إشكال الديني والسياسي والبحث عن مرجعية ناظمة

إشكال الديني والسياسي والبحث عن مرجعية ناظمة
الأربعاء 22 نونبر 2017 - 17:57

مع أن علاقة الديني بالسياسي في العالم الإسلامي قضية ليست بالجديدة بل تندرج في سياق المواضيع التي قُتِلت بحثا كما يقولون، إلا أن الإشكالات الفكرية الفقهية المرتبطة بهذا الموضوع كـ: تعدد المرجعيات الدينية وعلاقتها بالتشريعات الوضعية الوطنية، معنى الافتاء والاجتهاد؟ ولمن يرجع التكليف؟… لم يتم حلها وما زالت حاضرة بقوة، ولم يستطع المسلمون طِوال أكثر من ألف وأربعمائة سنة حسم هذه الإشكالات.

فما أن يستقر الحال على توافقات محددة بهذا الشأن حتى تنتكس الأمور وتعود إلى نقطة الصفر، وكأن الله يريد أن يعاقب (المسلمين) بمثل عقاب كبير الآلهة زيوس للفيلسوف سيزيف بجعله يحمل صخرة إلى قمة جبل وما أن يصل إلى القمة حتى تتدحرج الصخرة إلى القاع ليُعيد المحاولة مرة أخرى وهكذا يستمر عذابه، كما جاء في الميثولوجيا الإغريقية.

هذه التساؤلات والإشكالات ليست بجديدة على المشهد الفكري والفقهي الإسلامي، فتساؤلات القرن الواحد والعشرين هي نفسها تساؤلات القرن السابع! بحيث يمكن القول بأن الفكر السياسي الإسلامي ما زال يبحث عن مستقر والأسئلة الإشكالية حول علاقة الديني بالدنيوي ما زالت تحتل حيزا كبيرا من انشغالات العقل السياسي العربي والإسلامي، والأمر لا يقتصر على فقهاء الدين، بل تجاوزهم إلى مفكرين ومثقفين من مدارس فكرية متعددة، بمن فيهم يساريون وقوميون وحداثيون.

الخطورة أن هذه التساؤلات لا تنحصر في مجال الفكر والتنظير والتمذهُب، بل أنتجت استقطابات حزبية وسياسية، هذه الاستقطابات وإن كانت بعناوين دينية، إلا أن غايتها السلطة الدنيوية، وكانت أساسا لحروب دموية وصراعات سياسية بين المسلمين أنفسهم منذ الفتنة الكبرى وحروب علي ومعاوية إلى الحروب الدائرة اليوم في سوريا والعراق وأفغانستان… الخ.

التساؤلات حول العلاقة بين الدين والسياسة، الدين والعقل، المقدس وغير المقدس، ومن يحق له الإفتاء والاجتهاد، معنى الحاكمية أو الحكميّة… طرحها الأولون وحاولوا الاجتهاد فيها: المعتزلة، الخوارج، الأشاعرة، ابن تيمية، إخوان الصفا، ابن أبي الربيع، الفارابي، الماوردي، ابن رشد، ابن خلدون، الطرطوشي، الشيرازي، وآخرون عالجوا الموضوع وتركوا لنا كتابات متباينة في مخرجاتها.

صحيح أنهم لم يحسموا فيها بشكل قاطع، إلا أن بعضهم، كابن رشد، لامس تخوم الإشكالية وحاول إعادة موضعة العلاقة أو التساؤل حول العلاقة بين الديني والسياسي وبين الدين والعقل، إلا أنه تعرض لمحنته المعروفة، كما أنه بالممارسة العملية تمت ممارسة السياسة والحكم ما بعد الخلفاء الراشدين بالتحايل على النصوص المقدسة وتجاوزها أحيانا.

التساؤلات نفسها وأخرى فرضتها متغيرات الواقع والزمان واجهت علماء نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، أو ما يسمى عصر النهضة أو التنوير العربي: الأفغاني، الكواكبي، محمد عبده، رفاعة الطهطاوي، سلامة موسى، شكيب أرسلان، طه حسين، علي عبد الرازق، وآخرون. كما تم فتح الملف مرة أخرى في الربع الأخير من القرن العشرين مع كتابات جلال صادق العظم ونصر حامد أبو زيد وفرج فوده وغيرهم، وكانت لهم اجتهادات قيَّمة بالرغم من اتهام أصحاب هذا الفكر بالردة والتجديف وتمت محاكمة البعض واغتيال آخرين.

رياح النهضة الفكرية التي أسس لها أصحاب الفكر التنويري أصيبت بانتكاسة وتم كبحها بقوة حضور الفكر الوهابي المسلح بالمال النفطي أولا، ثم موجة الإسلاموية السياسية مع القاعدة والجماعات الأخرى كالتكفير والهجرة والجماعة الإسلامية وظهور الثورة الإيرانية. كما أن الغرب شجع ودعم كثيرا هذه الجماعات والتوجهات الدينية، إما لتواجه الخطر الشيوعي ونفوذ الاتحاد السوفييتي، أو لمواجهة الحركة القومية التحررية العربية المعادية للنفوذ الغربي ولنشر الفوضى في المنطقة، كما جرى ويجري فيما يسمى الربيع العربي، دون تجاهل أن واقع الممارسة السياسية وآلية اشتغال الدولة والثقافة السائدة في العالم العربي أمور لم تكن حاسمة في مواجهة الإسلام السياسي ولم تشجع الفكر التنويري.

موجة الإسلاموية السياسية الأخيرة التي عنوانها داعش –دولة الخلافة – وما يتفرع منها ويدور في فلكها، وممارستهم فيما أُتيح لهم من سلطة في أفغانستان والعراق وسوريا، وانتكاسة الدولة الوطنية وما وفرته من حد أدنى للتعايش بين مواطنين متعددي المذاهب والطوائف، كل ذلك فتح ملف العلاقة بين الديني والسياسي مجددا، ويظهر ذلك من خلال ما نسمعه ونشاهده اليوم من دعوة لإعادة تنقيح كل التراث الفقهي الإسلامي، سواء داخل الجماعات الإسلاموية نفسها أو في الأزهر الشريف في مصر وحتى داخل العربية السعودية التي روجت واحتضنت الفكر الوهابي على مدار قرن من الزمن.

حسم كل هذه الإشكالات وحتى لا يكون حالنا حال سيزيف مع صخرته، يستوجب الخروج من فوضى تعدد المرجعيات الدينية من جانب، والتداخل بين الديني والسياسي من جانب آخر، حتى يتم قطع الطريق على موجة جديدة من الإسلاموية السياسية المدَمِرة وفوضى الافتاء. الأمر الذي يتطلب تحرير الإسلام من هيمنة الجماعات الإسلاموية وتجريد هذه الأخيرة من تنصيب نفسها مرجعية فقهية وسياسية للمسلمين، ولكن وفي الوقت نفسه يجب الحذر من تسليم ملف الدين للأنظمة السياسية والمرجعيات الدينية التابعة لها.

احتكار الأنظمة السياسية والمرجعيات الدينية الرسمية لمجال المراجعات الفقهية وصياغة العلاقة بين الدين والدولة واحتكار الحق في الفتوى والاجتهاد لن يحل المشكلة، خصوصا في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي وغياب الديمقراطية المُفضية إلى الشراكة السياسية لكل مكونات المجتمع. والمطلوب إشراك المفكرين والعلماء من كل الاتجاهات الفكرية الوسطية وغير المنخرطين في الصراعات السياسية الدائرة في هذه العملية، لأجل التأسيس لمشروع نهضة فكرية ثقافية تُعيد موضعة العلاقة بين الديني والسياسي بما يؤسس لدولة مدنية علمانية تستطيع أن تواجه تحديات العصر مع الحفاظ على روح الإسلام كدين صالح لكل زمان ومكان.

‫تعليقات الزوار

5
  • واقيلا
    الأربعاء 22 نونبر 2017 - 19:00

    تحية استاذي ولكن اخالفك الراي فالفتنة الكبرى التي اعقب ذبح عثمان لم تبتدا بالحرب بين معاوية وعلى وانما كانت قبل ذالك عندما خرحت عاءشة على على طلبا لدم عثمان

  • Mohamed
    الأربعاء 22 نونبر 2017 - 19:23

    التجديد و التطور سنة كونية. و التبدل و التحول حتمية إلاهية في كل المخلوقات. و الخالق وحده التابث الذي لا يتبدل.

    مقاومة التطور عمل بشري لمجموعات تعبد الآباء و مصابة بمرض الآبائية كما وصفوا في القرآن.

    سدنة المجموعات المقلدة يديمون الجهل و انعدام الاطلاع و العقل النقدي في مجتمعاتنا المتخلفة. و أكبر وسيلة لهم هي ادعاء امتلاك الإسلام و الحق المطلق الموروث، و اتهام المجددين بنو عصرهم بالخروج عن الإجماع ثم الخروج من الدين!

  • ahmed arawendi
    الخميس 23 نونبر 2017 - 10:00

    لدينا مشكلة تمثل و مشكلة إسقاط عندما نتكلم عن عمر و عثمان و المدينة ننزع إلى تصورها مدنا و دولا و سياسيين حقيقيين من قبل عواصم و سياسيي العصور القديمة: بابل الاسكندرية روما أتينا حمو رابي رمسيس أو أدريانو… و ننسى أننا نتكلم عن دواوير متخلفة من حجم ولاد نفخة أو أصغر بدون لغة مكتوبة و لا أي نوع من التراث اللهم الشفوي. لمعرفة قدر رجالها قس على المكان…!
    فمن المميت من الضحك, أن يقدم لنا محمد أو أبو بكر حلولا سياسية أو اقتصادية أواجتماعية لمن لاسياسة و لا اقتصاد و لا اجتماع لديه..
    التاريخ و الأركيولوجيا يشهدان أن هذا "المكان النموذج لكل شيئ" دخل القرن العشرين و ليس فيه حجر فوق حجر, بساكنة تدب جائعة نصف عارية في القفار , تجاوزت بالكاد العصر الحجري..لماذا لم تستطع هذه الإديولوجيا السحرية أن تحل مشاكل واقعها قبل أن تحل مشاكلنا !?
    الأصالة هي أن تخترع لنفسك حلولا ناجعة (فوق الارض) نابعة من واقعك ومن مشاكلك و ليست في إرسال النظر نحو القرن السابع إلى صحراء الحجاز ل"قردنة" ما فعله محمد في تاريخ ليس هو تاريخنا و مكان ليس هو مكاننا

  • Mohamed
    الخميس 23 نونبر 2017 - 20:08

    سيد 3 – ahmed arawendi، نحن ننتقد تجار الدين و مقلدي السلف و عابديهم. و لسنا ضد الإسلام.
    محمد (عليه السلام) كان نبيا و قائدا مجتهدا لعصره. قدم أول اجتهاد لمبادئ الرسالة الخاتمة.

    محمد أخذ البيعة من النساء قبل سويسرا و أمريكا بأربعة عشر قرنا!!

    محمد لم يذكره تاريخ اليهود أنه قتل منهم بنو قريضة كما ادعى حكواتية الطواغيت العباسيين. كتاب الله شاهد على أنه لم يفعل ذلك.
    شهد التاريخ لك دخله منتصرا إلى مكة و العفو عن أعدائه!! فلم يقتل أحد و كل بقي على دينه إن أراد!

    نعم من جاء بعده عاد بالناس إلى سياق تطور الإنسانية الطبيعي …
    محمد كان متقدما عن زمنه.

  • راي
    الأحد 26 نونبر 2017 - 22:29

    هذا الاشكال سيظل قائما ومستمرا.السبب بسيط الا وهو دوام نفس التنشئة الدينية.فالاخنلافات الدينبة السياسية تعود الى نوعية التنشىة التي تعتمدها هذه الطائفة او تلك.وهي تنشئة تستند الى مرجعية معينة.فكما هو معروف انتروبولوجيا فان الشخصية الوظيفية للانسان تتكون انطلاقا من الانتماء الى مجموعة تشترك في خصائص معينة .فاذا كان هذا المشترك عقيدة معينة فان المنتمي لهذه المجموعة سيحمل نغس العقبدة.وعادة وكما يقول ماكس فيبر فان اخلاقية الاعتقاد تتصف بالتحجر والتعصب والتشدد.وهكذا فان اي اصلاح يتوجب ان ياخذ بعين الاعتبار التنشئة.

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات