الوعي بالذات ككائن ميت

الوعي بالذات ككائن ميت
الثلاثاء 20 فبراير 2018 - 20:09

فيما يخص الوعي بالذات ككائن ميت، فأنت تدرك باعتبارك أستاذ الفلسفة أن من اشتغل بشكل عميق على هذا الموضوع هو الفيلسوف هايدغر…. ففي خضم نقده للميتافيزيقا الكانطية، توصل هايدغر إلى مفهوم “الدزاين” وهو المفهوم الذي ناقش الموت كتجربة فردية غاية في الخصوصية بفعل كونها التجربة التي لا يتشارك فيها أحد مع آخر.. تجربة خاصة جدا والقلق حيالها، أي حيال هذه التجربة يرمينا في متاهات السؤال حول العدم.. وهذا السؤال وإن كان يرمينا مباشرة في السؤال الفلسفي ويشكل مداخل خصبة للإبداع الشعري والروائي والمسرحي، إلا أنه يبقى كذلك مصدر تجربة القلق لذى الإنسان، والتي اعتبرها هايدغر ومعه هوسرل أيضا إلى حد ما المدخل الأساسي للتعرف على حقيقة الذات، وأنت ترى معي الدورة الدودية للفلسفة الغربية من الشك كمدخل لمعرفة الذات إلى القلق هنا، ولن أحيلك هنا إلى الأسباب التاريخية التي كانت سببا في هكذا انتقال والكامنة في صلب الحياة الراهنة في العالم الغربي..

لقد كانت الوجودية كفلسفة سباقة إلى صياغة طروحاتها الأساسية حول تجربة الموت؛ لكنها أضغمته ضمن أطر التناول النفسي باعتبارها فلسفة فردانية لها ارتباطات أكيدة بالفلسفة الرواقية، حيث لفت تجربتنا مع الموت في تخريجة النسيان أو التناسي أو اللا اكتراث أو التغاضي، على اعتبار أن حياتنا الإنسانية ليست بهذه الأهمية بل هناك عدمية بارزة في أعمال سارتر تدفعنا إلى استخلاص عدم جدوى حياتنا بأكملها وهو ملخص كتاب “الوجود والعدم” عموما؛ لكنني لا أجد في عملية النسيان سوى تخريجة، وأستسمح استعمالي لهذا المصطلح لكنه ليس حكمي الخاص فهذا ما استعمله كامو في نقده للوجودية. فهي تعطي أهمية للوجود باعتباره إلى حد ما زائف، وأنت ترى التأثيرات المتداخلة لفلسفة القرن العشرين في رؤيتها للعالم، فهذا الموقف سيحيلك مباشرة إلى فرويد ولاكان ومجمل علم النفس التحليلي وإلى المدرسة العليا للأساتذة بباريس وكل مثقفيها، فهذا الزيف منظورا من خلاله إلى الوجود هو الذي سعى الإنسان إلى الانشغال عنه والتلهي عنه وطرحه من فكره نسيانه.. ألا ترى معي السي مصطفى أننا هنا في قلب لعبة فرويد وماركس ونيتشه كما وضحها ميشال فوكو في محاضراته؛ فالواقع لدى الثلاثة خداع ومخادع والواقع ليس هو الظاهر، والحقيقة مخفية إما في اللاوعي او البنية التحتية أو الجينيالوجيا، والذي نعيشه كذب وانعكاسات مقلوبة وخادعة عن الوجود. وإذا كان الثلاثة قد ذهبوا في توجهاتهم إلى الكشف عن حقيقة الكائن إلا أن الإقرار بزيف الوجود أدى إلى عدمية مفرطة في النظرة إليه، فأعطانا أدبا ملخصه الإنسان ولكن قابعا بين وجوده وعبء وجوده مثل المخلوق المسيحي الذي يعيش ذنب وجوده من حاصل علاقة جنسية كان من الأحرى لأصوله أن يكونا أكثر ورعا والتغاضي عنها.

لقد بقي السؤال عن الموت يحف الكتابات الإبداعية دائما بحضور سخي مجملا إشكالية الوجود، لكن لا يمكن مساءلة الموت دون أن تحضر الميتافيزيقا والتي ضمنها يصاغ الموت كإشكال بين العدم أو الهباء وبين الاستمرار ضمن وجود ترانسندنتالي، أي متعال مفارق.

تبقى تجارب أخرى لم تكتمل خلال القرن العشرين ولم يعاد النظر فيها حتى، بل لم أجد مبررا لإقبارها هكذا ودون سابق إنذار وأخص بالذكر تجربة اللسانيين الروس والإحالة هنا إلى ميخائيل باختين أو فولوشينوف في البحث عن الدليل، المقصود هنا كتاب “الماركسية وفلسفة اللغة” والذي حاول مقاربة إشكالية الوجود برمته من خلال “الكلمة” باعتبارها لحمة العلاقات المجتمعية بجميع مجالاتها وباعتبارها المؤشر الأكثر ملموسية لكل التحولات المجتمعية.

لقد كانت هذه المحاولات جريئة في إعادة ضبط علاقتنا بالوجود برمته مع تجاوز إشكالية الزيف الذي يطبع وجودنا، كما أشرت لدى فرويد وماركس ونيتشه؛ فلدى اللسانيين الروس الكل يوجد على السطح ومعبر عنه في المادة اللفظية أساسا وكأني بهم أرادوا توحيد المستويات البنيوية ليستوي للوجود معنى عوض العدمية واللادرية البغيضة التي اجتاحت العالم.

الموت والإبداع

فكما ترى، فالموت عنصر قائم في المعنى والوجود. وإذا كنت قد انطلقت من هايدغر، الذي حاول مقاربة العدم في ذاته؛ لكنه للأسف يخلص إلى القلق كمعطى يؤدي بالإنسان إلى معرفة أنه موجود من أجل الموت، فقد حاولت أن لأبين في هذه العجالة أن فلسفة القرن العشرين كلها لأغفلت الحياة الحقيقية لصالح حياة غير مرئية، أصرت أنها حقيقية لكنها غير مرئية. ومن هنا، يمكن الرؤية بروح نقدية للفلسفة الماركسية وليس من ارتباطاتها بالمسيحية كما فعل إدوارد سعيد.

لنعد إلى الإبداع الروائي والمسرحي؛ ولكن قبل ذلك أود أن أعقب على مدخلك الذي استشهدت فيه بالطاهر بنجلون والذي يرهن القصيدة في دور التبليغ عن وضع ما للسلطة أرى أننا نحتقر هنا الاثنين القصيدة والسلطة.

وأعود إلى القول إن علاقة الإبداع بالموت لا يجب أن نختزلها في الموت كتحقق عيني؛ لكن العلاقة بينهما ارتبطت احتداميا واختارت أن تحسم في مجال آخر هو مجال الزمن. إن الزمن الإبداعي الروائي أو المسرحي أو الشعري يحقق نوعين من العلاقة بالزمن؛ فهناك الوضع التعاقبي الذي تنمو فيه الأحداث وتنتهي حيث يطوي السابق اللاحق في أدوار انتهت وتلاشت وليس ضروريا أن يكون الموت حاضرا لكن النهايات حاضرة، وهناك نوع من الكتابة اختارت وهي بالمناسبة قديمة لا تنضبط للتاريخ ولا يسيجها الشكل هذا النوع من الأعمال هي ما نقول عنها الأعمال التي لا تموت كالإلياذة والأوديسا في الشعر ومسرح شكسبير والعمل الروائي الخالد دون كيخوطي دي لا مانشا؛ فبالرغم من أن هذه الأعمال لا تطال إلا في التاريخ وفي الشكل إلا أنها مشدودة إلى تجربة لا تنفصل عن أنا متغيرة وعابرة وحياة حاضرة في تعرج متحذر، أعمال تسعى إلى إدراك ما يقبع في أساس التاريخ والشكل في الآن الذي تنكر عليهما احتواء ما لا يتحقق إلا بواسطتهما وعبرهما. من هنا امتياز هذا الفاصل الدقيق الذي ندعوه بدءا والتي نجدها في الاعمال المؤسسة التي ذكرناها ولكن ننسى أننا نجدها في روح الملحمة والحكاية الأسطورية سواء اليونانية أو الشرقية أو شعوب أخرى.. إنها أعمال تجهر انصرافها إلى الإحاطة بما يتعالى على الإحاطة وبما تندرج بدورها في بابه، أي أنها تجهر التباس ما تدور عليه.. إنها اعمال تقبع بين الزمن واللا زمن بين العدم والوجود بين البداية والهباء النهائي واللانهائي الإلهي والشيطاني السمائي والأرضي المدنس والمقدس.

علاقة الجسد بالألم

وبعيدا عن الأسطورة والرواية والشعر، وفي صدد كلامك عن الجسد والألم كنت أود أن أراجع هنا معك بعضا من أشعار بودلير في ديوانه “أزهار الشر”؛ لكن الشر بالفرنسية قد يحتمل معنى الألم كذلك ” le mal” لكن أحبذ أن أقتحم معك وأحبذ هنا أن أتكلم في ميدان الفن التشكيلي. وسأخص بالملاحظات أحد أهم بل أبرز الفنانين المعاصرين لأنني اجد في أعماله وأقصد هنا الفنان عبد اللطيف الوديي بلعزيز وأبطال لوحاته التشكيلية أجد في أعماله ميزة استعصاء الوجود في مطابقته من خلال الجسد، تعرف أن عبد اللطيف جعل من الجسد الإنساني موضوع أعماله لكن ليس مطلق الجسد بل اختار عبد اللطيف الجسد في المنطقة الحاصلة بينه وبين الرغبة في تحقيقه وتحقيق معنى وجوده، الجسد كممر أساسي للإحساس، أو الجسد تلك المادة التي نمتلكها بشكل بادخ ونستهلكها في تحقيق الرغبة أو المطابقة، الجسد قنطرة بينه كشيء حسي والرغبة كإحساس هلامي، شخصيات أعماله قابعة في استهلاك الجسد بشكل رهيب بل مخيف حتى ألوانه المستعملة شفافة إلى حد يغدو معها الجسد مستنزفا مرهقا، أعماله أجساد في التهاء مطلق عن الحياة في الوقت الذي تبحث جميعها عن مطلق الرغبة، بين الرغبة المطلقة في تحقيق الحياة عبر الجسد وبين التغاضي المطلق عن الحياة في الانشغال عنها بتحقيق الرغبة تجد الأعمال التشكيلية لعبد اللطيف بلعزيز تجرك جرا إلى ازدواج زاوية النظر وتفرض لوحاته عليك استحالة استوائها مطابقة لوضع شخصيات لوحاته، إنها أعمال تقف في مناطق الظل المتناقض في العتمة الموغلة بين الجسد والشعور، وبين الألم واعتصار الجسد وطموح المطابقة، شخصيات تراجيدية ترثي غيابها لكنك تغبطها أو تلعنها إنها تتسمر في المنطقة الفارهة أو في فوهة الجسد الغريزي الحقيقي الجسد الفاغر الذي يرتق جرحا أبديا هلاميا من هنا أهمية أعماله بل سحريتها.

لقد كان عبد اللطيف بلعزيز الفنان الذي ساءل الكيميائيات التي نولدها باستهلاكنا للجسد، فنولد الشعور بالألم أو باللذة أو بالرغبة أو بالحلم، وعبد اللطيف بلعزيز ولوحاته رتَّقت الجسد في كيميائياته المتحولة المتعددة فكانت لوحاته صادمة.

‫تعليقات الزوار

1
  • Ait talibi
    الأربعاء 21 فبراير 2018 - 08:32

    Je pense Mr Aziz que ce dont vous soulevez comme thème à penser à partir des travaux du peintre Abdellatif à savoir le corps désirant correspond plus à la philosophie de Merleau Ponty sur la chaire ou le corps vivant. Je pense qu'il y a des différences profondes entre Sartre et Merleau ponty. Alors que le premier reste fidèle à la philosophie de la conscience, le deuxième déconstruit celle ci et se place à un niveau plus profond celui de la chaire

صوت وصورة
ليالي رمضان في العيون
الجمعة 29 مارس 2024 - 15:57

ليالي رمضان في العيون

صوت وصورة
شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG
الجمعة 29 مارس 2024 - 11:43 1

شراكة "تيبو أفريقيا“ وLG

صوت وصورة
احتفاء برابحة الحيمر في طنجة
الجمعة 29 مارس 2024 - 10:03

احتفاء برابحة الحيمر في طنجة

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 4

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 3

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 4

فواجع النقل المزدوج