العالم أعمى من دون شعرائه !

العالم أعمى من دون شعرائه !
الخميس 19 يوليوز 2018 - 11:52

ماذا يستطيع الشعر فعله هنا والآن؟. ماذا بمقدوره أن يضيف إلى عالم تبنى طريقة أخرى عنوانها ومحجتها: تكنولوجيا الصورة والمعلوميات، ونهجها: القوة في كل شيء.. في الاقتصاد.. في السياسة، وفي الرأي الواحد والوحيد، مما أفضى إلى العولمة مُبلَّرَة في تصدير قيم معطاة ومعلبة؟. ومن ثمة، هل يستطيع مع الإبداع عموما، أن يسهم في فك الحصار عن كوى الضوء الباقية التي تفضح الطغيان والغطرسة، وتشييء الإنسان؟.

هل بمكنته أن يلقي الحصاة، وينفذ إلى ما وراء الدوائر والأشكال، ويَسْبِر، بالتصميم والإرادة، العتمات والمجاهيل، ليرجم بالورد والعطر والندى، طيور الدم، والسماسرة، ومشعلي الحروب؟. ألا تقودنا هذه الأسئلة –بعيدا عن الإضمار والإلغاز- إلى الكلام عن رسالة الإبداع، وبالتالي، إلى مراجعة ما تكرس من مفاهيم متجاذبة متنابذة عن كيفيات وماهيات الإبداع؟، وطرق التواصل و التوصيل، وأسس التلقي والاستقبال؟.

لكن، أليس لهذه الرسالة من أقنية أخرى، ومجالات تفعيل وتصريف مختلفة، لعل أهمها الصحافة والإعلام والمقال والتعليم.؟. ثم، كيف تشكل الشعر، وانبنى وتبلور في العصور السحيقة حتى نعود إلى النشأة وإلى الطفولة البشرية !. وهل للشعر حدود إبستمية مرسومة بالطباشير، وذائقة موروثة متفق عليها، ومعايير مقعدة نركن إليها غِبَّ الخلاف والاختلاف؟. وفي الألسن والجغرافيات المختلفة كلها، ألم يعتبر الشعر الحق سحرا، وضوءا منفلتا هاربا متمنعا على القبض؟. أليس خلود الآثار الشعرية الباذخة المخترقة للأزمنة والأمكنة، تلك التي تلتمع في ليل الحضارات حداثة واختلاجا ترتعش كلما لمسناها، وتسكرنا بالطيب كلما فركناها، متأتيا من ديمومته وبحضورها، وجمرتها المتوهجة، ومائها الزغرب الدافق، وضوئها المتلألئ الملفوع في مشيمة من أثير وهواء ونور؟ !

أي رسالة بلغت تلك الأشعار فادحة الجهد والمعاناة والوحي والنحت والبناء، إن لم تكن رسالة الجمال و المحبة والخير والسلام، والرعشة الأشهق بالحياة من أجل الحياة؟ !

ومن الغريب أن تستمر كثير من الدعاوى المعطوبة –في ظني- مطالبة بالوضوح، وتقريب المأتى، والإنصات إلى الواقع المنكسر من أجل عكس نتوءاته وتضاريسه في النص، وفقا لعمود يابس، وصور تكلست بفرط الاستعمال والوطء، وبلاغة عجوز بَلْهَ حيزبون تتكئ على منسأة منخوبة ومهترئة، ولغة تهتف قبل أن تفكر، وتُبَوِّقُ بالشعار والخشب والانتصار الوهمي الاستمنائي على عدو موهوم.

يحدث هذا عندنا –في العالم العربي- ويسري التصور إياه، وذلك مكمن الخطورة –إلى مناهج التربية والتعليم، مما يترتب عنه، فصام معرفي ولغوي وفني، في آخر المطاف، وتتحدر منه: فئوية اجتماعية منقسمة متذررة تختلف في الثرثرة والميوعة، أكثر مما تختلف، في الواقع، على مشروع مجتمعي واضح أو مغبش المسالك والشعاب والأهداف؛ وتلك إحدى مطبات السياسة التعليمية، وجريرة أصحاب القرار، سدنة الماضوية والبالي والمتآكل، وأعداء التطور والانفتاح والتفاعل الحي بين بني الإنسان.

ألم ينتبه هؤلاء السدنة، إلى أن الحداثة تغلغلت فينا نحن الهاتفين بها كما تغلغلت فيهم –الكارهين لها- وإن على إيراد واستيراد ومجلبة؟. المهم أن الأمور أخذت طريقها وأصبحت ملء السمع والبصر والحياة والمعيوش، المهم أن نواصل التحديث الواعي والتجديد بعيون واسعة يقظة منتشية لا عشواء ولا مبهورة، وأن نرهف السمع، ونرهف القراءة والمتابعة لنستحق راهننا بَلْه عصرنا ووجودنا.

لقد آنَ أن يعمق الشاعر اتصاله الحميم بالعالم، بالإنسان، بالأسئلة المطروحة، بكينونته وأبعاد هذه الكينونة، بالتجارب الكونية في الفلسفة والعلوم، كما في الفكر والإبداع عموما. ذلك أن هناك تجارب بالغة الغنى والثراء والإدهاش شعرا ونثرا وتشكيلا وموسيقى. ولا يظن امرؤ أننا نقطع الحبل أو نرومه مع تجربتنا التراثية الشعرية والفكرية المضيئة، وكيف السبيل إلى ذلك، وهو دمنا ونبضنا الذي به حياتنا ؟ !

سيظل الشعر ضرورة وجودية وجمالية ما ظلت الحياة، لأنه ضؤوها، وأحد أنساغها، وبما أنه كذلك، فإن قسطا من الاعتكاف والاستغراق فيه، وإعلان المحبة والعشق له، موصل إلى التقاط رعشاته واختلاجاته، وَمُفْضٍ إلى أغواره وقيعانه حيث الوجود والذات مسطوران، والقلق العاتي مستعلن ونابح، والماء مندفق وسلسبيل. كل شعر لا يقول الوجود والقلق والحب والموت بالمعاني كلها، والأنا المشطورة المذبوحة والمتجددة، والذات في انسحاقها اليومي وتراجيديتها، مآله الخسران والنسيان في غمرة التبدلات المهولة، والإبدالات المتسارعة، والزحف الزمني. ذلك أن ما يبقى هو الجوهر في الشعر – كما لا نحتاج إلى بيان- هو الاستجابة الأولى والأخيرة لنداء الذات وإيقاعها، ونداءات الشعر وأجراسه. وإذا كان الشاعر العظيم “هولدرلن” قد قال : “إن اللغة أخطر النعم”، فقوله هذا مدعاة إلى التسبيح، وتمجيد هذه النعمة الخطيرة، والحرص –كل الحرص – على صيانتها وصونها لإمدادها بالجهد والحب والمراودة.

ثم علينا أن نتمثل قول الشاعر الخالد “رامبو” الذي أدرك باكرا عمق إضافاته للشعرية العالمية، وأدرك قيمة ابتداعه التاريخية :

“ابتدعت أزهارا جديدة ونجوما جديدة، ولغات جديدة”.

وختاما، أسوق للاعتبار والتدبر مقولة الشاعر الأوكراني فيتالي كوروفيتج :

“لقد قدر للكتاب، في عالمنا سريع التغيير، أن يكونوا عيون كوكبنا، فالعالم أعمى من دون شعرائه، وليس هناك ما هو أكثر إخافة من هذا النوع من العمى !”.

‫تعليقات الزوار

5
  • كاره الضلام
    الخميس 19 يوليوز 2018 - 12:47

    عن اي شعراء تتحدث؟ اولئك الدين باركوا و يباركون قتل الاطفال فلي سوريا و يمجدون سفاحهم، اولئك الدين عميت قلبهم و صمت ادانهم و خرست السنتهم ازاء ما يجري في سوريا من ماسي ورفضوا رؤية شيئ منها بل و اعتبروا ما وقع انتصارا للضحايا و فوزا للانسانية، هل تحدثنا عن الشعراء الحثالة الدين لم يرقوا الى درجة انسان بله الى منزلة شاعر، شعراء الطائفية و القومية و القبلية و العنصرية و الاحقاد التاريخية و العقد الشخصية ،شعراء الشعارات و اللافتات و اللغو ،العالم ازداد عمى بهم و زادوه فقدانا للبصيرة ، شعراء اقسى من السفاحين و فاقو الجلادين يريدون اكل اكباد البشر و لو بالصور و التعابير، دواعش الكلمة الموقعون بالدماء و اشلاء الاطفال و النسوة الدين تحجرت قلوبهم و تلددوا برؤية الطفل عمران و غيره و هم صامتون، ما الفرق بين الطفل احمد الدرة و الطفل عمران يا اهل الانسانية؟اليس هدا هو العمى او الحول في احسن الاحوال،كيف تكونون شعراء تضيئون للعالم طريقه و انتم عمي سود القلوب اموات الروح جلاميد قسوة و احقاد؟لقد اصبحتم عبئا على الانسانية و على الشعر معا

  • saccco
    الخميس 19 يوليوز 2018 - 14:00

    أفضل ان أنصت الى إنسان وهو يتكلم عفويا وتلقائيا لأن كلماته تخرج من صميم طبيعته وتكون مادة خام يسهل عليك ان تقترب منه وتفهم اكثر ويكون الكلام حقيقي أنساني بشري عادي
    لكن من الضجر او الارهاق ان تنصت الى شعر : كلام يغوص في الافراط ،الافراط في الاستعارات ،الافراط في التنقية والبحث المضني على إيجاد القافية لترصيف الشكل ،الافراط في تكثيف المعاني وتضخيم شكل الكلمات حتى تصبح منتوجا كيميائيا مر كزا يجب الحدر من الاقتراب منه او يصبح كتلك الدلاعة التي يتضخم حجمها وتزداد حلاوتها بفعل مواد غير طبيعية
    قد أكون فاقد شيئا ما للحساسية الشعرية لكني أفضل ان ارى وجوها طبيعية تتناغم وتتجاذب فيها صفاة حقيقية خام على ان ارى وجوها مصطنعة ومطلية بمساحيق التجميل

  • احمد
    الخميس 19 يوليوز 2018 - 14:49

    الحداثة تصور إلحادي للكون والإنسان والحياة، وليست تجديداً في فنيات الشعر والنثر وشكلياتها. وأقوال سدنة الحداثة تكشف عن انحرافهم باعتبار أن مذهبهم يشكل حركة مضللة ساقطة لا يمكن أن تنمو إلا لتصبح هشيماً تذروه الرياح وصدق الله العظيم إذ يقول: { ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً }.

  • إبراهيم المعلم
    الخميس 19 يوليوز 2018 - 16:53

    إلى sacco
    إذا أردت أن تسمع إلى الكلام العفوي والطبيعي، فما عليك إلا بالمجانين وبالأطفال الصغار فهم يتكلمون من دون عفوية وبلا تكلف ولاتنميق. أنا شخصيا لا أعرف ماذا تقصد بالعفوية؟ هل هي الكلام الملقى على عواهنه من دون إعمال للعقل؟ أم أنه الكلام العادي الذي يتحدثه الناس في المقاهي والأسواق؟
    الشعر كسائر الصنائع الأخرى تمرين صعب يحتاج من الشاعر كثير من المهارة والذكاء ومن المتلقي أذنا موسيقية تفهم وتدرك معنى الجمال، لذلك فهو ليس لقمة سائغة لكل الناس,

  • مي شاعر تو نهي
    الخميس 19 يوليوز 2018 - 18:00

    كاره الضلام

    الاستاذ يتكلم عن العالم و انت تدري ما العالم الذي يقصده طبعا ليس العالم

    المتخلف الذي فقد فيه انسانه انسانيته و عاد لا يشعر بشيء سوى الكراهية

    حتى لنفسه كاره الظلام ليس معنيا بكلام الكاتب الظلام و العماء الحقيقيين

    يطالان القلوب انت تكتب كثيرا و ليس في كلامك سوى التقريع اقترح عليك

    ان تكتب صحفا او حتى سطورا تعرض علينا فيها رؤيتك "الثاقبة"

    لمشروع النهوض لمجتمعنا نعم العالم اعمى بدون شعرائه و ليس بالضرورة

    القصد من الشعراء ناظمي القوافي و البحور و لكن القصد ايضا يعني كل

    شاعر بضرورة حضور الجمال و اعتباره في وجود الكائن البشري بالنسبة

    للعالم الذي يقصده الكاتب للجمال حضور للفنون ظهور للشعر حبور اما عالمك

    السفلي جاذبك نحو الكراهية و النذور فلا وجود فيه الا الاشتباك و النفور

    تحياتي

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش