهارة لا تعلمها معاهد الصحافة، بل هي نتاج ما أسميته – في بداية هذا المكتوب – الخبرة بمعناها الإجرائي.

أقصد الخبرة الباحثة عن الخيط الناظم للإبداع الإنساني في شتى حقول المعرفة وعن “السر” الإنساني المكنون وراء كل منها. وهي رحلة مضنية وممتعة في آن، وعمادها العقل والقلب في آن.

(ولعلك لاحظتَ أنني أضع الصحافة ضمن قوائم الأجناس الفنية. وهو تصنيف يكتسي وجاهة حقيقية، لا مجال للتفصيل فيها. ولعلك تتفق معي أن الفيلم الوثائقي – مثلا – أقرب إلى الاستطلاع الصحافي منه إلى الدراما السينمائية. والفروق الدقيقة تعزز انتماء الصحافة إلى الفن ولا تلغيه.)

‫تعليقات الزوار

3
  • مبدعة قادمة
    السبت 18 فبراير 2017 - 15:04

    تبارك الله عليك طرقت الموضوع من زاوية لم أقرأ فيها لأحد قبلك. وهي استثمار كل التقنيات المتاحة في كل حقول الإبداع دون هدم الحدود بينها. موفق.. برافو.

  • معلقh
    الأحد 19 فبراير 2017 - 17:32

    على الرغم من اعتقاد ارسطو بان الفن وليد المحاكاة فانه يرى بان الفن الحقيقي يكمن في قدرة الفنان على صنع ما تجزت الطليعة عن صنعه.بمعنى ان المحاكاة ليست فعلا منفعلا سلبيا وانما الاتيان بشيء جديد وهو ما يسمى بالابداع.لكن من اين يحصل المبدع على قواعد العمل التي يستعملها في نشاطه الابداعي.هنا يختلف الفلاسفة بين قائل بان الفنون لا تختلف عن الصناعات والمهن من زاوية كونها تكتسب قواعدها من التعلم والاكتساب.فنيتشه مثلا يشبه الفنان بالبناء ،اذ لا بد له قبل الاخذ في مزاولة عمله من تعلم قواعد المهنة التي يتعاطاها.واذا صح هذا الكلام فمعناه بان ما من احد الا ويستطيع ان يكون فنانا اذا تعم قواعد فن من الفنون ،وبين قائل بان الاكتساب غير كاف ما لم يقترن بالموهبة او العبقرية كاستعداد فطري للعقل يمنح للفنان قواعد عمله الفني .ونجد هذه الفكرة عند كانط.فهنالك فرق عند انصار التصور الاخير بين المحاكاة السلبية المنفعلة التي ما هي سوى استنساخ للواقع وبين العمل الابداعي مثلما هنالك فرق بين الانصات الى صوت صادر عن عندليب وصوت يقلده.الاول يولد المتعة والثاني النفور.

  • باهي
    الثلاثاء 21 فبراير 2017 - 21:57

    الفن الحقيقي يكمن في قدرة الفنان على صنع ما عجزت الطبيعة عن صنعه.
    تحية لصاحب المقال, الصحفي الذي عجز العجز عن إعجازه

صوت وصورة
عريضة من أجل نظافة الجديدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 12:17 2

عريضة من أجل نظافة الجديدة

صوت وصورة
"ليديك" تثير غضب العمال
الخميس 18 أبريل 2024 - 11:55

"ليديك" تثير غضب العمال

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد

صوت وصورة
احتجاج أرباب محلات لافاج
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 17:32 9

احتجاج أرباب محلات لافاج