مُواطنون أكثر مِمّا يجب ووطن أقل مِمّا يجب

مُواطنون أكثر مِمّا يجب ووطن أقل مِمّا يجب
الإثنين 20 نونبر 2017 - 14:20

بعد فاجعة الصويرة وسابقاتها من الفواجع والنائبات، يتصدع العقل ويثور قلقه في غليان رهيب ليعيد النظر في أمور عِدّة، كان يأخذها من قبل مأخذ الاعتيادية والمسلمات التي لا تناقش، وتمتلكك الدهشة ويستفزك الغضب حين تشاهد مسلسلات الجوع، وتوالي حلقات اللاَّ أمن الغذائي واللاَّ استقرار، لِتَلْتَمِسَ أن يكون غضبك المستشيط غضبا صِحيّاً يجلب وراءه الإفاقة واليقظة ولو بأبسط الوسائل، كقلم يأبى إلا أن يشارك الإنسانية أزماتها و ويلاتها، قلمٌ ينطلق من العدم فاضحا ستائر الظلم والاستبداد، وينبلج من وحي المكنونات، ومن كُنه الذّوات لِيُفجّر فيك الصمت الذي يلتوي على حبال الأصوات جاعلا منها همسات شاحبة لا صدى لها ولا حياة فيها لسنوات عجاف… هذا النوع من الكتابة يفك قيودنا ولو لبُرهة قصيرة، نستشعر فيها حقيقة ضيق الحرية التي تُترجم ضعف الأنفس في الإعراب عن السيل الجارف من معاناتنا ومآسينا المترامية الأطراف…إنها كتابة غير موجهة لأغنياء العالم حتى يتعظون ولا إلى سواد العالم من الفقراء والجائعين، لينهضون من سباتهم ويستيقظون، بل تخص النخبة المثقفة من المفكرين الذين ما برحوا في مدينة أفلاطون يحلمون، تاركين أشقياء العالم البائس الذين ما لبثوا بكرامة وخبز يعلّقون الأفئدة والعيون…

عندما يتعلق الأمر بأكثر الموضوعات مساسا بحياة “الإنسان”، موضوع صناعة الجوع والبحث عن الخبز، تتهاوى وتتلاشى مَقولة ” ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان” ويصبح الإيمان جليا بأنه ” بغير الخبز لن يعيش الإنسان”، فمن لا يتحكم في قوت يومه كيف له أن يتحكم في فكره وفي قدرته على ممارسة كل ما هو رفيع من ملكاته وقدراته، كيف له أن يحيا حياة تطبعها الكرامة والشعور بالانتماء؛ فالفقر سمة شمولية تلقي بظلالها على أطراف العالم وتهدد استقراره، وتؤكد على حتمية التغيير والقيام بثورة “عالمة” تضمن توزيعا عادلا للحقوق والمستحقات، وتماشيا مع ذلك تم عقد قمة عالمية لمعالجة هذه الظاهرة في مطلع الألفية الثالثة، سُميت “قمة الفقر”، من أجل القضاء على ظواهر الفقر والجوع والمرض… لكن أفقها المسدود وتفعيلها المحدود لم يُؤتي أكله، ولعل مَرَدُّ ذلك قوة وبطش مالكي السلطة والتي فاقت كل القرارات الدولية، فأضحت فلما كاريكاتوريا يثير السخرية والاشمئزاز.

الغذاء سلاح سياسي يستخدم ببراعة وبلا ضمير في تذويب مقاومة الشعوب المُفَقَّرة وإخضاعها لمن يملك المفاتيح ويسهر على تفقير البلاد والعباد، والإبداع في خلق الجهل والهشاشة والتبعية والتخلف، والتلاعب بمصائر بؤساء الأرض، وسَتْرَجَة العالم إلى شكلين يضم الأول منه أغنياء مُعَوْلَمِين يسكنون الكرة الأرضية يَعْبُرون الحدود ويتلذذون بملذات الأرض وخصبها، وفقراء مُأَمْكَنين يُقيّدهم المكان وما يجود به من حِرمانات وضعف الإمكانات، فالتنافس على احتكار الثروات سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول، إضافة إلى القوانين والأنظمة والتشريعات التي تمنح المستغلين والمحتكرين وأصحاب رؤوس الأموال كل الفرص لزيادة أموالهم واستغلال ذوي الدخل المحدود ودهس من لا دخل له، ثم تنامي ظاهرة المُلاك والإقطاعيين وأصحاب النفوذ والسلطة والتجار، سيما في دول العالم “الرابع والأخير”، التي تُحتكر ثروات بلادها لمصالح ذاتية ومآرب شخصية، هو ما يُحوّل البلاد إلى حظائر ومحميات تعيش شعوبها على فتات خيراتها، لصالح من يسطو على الأحلام والآمال ويسحق آدمية الإنسان.

هناك شكل آخر من أشكال التفقير والتحقير والإذلال، والحكم على القيمة الاجتماعية لبعض الأفراد وعلى حياتهم بالسلبية والانتقاص من مكانتهم، هذا الشكل من الازدراء يتم على المستوى التعميمي والمعياري وله علاقة مباشرة بوضع الغير و تقديره الاجتماعي داخل الأفق الثقافي للمجتمع، ويعد هذا النوع من الاحتقار انتهاكا للكرامة الشخصية أو الجماعية، الذي يمنع الشعور بتقدير الذات وفقدان الإحساس بالحياة الكريمة والشريفة، ويؤدي إلى نتيجة متعددة التمظهرات، هي “الإماتة” la mortification، وهي تعبير عن مرض من الأمراض الاجتماعية، هذه الإماتة الاجتماعية تتم من خلال الإقصاء والتهميش وحرمان الأفراد حقوقهم ومتطلباتهم.

ومنه فإن الفقر يقوم على معايير متعددة لها ارتباط وثيق بالتغيرات السكانية وعدم المساواة بين الأفراد في كافة الخدمات، وغياب سياسات مالية ملائمة تغطي العجز والهشاشة، ومن أجل الحد منه لابد من تضافر عنصرين مترابطين هما النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية، ولن يتأتّى ذلك إلا بإشراك “الفقراء” نفسهم في هذه العملية، ولا حل في الأفق إلا بضخ أكسجين جديد ومتجدد في رئتي هذا البلد ومسح آثام ما فعله غيرنا، وذلك باستيعاب الدروس والاتعاظ بالتجارب الأليمة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، من أجلنا وأجل الأبناء والأحفاد، والوجود والمصير، ومن أجل الابتعاد عن شرور الحروب وقهر الشعوب… وزرع الطاقة الإيجابية وروح المحبة والتضامن…

آن للمغرب أن يتصالح مع مواطنيه وإنهاء الوجع الذي يشق الصدور، بتنمية الأشكال البَيْنْذَاتِيَة الثلاثة من حب وحق وتضامن، والمتناسبة مع النماذج الثلاثة لتحقيق الذات وهي: السبيل من أجل تحقيق الثقة في النفس، تحقيق احترام الذات، ثم تحقيق التقدير الاجتماعي بُغية الوصول إلى عيش مشترك بين أفراد المجتمع الواحد الذي تذوب فيه التفاوتات الطبقية، ويسعى إلى الاندماج الاجتماعي وتجاوز حالة العوز والعجز الاقتصادي.

‫تعليقات الزوار

9
  • البوعزاوي
    الإثنين 20 نونبر 2017 - 15:20

    صحيح ما قلت وأشاطرك الرأي..لكن تمنيت لو كنت وكتبت في بلد حكامها يقرؤون ويعتبرون ولا ينامون من شدة وخز الضمير…أما هنا في المغرب اكتبي ما تشائين ولا من يبالي..(فالقافلة تسير…) لقد تحكموا في زمام اﻷمور واختلت موازين القوى لصالحهم،وأصبحوا لا يبالون بهمون السحوقين ولو اعتقل الجميع وسجن الجميع وقتل الجميع بشرط أن لا يمس أحدهم أو ذويهم….وقعت حوادث من قبل وسيل الكثير من المداد…ولكن هيهات هيهات..هؤلاء تمكنوا وتحكموا فينا لن يخلصنا منهم إلا"شي مصيبة من عند ربي هو الوحيد لقدر عليهم"

  • سلوى التازية
    الإثنين 20 نونبر 2017 - 19:16

    الفقر والتفقير هو أساس موت شهيدات الصويرة وموت الكثير من الفقراء والمعوزين المغاربة.
    وكل من قال إن الفقر ليس عيبا عليه أن يجرب الحياة الفقيرة بأن يتخلى عن ماله وثروته أو على الأقل يقضي أسبوعا فارغ الجيوب وألا يحمل معه بطاقة الشباك البنكي الأوتوماتيكي.
    الفقر يقتل الكرامة وهي أغلى ما يملك ىالانسان.
    شكرا للكاتبه اكرام عودة ميمونة لجريدة هسبريس.

  • Citoyenne du Monde
    الإثنين 20 نونبر 2017 - 19:50

    C'est vrai qu'il y a un décalage horrible entre le patriotisme des marocains et l'indifférence de l'Etat. C'est un amour d'un seul coté qui ne peut que mal finir. A cet instant , notre pensée va vers Mr El Mehdaoui et ce qu'il aurait dit sur cette tragédie s'ils ne l'avaient pas fait taire derrière les barreaux.

  • سوار الجوري
    الإثنين 20 نونبر 2017 - 20:53

    أن تكون فقيرا في هذا اللاوطن يعني أن تسلب ليس فقط من حقك في أساسيات العيش الكريم وإنما من حقك في أن تبقى حيا وإن كنت لا ترزق. ومن حقك في الوسائل التي تضمن لك الوجود في اللاوجود الاجتماعي، من أكل وشرب و سكن يحميك من قساوة المناخ التي لا تكاد أن تكون بشدة قساوة هذا المسمى بالوطن…
    شكرا لك أيتها المواطنة في زمن ومكان اللاوطن
    دمت مواطنة صادقة ومخلصة لكشف المستور عن هذا البلد…

  • Aminta
    الإثنين 20 نونبر 2017 - 21:08

    النسوة هي المسؤول الأول عن حادثة الصويرة، ثقافة الصف لم نتربى عليها بقدر ما تشبعنا بثقافة الفوضى والتدافع والهمجية. لو علمن أن الحق يؤخد بالتنظيم عوض التزاحم والازدحام لما سقطنا في هذه الاختاتلات المتكررة.

  • ابن طنجة
    الإثنين 20 نونبر 2017 - 21:20

    المسافة الفاصلة بين الاغنياء والفقراء جد قصيرة الفرق بين الاغنياء والفقراء ان الاغنياء يستثمرون في عقولهم والفقراء يستثمرون في بطونهم الاغنياء يقرؤون والفقراء يشاهدون التلفاز الاغنياء يستمتعون بلحظات الحياة والفقراء يستمتعون بجهلهم و بالحقد والحسد والغل على بعضهم البعض

  • نبيل التسولي
    الأربعاء 22 نونبر 2017 - 09:52

    قرأت مقال الدكتورة اكرام ويا حبذا لو تكتبين في موضوع اطروحتك المرتبط بالمرأة والمقاولة واستغلال الكادحات في القطاع الخاص وما أثرته مؤخرا في عرضك حول مقايضة الشغل بالجنس في بعض المعامل والشركات.
    ربما ان المرأة تتحمل مسؤولية وضعها لقبولها بالاستغلال المقال عميق ومحزن ومخجل لانحطاطنا المغربي.

  • الغذاء والدواء
    الأربعاء 22 نونبر 2017 - 10:28

    الغذاء سلاح سياسي يستخدم ببراعة وبلا ضمير في تذويب مقاومة الشعوب المُفَقَّرة وإخضاعها لمن يملك المفاتيح ويسهر على تفقير البلاد والعباد، والإبداع في خلق الجهل والهشاشة والتبعية والتخلف، والتلاعب بمصائر بؤساء الأرض، وسَتْرَجَة العالم إلى شكلين يضم الأول منه أغنياء مُعَوْلَمِين يسكنون الكرة الأرضية يَعْبُرون الحدود ويتلذذون بملذات الأرض وخصبها، وفقراء مُأَمْكَنين يُقيّدهم المكان وما يجود به من حِرمانات وضعف الإمكانات، فالتنافس على احتكار الثروات سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الدول، إضافة إلى القوانين والأنظمة والتشريعات التي تمنح المستغلين والمحتكرين وأصحاب رؤوس الأموال كل الفرص لزيادة أموالهم واستغلال ذوي الدخل المحدود ودهس من لا دخل له، ثم تنامي ظاهرة المُلاك والإقطاعيين وأصحاب النفوذ والسلطة والتجار، سيما في دول العالم "الرابع والأخير"، التي تُحتكر ثروات بلادها لمصالح ذاتية ومآرب شخصية، هو ما يُحوّل البلاد إلى حظائر ومحميات تعيش شعوبها على فتات خيراتها، لصالح من يسطو على الأحلام والآمال ويسحق آدمية الإنسان.

  • البوعزاوي
    الأربعاء 22 نونبر 2017 - 20:01

    تعقيبا على تعليق 6-ابن طنجة، ما قلته على المسافة بين الفقير والغني يدل على أنك لم تعرف يوما معنى الفقر ولم تعرف يوما معنى الجوع حتى من خلال صوم رمضان إذ لا أعتقد أنك صمت يوما…ولهذا أتمنى لك تجربة من الفقر وسترى آنذاك هل ستستثمر في بطنك أو في "سوأتك" حينما ترهنها مقابل ليلة دافئة وبدون جوع…

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 7

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 3

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 3

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال