يوميات أستاذ من درجة ضابط .. هواجس التعيين

يوميات أستاذ من درجة ضابط .. هواجس التعيين
الثلاثاء 16 يناير 2018 - 01:35

بعد امتحان التخرج وتقديم البحوث الإجرائية والتوقيع على محاضر الخروج، انتهت حكاية موسم تكويني استثنائي بكل المقاييس، وامتطى كل متدرب صهوة الرحيل في اتجاه الأهل والديار .. لكن حكايات الترقب والانتظار أبت إلا أن تحط الرحال عنوة على مسرح الأحـداث مؤجلة لحظات الراحة والاستجمام إلى أجل غير مسمى.. وتفرض نفسها كالهواجس على العقول والقلوب والأفكار والأحاسيس وحتى الآمال المرتقبة والأحــلام المتوقعــــة.. إنها حكاية “التعيينــات” التي تقاطعت فيها كل طــرق ومسالك التشويــق والترقب.. في يوميات “هتشكوكية” ساخنــة لا توازيها سوى حــرارة أغسطس، شبيهــة بمسلسل مكسيكـي مطول عنوانــه “انتظار”.

بدأت “الحكايــة” غضون شهر يوليوز من صيف 2014 بعد أن تسلم كل “متدرب” قنه الســري من مركز التكويــن، في أفــق الولوج إلى بوابة “الخدمة الوطنية الإلكترونيــة للحركة الانتقالية” من أجل المصادقة على قائمـة الاختيارات، لكن وبإدخال اسم المستعمل ورقم القن السري، تلقـى الجميع رسالة تفيد أن ثمة خطــأ إما في رقم المستعمل أو في القن الســري، كان يبــدو وقتها أن البوابة لم تكن محينـة من أجل الاستعمال، ولم يكـن أمام المتدربيــن سوى الانتظار ترقبــا لانفتاح البوابـة من لحظة إلى أخـــرى.. قام الأستاذ “سليم” بدوره بعـــدة محاولات للولوج، لكن دون جـــدوى، كان خلالها لا يبـــارح صفحة “الفيسبوك”، سواء الخاصة بفوج الثانوي التأهيلي تخصص تاريخ وجغرافيا أو صفحة فوج الاجتماعيات إعــدادي، وبين الفينة والأخرى يلقي نظرة على الموقع الرسمي للوزارة الوصية، في محاولة منــه لتتبــع مجريات الأحــداث، خصوصا فيما يتعلــق بموضوع “البوابة الإلكترونيـــة”، وقد كانت كل الردود تشيــر إلى أن البوابة لم تفتح بعد، وكأنهــا بمثابة قلعة محصنة مستعصيــة على الغـــزاة.

وبعد مــرور أيام قلائــل – تحديــدا بعد زوال يوم 16 يوليوز- تلقى “سليم” اتصالا هاتفيــا مستعجلا من الأستاذ “سليمان” أخبـــره من خلاله أن البوابة تم فتحهـا. ومباشرة بعد تلقيـــه هذا الخبــر، هرول على عجل إلى أقــرب مقهى “أنترنت”، تاركـا حاسوبه الصغيـر، وكأنه على موعـد غير متوقــع مع أحلامه البعيـدة. أخذ مكانه في المقهى، وفتح الحاسوب وولج أول الأمر محرك البحث “غوغل”، وعبره ولج صفحة “البوابة الالكترونية”، حيث بادر إلى

إدخال رقم بطاقته الوطنية ورقم قنــه السري، وانفتحت أمامه البوابة بكل سلاســة وأريحية، وكأنها فتـــاة متيمة تنصاع أمام فارسهــا بعد طول ممانعة وتـردد. كان الأستاذ “سليم” كغيره من المتدربين أمـام ما مجموعه 82 نيابة تعليمية تغطي مجموع التراب الوطنـي، وكان عليـه ترتيب النيابــات حسب الأولويـة. كانت الصورة تبدو كجمرة حارقة تحت رماد ساكن أو لغم دفين تحـت رمال حارقة مرشح للانفجار في كل لحظـة.. أن يملأ كل متدرب قائمة طويلة تخص “82” نيابـة، معنــاه أن عليـه أن يتوقـــع في تعيينـه كل الاختيارات، بدءا من الاختيار رقم 1 إلى الاختيار رقم 82.. وهـذا شيء يصعب القبول بــه، سواء من حيث المنطلقات أو من حيث الخواتم. كان “سليم” وقتها محاصرا بنسائم الصمت من كل صوب واتجاه، وكان عليه أن يفكر جيدا ويدقق في الاختيارات قبل المصادقة النهائيـة، معتقــدا أن العملية ككل تبقــى محاطة بهامش كبيــر من النزاهــة والمصداقيــة، ولم يكن أمامه وقتهـا من خيــار سوى القبول بأنها كذلك أو ستكــون كذلك.. وكان هاجسـه الوحيد والأوحد أن يتم تعيينــه في نيابة المحمدية أو نيابة بنسليمان أو على الأقل في إحــدى نيابات مقاطعات الدار البيضاء الكبــرى، بل امتدت مساحة اختياراته حتى إلى نيابة الصخيرات

تمارة ونيابة الرباط ونيابة ســلا، وما تبقــى من اختيارات كان من أجل استكمال قائمـة الاختيارات.. ومع ذلك فقــد حرص على إعطاء الأولويــة للنيابــات القريبـة من الدار البيضــاء الكبرى، وعقب الانتهاء من العملية، صادق على الاختيارات بشكل نهائـي وغادر مقهى “الإنترنت” بخطــوات متثاقلة وكأنه خارج للتــو من امتحان عسيــر ..

في الطريق إلى البيــت، ركــب على صهـــوة الزمن العابـر، وعــادت به الذاكرة إلى خـريــف سنــة 2001 بقاعة العروض “السينما” بأكاديمية الشرطــة بالقنيطــرة، وهو يترقــب مكان تعيينــه، إلى جانب مجموعـة من الشرطييــن المتخرجـين. لم تكــن هناك “بوابــــة إلكترونيــة” ولا تسليم وثائــق تعييـــن.. كل شيء كان يتم في إطار من النظــام البعيد كل البعــد عن الارتجال والعشوائيـــة والانتظار. كانت “الدار البيضاء ” من نصيبــه، وذاك التعييـــن ترتبت عنـه أشياء: زواج.. أبناء.. جامعة.. بيت.. استقرار.. وحزمة مشاعر وأحاسيس كاسحة ألفــت نسائم مدينة ارتبط اسمها بالزهــور .. لذلك، فموضوع التعييــن لم يكن شيئــا عاديا أو مجــرد إجراء شكلي أو تعبئــة وثائــق تعييـن، بــل كان يشكل “هاجســا” كبيــرا

بالنسبـة إلى الأستاذ “سليــم” بعد 13 سنــة من الاشتغال في سلك الشرطــة بالدار البيضاء والاستقرار بمدينة الزهــور.. لذلك فقــد كان يمني النفـــس أن يعين بالمحمدية أو بنسليمان أو الدار البيضــــاء، حتى تكــون هناك استمرارية في الحيــاة وعبــورا سلســا وأريحيا من وظيفــة إلى وظيفــة أخــرى. كان يأمل ألا يرمـى به بعيــدا حتى لا ينكسر ماديا ولا معنويـــا.. لذلك عــزز ملف التعييــن بالوثائــق الضرورية، من عقد زواج وشواهد مدرسية وعقود الازدياد خاصة بالأبنــاء، بل حتى ما يثبت أنه مـوظــف سابــق. مــرة أخــرى كان على الأستاذ “سليم” أن يفتــرض أن مثل هذه الوثائــق من شأنــها أن تقوي حظوظه في التعييــن، وأن تتم الاستجابة لاختياراته العشرة الأولــى.

كان يحذوه أمل كبير في أن يعين فيما كــان يسميـه “المجال الحيوي” الممتــد من الدار البيضاء إلى المحمدية وبنسليمان إلى الرباط سلا، مرورا بالصخيرات تمـــارة، لأن كل هذه المجالات تبقى قريبــــة من المحمدية، والتنقل منها وإليها يبقــى مرنا وسلســا. كان في أقل توقعاتــه يتمنى أن يعين بمدينتي سلا أو القنيطــرة.. ولم يكــن قط يتوقــع أن يعيــن أو يرمى بــه خارج محــور “القنيطرة الدار البيضاء”، بعد أن قضى أكثر من نصف عمــره بين محــور تمــارة والدار البيضــاء. كان يراهـن على صفة “متـــــزوج” وصفة ”موظف سابــق”، وكان يأمل من باب “النزاهــة” و”المصداقية” و”المنطق” أن تتـــم مراعــاة الصفتيـن المذكورتين من طـرف “مهندسـي” التعييـــن. وبما أن الحكاية عنوانها “انتظــار”، فقد كان الانتظــار سيد الموقــف، إذ سرعان ما خالفت الوزارة الموعــد، كما خالفت مواعيد سابقة أخــرى، ولم تعلــن عن نتائج التعيينات خلال الموعـد المحدد – الثاني من شهر غشت – فما كان على جميع المتدربيـــن إلا أن يرضخوا للأمر الواقع والبقاء جنبــا إلى جنب أمام شاشـة الحاسوب ترقبــا لأي خبـر قد يأتي وقد لا يأتي.. في عز الانتظار وفي عنفوان الترقـب، كان موضوع “التعيين” يتعقب “سليم” في حركاته وسكناته.. في حله وترحاله.. وكأنه حـب جارف يكاد يجهـز على دقــات القلب وخفقــات الفــؤاد.. أو نسيم دافئ يزحـف بأريحيـة نحـو القلوب العطشى في عـز موجات الحرارة الكاسحة.. فيعطيها الأمل في العيش والاستمرار، رغم صعوبات المطبات.. كان حينها لا يبارح الشبكة العنكبوتية، يتنقل بين طيات الصفحات، كما يتنقل النحل الهائم بين البراري والمروج بحثــا عن رحيــق متناثــر . كان ينتظر كغيره من آلاف الخريجيــن الجدد إطلالة لوائح التعيينات، وفي كل لحظة انتظار كانت

أحاسيسه تقلـى كسمكة سلمــون على مقلـة الترقــب.. وكان “التعييــن” يطارده كالهواجس، كالكوابيـــس المزعجـة.

(يتبع).

*أستاذ السلك الثانوي التأهيلي، ضابط شرطة قضائية سابقا، باحث في القانون .

[email protected]

صوت وصورة
مع المخرج نبيل الحمري
الخميس 18 أبريل 2024 - 13:17

مع المخرج نبيل الحمري

صوت وصورة
عريضة من أجل نظافة الجديدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 12:17 3

عريضة من أجل نظافة الجديدة

صوت وصورة
"ليديك" تثير غضب العمال
الخميس 18 أبريل 2024 - 11:55 1

"ليديك" تثير غضب العمال

صوت وصورة
المعرض المغاربي للكتاب بوجدة
الخميس 18 أبريل 2024 - 01:29

المعرض المغاربي للكتاب بوجدة

صوت وصورة
بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 21:45

بعثة أسترالية تزور مركز "تيبو"

صوت وصورة
أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد
الأربعاء 17 أبريل 2024 - 18:24

أكاديمية المملكة تنصّب أعضاء جدد