خطاب العرش، الموجه إلى الملك

خطاب العرش، الموجه إلى الملك
الجمعة 4 غشت 2017 - 02:18

حدود المَلِك، ضمن المؤسسة الملكية

ربما لأول مرة، في ملكية محمد السادس، يُوجه خطاب العرش، ليس إلى مواطنين “لايت ” منهم المهتم وغير المهتم؛ وإنما إلى مواطنين متلهفين، تلهف الفلاح وهو يذود عن زرعه وتبنه، إذ رأى النار تلتهم حصاد جاره.

ولعل هذا أعز ما يطلب في خُطب العرش، وهي أصوات الحسم السيادي، التي خولتها البيعة والدستور – وقبلهما التاريخ – للمؤسسة الملكية؛ فان لم تكن من مَلِك متلهف على إقامة العدل وتحقيق المساواة والعيش الكريم لمن هم أهم من أبنائه، من حيث ثقل المسؤولية؛ (من ملك متلهف) إلى مواطنين أشد تلهفا؛ عُدت من سائر الكلام، الذي يؤخذ منه ويُترك.

إن خطاب العرش، كما أفهمه، يرقى من مجرد خطاب للملك، في عيد العرش – كما استوى في بداياته، عيدا، وجذوة، للنضال ضد المستعمرين الفرنسي والإسباني – إلى خطاب للمؤسسة الملكية؛ وهي، كما نعرف، تعلو على المَلك؛ باعتبار الإجماع عليها من لدن كل النسيج القبلي والحضري المغربيين- منذ استواء المغرب أمة بين الأمم- وباعتبار قدمها واستمراريتها.

أما المَلِك؛ حتى وإن كان هو المبايَع على رأس المؤسسة الملكية، والممثل لها، والناطق باسمها؛ فإنه، لبشريته، وفرديته، وخصوصيته، لا يتماهى معها كلية، ولا يسري عليه كل ما يسري عليها.

لقد حفظ التاريخ المغربي الموضوعي – البحث فيه لم يغادر البدايات بعد- لكل ملك مكانته؛ بين سلالم الصعود والنزول؛ حسب شخصيته وأدائه، والظروف الوطنية والدولية المحيطة به.

لكن هذا التاريخ، ومصادره المتداولة، حتى وهي تصنف الملوك، وتشرح ثورات الشعب على بعض ملوكه الظالمين، أو الضعفاء، لا تضع المؤسسة الملكية، بمواصفاتها المذكورة، موضع نقد وسؤال.

لا تتم الإطاحة بملك إلا لتنصيب آخر مكانه. مات الملك، عاش الملك.

إنها المؤسسة الملكية التي أقامت المغرب دولة واحدة، وأقامت لها (المؤسسة) دستورا داخليا، حكما على الملوك؛ في قوتهم وضعفهم، في عدلهم وجورهم.

في بعض الفترات، من تاريخ الدولة العلوية – مثلا- بلغ الملوك درجة كبيرة من الضعف، حتى بدت سلطتهم مقتصرة على بعض الحواضر فقط؛ لكن المؤسسة الملكية حافظت على قوتها، وتأثيرها، بالرغم من أزماتها. وبعد الضعف تَطَّرِد القوة والعنفوان في أوصال الدولة؛ انطلاقا دائما من جذوة المؤسسة الملكية.

لعل الملوك الأقوياء – كل حسب عصره، والمنتظر منه- إضافة إلى إشاعة العدل، وتيسير الرخاء، وإعلاء الصروح، وتسيير الألوية والبنود؛ يلقحون المؤسسة الملكية، بمصل الاستمرارية الذي يحميها من “أوبئة” الملوك الضعفاء، الذين يقودون الأمة صوب مهالكها.

حتى سقوط الدول ونهوض أخرى، على مدى تاريخنا، لم يعمل إلا على إرساء المؤسسة الملكية وتقويتها.

داخل الخطاب، خطاب موجه إلى الملك

أغلب الذين حللوا خطاب العرش، لهذا العام، وأغلب التعاليق وشذرات مواقع التواصل – الباردة والملتهبة – انتصرت للفعل الذي يجب أن يَجُبَّ ما قبله.

بدا للجميع أن بوسعهم أن يقولوا نفس ما قاله الملك؛ ليس لعدم عمق الخطاب، بل لانخراطه ونضاله العضوي، وكأن الملك – وهو كذلك – واحد من المواطنين، ينتظر جهة ما لتحدث التغيير المنشود.

نعم وثِق الملك في المؤسسات العمومية، والأحزاب والنقابات؛ حتى بدا له أن سلامة التدبير، ومواطنَته، وجديته، أمور مضمونة؛ وفي إطار الاختيار الديمقراطي لا يمكن انتظار التغيير إلا من هذه المكونات الدولتية.. فلماذا البحث عن قيصر روماني، بسيف مسلول؟

لقد وقفت طويلا عند قول أحد المحللين: هذا بالضبط ما قاله الصحافي حميد المهداوي، فكان نصيبه السجن.

أضيف: كيوسف عليه السلام، إذ راوده الفساد فأبى، لينتهي في سجن من أراد صون عزه وشرفه (العزيز).

وقد سبق أن تحدثت عن المعضلة القضائية للشباب الملكي الحقيقي، بالريف. كيف يُسجنون وأفضل من يرافع عنهم الملك؟

بعد استقراء الخطاب، وهو من السهل الممتنع، بدا لي أن الملك، وهو يخاطب الشعب، والحكومة والسياسيين- كما يبدو في الظاهر- يستحضر، ربما لأول مرة منذ مبتدأ ملكيته، مُخاطَبا آخر، هو المؤسسة الملكية التاريخية، بقضها وقضيضها.

من هنا مفصلية هذا الخطاب، التي تتطلب قراءة جديدة، لم تألفها ساحتنا السياسية والأكاديمية:

أن يخاطب الملك الشعب فهذا مألوف؛ أن ينوب عن المؤسسة الملكية في مخاطبة نفسه؛ فهذا جديد كل الجدة.

أن السكتة القلبية، التي سبق للمرحوم الحسن الثاني أن تحدث عنها، حدثت بالفعل – سياسيا– في أيامنا هذه، حينما تعفن الوضع الحزبي لدواع عديدة واحتُقر المواطن الناخب أيما احتقار، في تغريبة تشكيل الحكومة.

وبفعل هذا وغيره، تحرك الريف حيث تدافع الفيلان الحزبيان، وتطاحنا حتى قبل طحن محسن فكري؛ وتعفن حراكه، بدوره.

الحكومة التي ما كادت تتسلم الركح السياسي الحربي، وليس الحزبي، حتى داهمتها الحركات التكتونية، في كل الجهات؛ فبدت مرتبكة، لا تعرف كيف تواجه الصواعق لتنتهي منتشية بلهاء بكشفها:

الريف انفصالي، والمتهم هو التاريخ، والخطابي ومولاي يوسف، وليس الدولة أو الحكومة.

بموازاة كل هذا بوغت المواطنون، وهم في أمسّ الحاجة لمالهم العام، بسياسة ملكية إفريقية، لها كلفة مالية فلكية؛ وهم في توجسهم معذورون، لأن كل الشروح والتبريرات التي قدمت لهم، تصب في اتجاه الإبداع في الدفاع عن قضيتنا الوطنية الأولى.

نعم، ولكن هذا بالضبط ما تفعله الجزائر، بددت من المال العام تسعمائة مليار دولار، من أجل حلمها في الصحراء المغربية. نحن في صحرائنا – في الواقع وليس في الحلم- وقد كلفنا أعمارها أرقاما مهولة، فكيف نضيف إليها أرقاما إفريقية، لم يفسرها أحد للمواطنين.

لم يتحدث أحد للمواطنين عن شركاء المغرب في سياسته الإفريقية، فذهلوا، وازدادوا ذهولا، وهم يقفون على كل تفاصيل “موسم الهجرة نحو الشمال” كما تنبأ بها الروائي المقتدر الطيب صالح؛ لولا أنه كان يراها هجرة للأفارقة صوب الغرب الغني وليس المغرب النامي.

أبعد كل هذا ننتظر خطابا للعرش، يحتفل مع المواطنين، يطلق الأسرى، ثم يدخل الأرشيف، ولا أحد يعاود الحديث عنه، عدا للاستهلاك السياسي الذي أضنانا؟

ماذا قال الملك للملك؟

وبعبارة أدق، ماذا قَوَّل الملك للمؤسسة الملكية؟

افتقاد أحزاب مُؤطِّرة، ومنتخَبين صادقين في تمثيليتهم ومواطنتهم، وحكومة منسجمة، ومشمرة لأكمامها في الميدان وليس في العاصمة فقط؛ جعل الملك في مواجهة مواطنين، لم يعودوا يثقون إلا فيه. حتى المطالبون بالملكية البرلمانية، أرادوها هذه المرة تنفيذية حاسمة في أمرِ سيل بلغ الزبى.

ماذا يفعل الملك، إزاء هذا الوضع؛ إن لم يسعفه ثقل وتاريخ المؤسسة الملكية؟

يبوح المواطنون، بعد الله للملك؛ فلمن يبوح هو، إن لم يكن للمؤسسة الملكية؟ ومن هنا، بدا منتقدا وشاكيا أكثر منه مقررا.

شاكيا؛لكن شكاته تقول: ها قد حلت السكتة السياسية، وأوشكت بطارية الدولة على النفاد؛ فكيف ننطلق من جديد، ونعبر الأزمة كما، عبرناها في كل تاريخنا؟ من أين الطاقة، إن لم تكن من المؤسسة الملكية؟

إنها المؤسسة نفسها التي أسعفت المغاربة، ومحمد الخامس رحمه الله في المنفى، في الانتصار للمقاومة، ومواجهة شدائد المستعمر.

إن الملك اليوم بين ظهرانينا، نعزه ونجله؛ ينطق بنفس همومنا، ولا مخلص لما نحن فيه عدا الدستور الصامت، والمتوارث، للمؤسسة الملكية؛ بما هي مرجعية في الشدائد.

يقودني هذا التحليل إلى توقع حلول جذرية، مفصلية تجب ما قبلها من مناوشات الإصلاح.

لا أقل من تحييد الأحزاب، إلى حين، وتشكيل حكومة تكنوقراطية، تنكب على وضع الأسس الصادقة، والمواطِنة، لملكية محمد السادس الثانية؛ كما رسم خارطتها خطاب للعرش، خاطب فيه الملك نفسه أكثر مما خاطب مواطنيه.

https://mestferkiculture.com

‫تعليقات الزوار

4
  • المهدي
    الجمعة 4 غشت 2017 - 08:27

    نعم أيها الكاتب ان كان تحويل أموال – الشعب في أمس الحاجة اليها – الى افريقيا في شكل مشاريع تنموية لضمان مواقفها الى جانبنا في قضية الصحراء فهناك من يملك من الأموال إكثر منا ودفع ويدفع أكثر ، القدافي حول مجرى خزينة الدولة نحو افريقيا فلم يجني سوى الجحود والشماتة بل حتى ابنه الساعدي الذي احتمى بهم لم يترددوا في تسليمه لاعدائه وتراب قبر العقيد لم يجف بعد ، لا خير فيهم ولن نجني من وراء سياستنا الافريقية سوى الضياع فها هم يملأون شوارع المملكة متسولين ونصابين وتجار للمخدرات ومزورين للعملة وهاهم يتكاثرون كالبكتيريا بما يهدد التوازن والتركيبة الديمغرافية والعرقية للبلد ويلقحه بعادات وممارسات وثقافات غريبة وموغلة في البدائية والهمجية ما يجعل مستقبل البلد أسود قاتما وكل هذا تحت مسوّغ احترام حقوق الانسان والمهاجر وغيرها من المصطلحات التي تنكر لها اول من تنكر مخترعوها وواضعوها من الغربيين الذين أوصدوا الأبواب وتركوا أهل العالم الثالث يستقبلون أهل العالم الرابع او العاشر …

  • محمد الخامس في القمر
    الجمعة 4 غشت 2017 - 10:07

    لولا إحتجاجات الريف الشامخ لما كان خطاب الملك بهذه الحدة. وهذه النقطة قلما تطرق لها المحللون! لأن "العياشة" المقربين من الملك، دائما ما يصفون له مغربا آخرا، مغرب "العام زين" و "العياشة" الإلكترونية البجيدية الاخوانجية المخزنية, تقول "آمين".

    تناسلت القراءات والتحليلات، لكن، لا أحد تجرأ عن قول الحقيقة!
    فمن المعروف والواضح على أرض الواقع هو أن الحكومة الفعلية هي من تسمى بحكومة الظل ( الديون الملكي). وبالتالي، فهي المسؤولة الفعلية عن النكوص الديمقراطي، والتنموي والحقوقي. لكن كبير هذه الحكومة، يوجه أسهم انتقاداته للحكومة "الاراكوز". إنتهى النقاش!

    ما نعرفه هو التسلق الطبقي أما الإنتحار الطبقي فناذر جدا!
    غريب، لما يتكلم واحد من أغنياء العالم، بل أغنى من كل أمراء المشيخات الخليجية، عن مشاكل الشعب الفقير..
    فكما يقول المثل الدارجي "لهضرة ما كتشري خضرة"

    كلام الليل يمحوه النهار..انتظروا الثورة الهادئة والديمقراطية بالتدرج والتقسيط، لما يصبح الدجاج بأنياب
    Kant Khwanji
    KK

  • KITAB
    الجمعة 4 غشت 2017 - 11:56

    أولاً والأستاذ يتذكر هذا جيداً أن خطاب العرش لسنة 2016 صب في نفس الاتجاه بتطهير الإدارة ونهج مقاربة جديدة في التعاطي مع قضايا المواطنين… الخ، وهو نفس الخطاب لهذه السنة مع تحوير شمل الطبقة السياسية والفساد السياسي إذا شئنا…. بيد أن وعي المواطن ارتقى ليتطلع إلى ما وراء الخطاب وليس الحكم عليه من الداخل; فقرات… مضامين… رسائل مشفرة… كما حفلت به العديد من التحاليل.. يتبع

  • KITAB (SUITE)
    الجمعة 4 غشت 2017 - 11:57

    ثانيا إن خطاب الأمس كان موجها في عمقه إلى المحيط الملكي أو بالأحرى إلى حكومة الظل التي تقع على عاتقها مسؤولية الحضيض الذي بلغه الأداء السياسي المغربي، لأن المحيط الملكي أو كما يفضل الكاتب تسميته "بالمؤسسة الملكية" هو دينامو الأداء الحكومي والماسك بزمام الأمور صغيرها وكبيرها، وبالتالي فأرى أن الملك اليوم أشد غضبا من ذي قبل لكن ليس على هؤلاء الكومبارس حكومة… مؤسسات… إدارة… بل على أفراد المحيط الملكي الذين خرجت الأمور من تحت سيطرتهم فولدت حراك الريف أو لم تحد من أبعاده، وكشفت عن التلاعبات المالية في تنفيذ المشاريع… إذن باعتقادي وعديد من المراقبين أن المحيط الملكي سيخضع في القريب إلى عملية جراحية قد تحتم تغيير بعض أعضائه وعناصره قبل أن يشمل الحكومة برمتها، وتحياتي

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30

احتجاج أساتذة موقوفين