عبد الـكـريم غــلاب: أمـة فـي رجـــل

عبد الـكـريم غــلاب: أمـة فـي رجـــل
الجمعة 25 غشت 2017 - 10:25

من حين إلى آخر، وفي غفلة من الجميع، نُفْجع بالغياب القسري للأعزة من الأهل والأصدقاء، والشيوخ والعلماء، والباحثين والحكماء، فلا نملك غير ترديد قوله سبحانه تعالى: “كل نفس ذائقة الموت”، “إنا لله وإنا إليه راجعون”.

وصف الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه الدنيا فقال: “دار أولها عناء، وآخرها فناء، من صحَّ فيها أَمِنَ، ومن سَقِـمَ فيها نـدِمَ، ومن افتقر فيها حَـزِنَ، ومن استغنى فُتِـن، حلالها حساب، وحرامها عذاب”.

ووصف الشاعر الموريتاني ابن رازكة الموت فقال:

هو الموتُ عَـضْبٌ لا تخون مـضاربُهْ ** وحـوضٌ زُعـاقٌ كـلُّ من عاش شاربُـهْ

ومـــا الــنــاسُ إلا واردٌ فـــسـابـــــِقٌ ** إلـيـه ومــسـبـوقٌ تــخُــبُّ نــجـائــبُـــــه

رحيل الأستاذ غلاب فاجعة كبرى حـلّت بنا جميعا، أسرة وأصدقاء ووطنا، لما له من حضور وازن في جميع الأوساط السياسية والثقافية والأدبية والصحافية، شخصية اجتمعت فيها شخصيات عديدة، له في كل ميدان صولات وجولات، يبهرك بنفسه الطويل المتزن، بقـلمه الرصين الأنيق، بأفكاره النيّرة، ومواقفه الوطنية الصادقة وبمؤلفاته الغزيرة المتعددة، إلى غير ذلك مما خلّف من مقالات “أربعائية” واظب على نشرها أسبوعيا بجريدة “العلم” سنوات بلغة راقـية عـذبة.

غلاب معلمة سامقة شامخة، رمز من رموز الوطن المضيئة، وطنية ونضالا، سياسة وصحافة، مسارا حزبيا نظيفا، ثقافة وإعلاما، كتابة وتأريخا، غلاب رائد من رواد الكتابة والإعلام قبل الاستقلال وبعده، شمر منذ شبابه المبكر عن ساعد الجد في الدفاع عن المقدسات، بآرائه وكتاباته، بمواقفه ومبادئه، فكان الصورة البلَّورية للمثـقـف الحق، السياسي الكفء، الأديب اللامع والصحافي المستـنـير.

سلك غـلاب دروبَ الكتابة على اختلاف مساراتها، يطاوعه قلمه وقـدْ صاحبَه وأخلص له الودّ عقودا طويلة فأمتعنا برواياته ومؤلفاته الإبداعية، وأفادنا ببنات أفكاره في الوطنية والسياسة، وحبّب إلينا القراءة والمطالعة، بل وكثيرا ما ننغمس في قراءة مؤلفاته بشغف وحب ودون تـوقـف.

لا يخامر أحد الشك في براعة عبد الكريم غـلاب في الكتابة والقراءة، فهو يقرأ ويقرأ، يكتب ويكتب، أذكر جيدا ما كتبه في واحد من مقالاته الأربعائية بجريدة العلم بتاريخ 24 مارس 1994، “ضرّتان جميلتان لم أستطع العدل بينهما”، فهو يشعر بغبن إحداهما لأن الوقت فيما يبدو كان لا يسمح له بعدل يحققه مع هاتين الضّرتين، فما أنصفه! ولـولا هاتان الضرَّتان لما نجحنا في الحصول على هذا الإرث الأدبي والتاريخي والسياسي والروائي الذي خلّفه غلاب، أمتع به نفسه أولا وهو يشعر بدفق القراءة وقد أسفر عن مدونات ومؤلفات، وأمتعنا وأفادنا كقراء مداومين على قراءة مؤلفاته معجبين بأساليبه المتنوعة المختلفة، السلسة الهادئة الراقية جملة وتفصيلا.

وآخر ما زودنا به الأستاذ عبد الكريم غلاب الطبعة الثانية لكتابه “الماهدون الخالدون”، في طبعة مزيدة ومنقحة صدرت في أوائل شهر يوليوز من السنة الحالية 2017، ولعل ما شجعه على ذلك إضافة رواد آخرين لم يسعفه الوقت سابقا فيما يبدو للكتابة عنهم عند صدور الطبعة الأولى سنة 1991، ومن ثم اتضح لي أن الوفاء للأصدقاء والمناضلين في عوالم السياسة والفكر والأدب ممّن تركوا بصماتهم واضحة في تاريخ المغرب كان واجبا عليه أداؤه، فنجح في الكتابة عنهم كما يقول: “من خلال ما اختزنَتْ ذاكرتي وأنا في صحبة معظمهم، تعرفتُ عليهم منذ حداثتي، عايـشْتُهم تلميذا أو صديقا أو رفيق طريق… ظلَّتْ صورتُهُم رغـم رحيل مجموعهم في مكان الفكر والقلب والعاطفة مني” ( ط2/6).

وما يبعـثُ على الإعجاب بهذا الوطني الرائد ذاكرته اليقظة وهو يكتب عن هؤلاء الرواد، وفي مقدمتهم الدبلوماسي الحكيم امحمد بوستة (ت 2017). قارئ هذه الترجمة دون شك سيجد قلم غلاب يغرف من بحر، لله درّه، كيف انتظمت تلكم الترجمة الوافية لهذه القامة الشامخة من عهد الفتوة والشباب إلى عهد مدونة الأسرة.

سعدتُ بتوصلي بهذا الكتاب فور صدوره، كما هو الشأن مع العديد من مؤلفاته، وكانت قراءة هذا الكتاب مفيدة شكلا ومضمونا، لكن الوقت لم يسعفني للكتابة عنه في حياته في متم شهر يوليوز، لذا ارتأيت أن أسجل بعض الانطباعات عن هذا الكتاب التحفة.

تضمن هذا الكتاب ستا وعشرين ترجمة، أي ما يزيد عن خمس ترجمات مضافة وحذف ترجمتين صدرتا في الطبعة الأولى 1991 (إحداهما عن طه حسين والثانية عن الحبيب بورقيبة).

لا أنكر ولا يستطيع غيري أن ينكر إعجابه بهذا القلم الذي يَمُجُّ بياضا في سواد وهو يكتب عن مسيرة الماهدين الخالدين الرواد؛ ففي الكتاب نقلات متنوعة من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب مرورا بالحواضر المختلفة ليخلِّد تراجم شخصيات صنعتْ تاريخ الوطن وناضلتْ من أجل استقلاله وحريته، متـتـبعا مراحل حياة كـلِّ رائد وكأنه يقرأ في كتاب فتنسابُ العبارات متدفـقـةً عن حياة حافلة بالعطاء.

ويمكن تصنيف الرواد الماهدين الخالدين الذين تناول الكتاب مسيرة حياتهم ونضالهم إلى فئات منها:

فئة الملوك: محمد الخامس، والحسن الثاني.

فئة السياسيين والمناضلين: وعددهم ست عشرة ترجمة، منهم علال الفاسي، بلافريج، الخطابي، المهدي بن بركة، عبد الرحيم بوعبيد، امحمد بوستة.

فئة العلماء والمصلحين والمثقفين: وعددهم ثمان، منهم محمد بن العربي العلوي، إبراهيم الكتاني، عبد الله كنون…الخ.

تتميز كل ترجمة بطابع خاص، تـجلو واقع حياة المترجم منذ البدايات بقلم أنيق، يغريك بالمتابعة ويفيدك بما اختـزنته ذاكرته من معلومات وحقائق. يقول: “كنت أجدني مع هؤلاء الماهدين الذين فرضوا وجودهم على التاريخ، علَّموني الكثير من فصوله، ورسموا أمامي ملامحه، كنت أستشيرهم لأفهم التاريخ الفكري والوطني والسياسي والثقافي المتصل بالسياسي في حياتهم وسلوكهم ونضالهم”.

كان غـلاب، على الرغم من تعـدد مشارب كتابته في السياسة والوطنية والرواية والرحلة والمذكرات وغيرها، وفيّـا للماهدين الخالدين كما سماهم، مؤمنا برسالتهم، معتزا بهم وبصحبتهم، صورتُهم لا تفارقه “على الرغم من رحيل مجموعهم، فهي في مكان الفكر والقلب والعاطفة” (ط2/ 6).

قيم خلقية جُـبِل عليها غلاب منذ صباه، انغرست في سويداء فكره وقلبه وأفصح عنها قلمه بصدق ووفاء وأمانة وإخلاص، قـيـم أكـدت وفاءه لمن أخلـص لهم الودّ، وكان آخرهم، كما سبقت الإشارة، امحمد بوستة (ت 2017)؛ فقد أفرد له فصلا ماتعا حول مواقفه الوطنية ونضاله السياسي في معركة الاستقلال والبناء الديمقراطي بصبر وحكمة، قاوم المستعمر ودافع عن صحافة حزب الاستقلال (العلم) أثناء محاكماتها، كما تحدث بتفصيل عن أنشطته المتنوعة وآرائه الصائبة، فالاقتراب منه غُـنْـمٌ لكل من آمن بالإصلاح في جميع الميادين. يقول عنه: “اختاره القدر ليكوم حاملا لمشعل الرواد، مواصلا رسالة تدعيم أركان الاستقلال وإرساء قواعد الحرية والديمقراطية” (ط2/ 206).

لقد وهبه الله ذاكرة حافظة أسعــفته في تحبير تراجم جديدة لعلها كانت الوازع لإعادة طبع كتابه المتحدث عنه في طبعة أنيقة ومـزيدة، على الرغم من ظروف حياته الصعبة. لقد أكّـد هذا الإصدار أن غـلابا كان متحديا هذه الظروف، رافضا الشيخوخة الظالمة، كما جاء في مؤلفه عنها، كان نشيطا ملبيا نداء قـلمه عندما يحس بالرغبة في الكتابة، تـابع مشواره في الكتابة والتأليف. ومن أحب شيئا صانه، وهكذا أصدر في أواخر سنة 2016 مجموعتين قصصيتين “سعادة الباشا”، و”شهرزاد في ليلتها الثانية بعد الألف”، أنْـصَتُ إليه يوم تكريمه بأكاديمية المملكة المغربية التي نال جائزتها (يناير 2017) حيث ارتجل كلمة متميزة مؤثرة تنساب في لغة راقية سلسة ــ وكأنه يقرأ من كتاب أمامه ــ استعرض فيها مراحل حياته في هذه الأكاديمية، متحدثا عن دورها ومنجزاتها باعتزاز وفخر خلال عقود منذ إنشائها سنة 1981.

عبد الكريم غلاب رجل خلـوق، رجل مهيب، ودود، بشوش، متواضع، أنيق في كتاباته وأحاديثه ومعاملاته، رجل قيم ومبادئ، كان لا يبخل عليَّ بإهداء مؤلفاته حين صدورها، كما حظيت بعنايته حين شرفني بحضور مناقشة أطروحتي الجامعية لنيل الدكتوراه بكلية آداب بالرباط في يونيو 1994، وشرفني بحضوره في تكريمي بمدينة سلا سـنـتي 2009 و2011، كما كانت مواساته لي ولأسرتي ــ عند وفاة والدي رحمه الله سنة 1998 ووفاة والدتي سنة 2015، رحمهما الله وأحسن إليهما ــ كانت مواساته وتعزيته بلسما خفف عـنَّا ألم الفراق وفاجعة الموت، فلله درُّهُ من ماهـد خالد، سِجِلُّهُ حافل بالمكرمات وجميل الأفعال.

مَـنْ لنا اليوم بغـلاب تجتمع فيه كل هذه المواصفات والخصال، مَـنْ لنا اليوم برائد يصحح المسارات، ويُذكِي جِذْوة الروح الوطنية في أجيال الشباب، بعيدا عن الحزبية والخلافات السياسية، مَـنْ لنا بأديب يُجَـنِّد قلمه ليحبِّر أروع الروايات وأبهى المذكرات وأعذب حكايات الرحلات…

يظهر أن الزمان قد لا يجود علينا بمثل غلاب الذي أعرفه بما جُبِـلَ عليه من قدرات على الكتابة ومِنْ سموق في عالم الفكر والثقافة والسياسة والوطنية والأخلاق.

رحم الله أستاذنا الكبير عبد الكريم غلاب، وأحسن إليه وأسكنه فسيح جناته مع الأنبياء والشهداء والصديقين، وحسن أولئك رفيقا، “إنا لله وإنا إليه راجعون”، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وافت المنية الأستاذ غلاب مساء يوم الأحد 20 ذي القعدة 1438 / 13 غشت 2017، ووُوري جثمانه الثري بعد صلاة الظهر من يوم الثلاثاء بمقبرة الشهداء بالرباط.

‫تعليقات الزوار

3
  • الادب المنغلق
    الجمعة 25 غشت 2017 - 15:46

    ادي نعم ،ادب النخبة ربما وبالتدقيق ادب نخبة ما ،،معلم ادب الى حد ما ،انه ادب مدرسي .قد يجد المثقف العدر لكنون او ع.المجيد بن جلون ،ولكن لغلاب فقط النقد ،ان تكتب ادبا في المغرب يعني ان تكتب ضد غلاب واليساريين ،وما اكترهم ،من في المغرب شبابا كان ام في العقد الخامش يجد نفسه في كتب غلاب و محاولات ادب اليسار ،ان قلنا ادب ارستقراطي سنتهم بالنقد الايديولوجي الفج اي التمركس ،ولكن نوعية جمهوره ومحيطه السياسي ترغمتا على دلك ،ان الحركة الوطنية هي دات نزعة ارستقراطية ،ويمكن رصدها حتى على المشتوى السياسي عند الاتحاد ،وهدا هو مازق حزب الاستقلال ،شعبوية شباط الكارتية ام ارستقراطية نزار النخبوية ،

  • ضد المفسدين نورالدين
    السبت 26 غشت 2017 - 19:53

    هده علامة الأدب في البلاد لزين لمجي بكري أكبر علامة الحقد والعنصرية .
    اكلتها دودة الأنانية
    لم تتزوج بالنعومة في شكر الدورية إلا إلى حين .
    الله يعفو عليك وعليهم جميعا .
    لم يسبق في التاريخ ان كان رجل بسيط يتجول بسباطه في امة بمعنى رجل في امة تنم على المصالح واستغلالها على حساب الامازيغية

  • أسامة الزكاري
    الإثنين 4 شتنبر 2017 - 22:09

    رحم الله الفقيد غلاب وألف باقة تقدير وامتنان للدكنورة نجاة المريني على وفائها وعلى جهدها العلمي للاحتفاء بسير معالم النبوغ في الثقافة المغربية المعاصرة

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 1

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين