فَاوْسْتْ والمثقف العربي*

فَاوْسْتْ والمثقف العربي*
الأربعاء 18 أكتوبر 2017 - 19:59

لَئِنْ كانت الثقافة في حدها الخاص والعام، هي ما يَسْتَقْصي ويتقرَّى، ويُحلِّلُ، وَيُقَدِّمُ رأيا، ووجهة نظر في القضايا والمشاكل والإشكالات في مختلف تسمياتها وتجلياتها، وبناء نقديا منتجا وخلاقا للواقع في تمظهراته المادية المحسوسة والملموسة، واللامادية الروحية والباطنية. إنها ما يصنع الفرق، والتميز الهوياتي، والاكتمال، والانفتاح، ويصوغ السؤال تلو السؤال، ويضفي الطابع الأنثروبومُوفِي على الأشياء بوَسَاطة الشفاهة والكلام، وبوَسَاطة الكتابة والتدوين، صَدْعاً بما يُرَى حقا، وَصَدْحاً بما يُتَصَوَّرُ أنه الواقع النسبي لا المطلق بطبيعة الحال.

لئن كان هذا حدها إنْ على المستوى الفكري أو الإبداعي، فإن فاوسْتْ الذي باع روحه للشيطان، يذرع الأزقة، وَمَمَاشي الكتب المسطورة، والكنانيش المرقونة، والمصنفات المنظومة، ويسكن الرؤس، والنفوس، والعقول، والضمائر لغاية حَرْفِ المثقف عن مهامه، وإبعاده عما أنيط به، وأناط نفسه به، وإلهائه عن خدمات مواطنيه وبلده، وإسعاده بالفتات لقاء صمته، وتلبيس الباطل بزة الحق، والظلم الفادح، كسوة العدل الرفيق.

والحَقَّ أقولُ : إن فاوستْ حاضر حضور المتمكن والمسيطر، والمتحكم، بعدما صار والشيطانَ واحدا. وهو لاَيُقْبِلُ مختالا ضاحكا يجرجر أذيال العز والانتصار إلا إذا وجد التربة المهيأة، والمناخ المواتي، والطقس الملائم المساعد. إلا إذا ألفى أن المثقف فلانا، قابل للرقص معه، والانتشاء بصحبته، فوق مائدة الخيانة، وغِبَّ مأدبة البيع والشراء، وسحب المعميات على المُدْركات البيِّنات، بِلَيِّ أعناقها، وطمس أبعادها، وقبر مُؤَدّياتها من فكر ورأي، وموقف، وسعي تدبيري هادف لجهة مصلحة البلاد والعباد.

وليس من شك في أن المثقف العربي في كثير من نماذجه، وشتى مواقفه، وآرائه، وكتاباته، مُغالِطٌ بما لا يقاس، كاذبٌ بما لا يوصف، مُزَيّنٌ للوجه الخَرِبِ بما لاَ تَطْرُفُ معه عينه حياءً واستحياءً وخجلا.

ومن منطلق هذه المغالطات التي يتقنها إذ تدرب عليها وتمرن التمرين الكافي بعدما أُغْذِقَ عليه المالُ الوافي، وَقُرِّبَ من ذوي الجَّاه “الصَّافي”، فإنه فنانٌ في قلب الجوارب، والمعاطف، وانتعال أصناف النعال في اليوم الواحد، بهلوانٌ عجيب في إضفاء نور اللغة، والشقشقة اللفظية، الفارغة كالقوقعة المتربة الناشفة، والنزعة الثقافوية المتشدقة، على الضحالة المعرفية التي نلمسها –مثلا- في المدونات الدينية أو التربوية أو السياسية. وهو “ميداسيٌّ”، بشكل لاَ يُصَدَّق، وعلى نحو استثنائي، حيث لا يعسر عليه، البتّةَ، تحويل المعدن الخسيس إلى ذهب وألماس، وأحجار كريمة. إنه خيميائيٌّ نادر الطينة، ساحرٌ متمرس ينفخ في الرماد الهامد فإذا هو نار موقدة، وشواء شهي يسيل اللعاب مسيلا.

ثم، هو يجمع إلى الشراسة والمداهنة، والحربائية، والوصولية، المكر الثعلبي، والذئبية الضارية المُعْوِلة، والأسدية المزمجرة الناهشة. وبيان ذلك، يتمرأى في هَجْر فكر سديد حمله طويلا، في رمشة عين، وتبديل رأي قويم –صَدَعَ به فترة- برأي سقيم بغية كعكة، أو مقعد، أو عقار، برأي يرى في وَليِّ النعمة، ألوهةً أرضيةً، وكرَماً حاتميّاً، وَمَحْتِداً شريفا، وسلالة من دم أزرق.

كما يتمرأى ويتمظهر، ويعلن عن نفسه إضمارا أو جهارا، في الوشاية، ونصب الفخاخ لمن يراه مزاحما شريفا طاهر الثوب وا لذيل. إذ لا يغمض له جفن، ولا يقر له قرار، ولا يستكين إلى عظامه وأعصابه، وسريره الملهتب، حتى يرى “جليل” عمله يتحقق. عندئذ يدخل فاوست العربي حلبة الرقص مع الشيطان، ويوقعان بالأرجل والجسدين الطائشين، لحنا غريبا، لحنا أسود قاتما، يشرق عاليا بالضحك الدموي، ويغمز عميقا بالمهوى السحيق، الدنيء، السافل الذي سقط فيه هذا المثقف المبتاع.

وبيان ذلك أيضا، أنه يتعامى عن الحرائق التي تَتْرَى قُدَّامَه وخلفه، وعن يمينه وشماله وفوقه. يتعامى عما يعانيه الشعب العربي من ظلم وانعدام عدالة، واستبداد، وقمع، وتفاوت طبقي متفاقم، يستفحل يوما عن يوم، وهو يرى أن أقلية أوليغارشية تحتكر المال والأرض، الماضي والحاضر والمستقبل، فيما تتخبط الأغلبية الساحقة في مستنقع العدم: في الفاقة، والإملاق، والجهل، والأمية، وموت حاضرها ومستقبلها، بفعل فاعل أقلوي ظالم يتكيء على قراءة وتأويل خاصين “مخدومين” للدين، وللعرق، وكومبرادور داعم ومساند، ومتواطئ يمتص –بدوره- ضَرْعَ الوطن اللَّبون. كما يتكيء – من جهة أخرى- على أبناء فاوست.. الشياطين الصغار، الأبالسة ذوي القربى، والمصلحة الملحاحة في الجلوس الفوري، أو المرجإ الموعود، إلى المائدة الطافحة، الفائضة الدسمة. ثم إنهم يعلقون – كذبا وبهتانا- كل أمل في الخروج من الورطة والبوتقة على مجيء ” غودو”، على العسل المصفى الذي يجري أنهارا في دَارَةِ الغيب. أبناء فاوست – المتحالفون مع الشيطان، أولئك الذين تَقَوْمَجوا. ثم لما دارت الدوائر بالقومية غير المأسوف عليها، تَمَرْكَسوا. ولما سقطت الأدبيات الماركسية في أوجهها : اللينينية، والغرامشية، والألتيسورية، بعد تَصَدُّع البنيان الفكري الذرائعي الاشتراكي للأحزاب الشيوعية المهترئة، تَلَبْرَروا أيْ صاروا ليبيراليين يدعون إلى الديمقراطية، والحريات الخاصة والعامة، وفصل الدين عن الدولة، والاقتصاد الحر.. إلخ. ولما لم يقضوا وَطَراً من هذا وذاك، تبعوا الأنظمة الديكتاتورية، ومالوا حيث مالت، فتأسلمُوا: تَعَمَّمُوا، وشطروا الدينَ، وعلقوه بكل ما هو تحكم وتفرد، وولاية. واعتبروا الولاء –أولا وأخيرا- هو ما يجب أن يكون، حتى وإن بَغا القائدُ، والحاكمُ، والدكتاتور.

هم هؤلاء من ساهم ويساهم في تخلف البلاد العربية، لأنهم باعوا أرواحهم للشيطان، وفضلوا أنفسهم على مواطنيهم، وعلى الأغيار. وحازوا كل صغيرة وكبيرة لهم، ولذويهم، ولصواحبهم. وتركوا الأوطان عرضة للعهر والتعرية، والتجريف، ونهباً لِلّصوصية، والسرقة الموصوفة آناء الليل، وأطراف النهار.

ومن ثَمَّ، صار على المثقف الشريف النظيف، الاندماجي، العضوي، المنحاز للفقراء والمُسْتَضْعَفين، الغيور على حاضر ومستقبل البلاد، أن يحتمل عبئين اثنين :

أَنْ يفضح ويكشف ما يراه كابحًا، ومُفَرْمِلا، وعائقا أمام التقدم والتطور والتنمية في كل الميادين والمجالات.

وَأَنْ يتصدى للمثقف الفاوستي، بِفضْحِه، وإماطة القناع عنه، وإرباك مغالطاته، وحساباته، مشافهةً وكتابةً، وَمُناوَءَةً علميةً ضمن الندوات، والموائد المستديرة، واللقاءات التي تعقد على هامش المعارض الجهوية والمركزية، مثلا.

نعم؛ إن الإعلام المرئي –إلى حدود الساعة- لا يتيح هامشا معتبرا للمثقف العضوي المسلح بالخبرة، والمعرفة العلمية والإبداعية، ليقول كلمته، ويدافع عن طروحاته في إطار برامج تنشيطية متلفزة أو مناظرات، لتفنيد، وَتَسْفيهِ، وَنَسْفِ الفكر الآخر، الارتزاقي، والانتهازي، والوصولي، حتى يتسنى للمتابعين والمشاهدين (ات)، أن يطلعوا على الوجهين، ويعرفوا من معهم ومن ضدهم.

ويتأكد لكل ذي لب وبصيرة وباصرة، كيف أن فَاوَسْتَيِينَ مُنْدَسّين هم المسؤولون – مع الحاكمين- عما نحن فيه، من بَغْيٍ، وتفاوت اجتماعي، وظلمٍ مُنْكَرٍ، وَرَزَايا.

*يشار إلى أنني تصرفت في الحكاية الألمانية الشعبية عن الخيميائي الألماني الدكتور يوهان جورج فاوست، إذ أخضعتها لروح الفكرة التي توجه المقالة.

www.facebook.com/boudouik.mohamed

‫تعليقات الزوار

1
  • Bilal
    الأربعاء 18 أكتوبر 2017 - 20:54

    انا صراحة ألوم المجتمع الذي يفضل الدعاة عوض المثقفين,خصوصا دعاة السلفية و دعاة التقنية

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 1

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب