صناعة التقاليد

صناعة التقاليد
الخميس 16 غشت 2018 - 03:33

الحلقة (1)

توطئة

“هذا من التقاليد”.. ما أن تسمع هذه العبارة من أحدهم حتى تتملَّكُك سلطةُ القديم والأصيل، وتنصرف مصدقا ومستسلما.. والحال أن الكثير من التقاليد، وفي جميع الأقطار، مُجرد صناعات حديثة، تخدم أغراض الأنظمة والأفراد.

أدعوك إلى رحلة ممتعة، تنطلق من المرتفعات الإسكتلندية لتصل إلى بلاط التاج البريطاني، مرورا بالحِقبة الرومانسية بـ”ويلز”، ثم أشبع شوقك للتَّعرف على تقاليد صُنعت بالهند الفكتورية، والمستعمرات الإفريقية.

كل هذا مع كتاب “صناعة التقاليد” (: THE INVENTION OF TRADITION) لصاحبيه (TERENCE RENGER و ERIK HOBSBAWM) من قراءاتي الصيفية هدية لقراء هسبريس.

أمثلة حية من المجتمع الإنجليزي

حينما تنتصب – لا قدر الله- واقفا أمام القضاء الإنجليزي، مُتهما بالتلصص على الإنجليز وهم يخترعون تقاليدهم البلاطية؛ فسترى قضاة بشَعرٍ مستعار (باروكات)، يستعملون أدوات في غاية العتاقة.

ومن ناحية أخرى، سيبدو لك كلامُهم نمطيا، وهم يفتتحون الجالسات ويرفعونها، ويصدرون الأحكام.

إن الشَّعر والأدوات من التقاليد؛ أما الأقوال فمن العادات. هل اتضح الفرق؟

طيب، وماذا عن الأعراف؟ إنها تتسم بالرتابة، وليست لها طقوس مقررة، ولا رمزية لها، مُقارنة بالتقاليد التي تخدم، هنا، إيديولوجية التاج البريطاني.

مثال: تقرر مجموعة من الطيارين اعتماد سلوكات معينة أثناء قيادتهم، وبتكرارها تصبح عُرفا –تقنيا فقط- ينتقل من جيل إلى آخر.

“إن التقاليد المفترضة- هنا – هي بمثابة إضفاء الطابع الرسمي والطقسي، الذي يترتب على كون الممارسة تشير إلى الماضي.. لكن المؤرخين لم يدرسوا عملية تأسيس وتكون هذه التعقيدات الرمزية والطقسية، دراسة كافية”.

طبعا ليست كل التقاليد مخترعة، إذ هناك الحقيقية التي صمدت للتطور، وحتى للثورة الصناعية؛ وهذه لا يتم استبدالُها بتقاليد مُخترعة، ما دامت تؤدي وظيفتها الرمزية.

من التقاليد الوضعية المخترعة ببريطانيا ممارسات الحركة الماسونية والابتكار الاشتراكي لتدبير عيد العمال في فاتح ماي، والمتمثل في نمط جديد من الاحتفال الصاخب المَطلَبي الذي يُعرِّض بالطقوس والرموز القديمة.

وعموما، يتم تصنيف ثلاثة أنواع من التقاليد الوضعية: تقاليد ترمز إلى التماسك الاجتماعي، تقاليد تُنشئ أوضاعا معينة أو علاقات سلطة، تقاليد تواصلية، تُرسخ المعتقدات والأعراف السلوكية وشبكات القيم.

لنترك الإنجليز مع تقاليدهم، القديمة والمخترعة، ولنتساءل: لماذا ينكب المؤرخون على دراستها؟

إنهم يعتبرونها أعراضا وأدلة تؤشر على نوعية المشاكل والتحولات المجتمعية.

– وما دام اختراع التقاليد يوظف دائما الماضي، فإن المؤرخ يعبر من خلالها.

– إن دراستها تتطلب عددا من التخصصات، يحضر فيها السوسيولوجي والإنساني، والتاريخي طبعا.

في بريطانيا، لا تخطئ عينُك تَنُّورَة المُرتفعات الإسكتلندية، ومِزمار القِرَبِ البهيج

مزمار القِرب يعتبره الإسكتلنديون أنفُسهم – وثقافتهم إيرلندية – رمزا للبداوة، يعود إلى سكان إقليم المرتفعات الفقير، اقتصاديا وحضاريا وتاريخيا. كان أغلبهم رُعاة ومشاغبين، يثيرون القلاقل في السفوح.

يكفي أن يكونوا هكذا ليبادروا، بعد الوحدة مع بريطانيا، إلى اختراع تقاليدهم وأعرافهم، وحتى تاريخهم.

مسألة تحقيق التوازن، سواء مع ساكنة السفوح من مواطنيهم، أو الإنجليز الوافدين بعراقتهم واستبدادهم.

فعلا، في القرن الثامن عشر بدأت “ثورة” خلق عادات وتقاليد خاصة بالمرتفعات، وفرضِها على الشعب الإسكتلندي برمته.

ألا ترى أن عازف القِربة يُرفق هز الأكتاف بالأنغام المتموجة. إنه التبَجح بعينه، بل تواصُلُ شَغَب المرتفعات، ثقافيا هذه المرة.

ولِم لا وهذا كاتب شهير (جيمس ما كفيرسون) يسطو على الأغاني الشعبية الإيرلندية، وينْظمها ضمن ملحَمةٍ تجري أحداثها – زَيْفا – في إسكتلندا.

وفعلت هذه الملحمة فعلَها في أروبا، فأصبحت إسكتلندا المرتفعات مصدرَ فخر، ما دامت أنتجت ملحمة لا تقل عن ملحمة “هومر”؛ كما عبرت “مدام دو ستايل”.

ها نحن الآن أما م الصورة كاملة؛ لما يمكن أن يفعله اختراع التقاليد.

حينما تنظر مرة أخرى إلى عازف القربة، فاستحضر أن ما ينفخ قربته، ليس الهواء فقط، بل أرطالٌ من التقاليد المخترعة.

وما حكاية هذه التنورة، أو “الطرطان”؛ فنحن في عالمنا العربي نعتبرها لباسا نسويا فقط.

أبدا، إنها بالنسبة إلى الإسكتلنديين من أساسيات ألبسة الاحتفال بالهوية؛ وهي بزخارفَ مربعة وألوان تُميز بين عشائرهم.

متى أصبحت تنورة “الطرطان “TARTAN PHILIBEG زيا لسكان المرتفعات؟

يبدو أنها نُقلت، في القرن السادس عشر، عن “الفلاندريين” البلجيكيين؛ لكن إذا أخذنا بعين الاعتبار كونها بشكلها الحالي – وقد أضيفت إليها الألوان المميزة في ما بعد – من ابتكار رجل إنجليزي سنة1707؛ فمن المستبعد أن تكون زيا شعبيا لسكان المرتفعات، كما يزعمون؛ لكنهم اخترعوا تقليد ارتدائها في حفلات الهوية؛ على أنها من تراثهم.

مجرد تنورة لكنها بمشاكل سياسية؛ إذ بعد الثورة الجاكوبية في 1715، منع هنري الثامن الزي الإيرلندي، ونظر البرلمان في منع التنورة. وفي النهاية، حصل الاقتناع بأن وعورة المرتفعات، وتسلق الصخور، وكثرة المستنقعات تقتضي هذا الزي؛ وقد كان قصيرا.

“بحلول عام 1746، كانت التنورة الإسكتلندية قد انتشرت بشكل كبير، إلى درجة أنها ذكرت بشكل واضح في القانون الذي أصدره البرلمان، الذي منع رداء إقليم المرتفعات”.

حَبَّاتُ لؤلؤ منفرطة من عقدها؛ هكذا تنظر منطقة “ويلز” البريطانية إلى تقاليدها

في المرحلة الرومانسية –القرن الثامن عشر – شرع العلماء “الويلزيون” في استكشاف لغتهم وتاريخهم وآدابهم؛ ليس بنية الاستعادة الأمينة، وإنما لترميم الثغرات، وإيجاد ماض أسطوري.

هكذا وُفِّق – على سبيل المثال – “إدوارد جونز” في نفخ روحٍ خادعة في الموسيقى الشعبية القديمة، والآفلة.

يُعزى انحطاط الثقافة الويلزية، بما فيها اللغة، إلأى ارتباطها بالكاثوليكية، التي بالغت في القيود، وبالرغم من التحول إلى “البروتستانتية” مع الإنجليز، لم ترتفع هذه القيود.

هل أفسد الله لغة ويلز؟ هكذا تساءل أحد الدارسين، وهو يستمع الى الناس يصنفون لغتهم إلى القديم المُباحِ الهَجْرِ والجديد الإنجليزي الأنيق.

يقول المؤرخ الويلزي هنري رولاندز: “لما سطت، مؤخرا، لغة جيراننا الإنجليز على كثير من حقوق لغة ويلز؛ بعد أن صارت هي اللغة الأرستقراطية والعصرية بيننا، أصبحت كلمات كثيرة.. غريبة ومهجورة؛ وهي التي كانت في ما سبق الزهور التي تزين لغتنا”.

أما في مجال الشعر، فيعتبر سيون دافيد، من إقليم “ميريونيث”، آخر شاعر ملاحم يلتزم بالتقاليد القديمة.

تدريجيا، أصبحت ويلز منزلا قديما وفسيحا – ترك للبوم والغربان – ذهب مُلاكه إلى إنجلترا وفرنسا، بحثا عما يمكن أن يجدوه في منزلهم بسهولة، ودون عَناء؛ على حد تعبير رجل الدين أليس واين.

تعددت حركات البعث الثقافي الويلزي، وتم إبداع قصص خيالية لأبطال ملحميين، سرعان ما صدقها الناس وتبنوها على أنها حاصلة فعلا.

نشطت سياحة الإنجليز إلى ويلز، وقد خَلقَ لها الإبداع المحلي الأسطوري كل ظروف النجاح؛ هكذا ظهرت مزارات نُسجت حولها الكثير من الأساطير.

وشيئا فشيئا، انتقلت ويلز، السعيدة بطبيعتها بموسيقاها ورومانسيتها من الاحتضار إلى التألق؛ وسرت بين الويلزيين، حيثما وجدوا، روح ويلزية انبعاثية، وكأن أرواح الأسلاف تقمصتهم من جديد.

تقاليد قديمة، عرف المخترعون من المؤرخين والشعراء والفنانين والروائيين كيف يستنبتون منها تقاليد ويلزية غير حقيقية؛ لكنها نجحت في أداء دورها الرمزي التجميعي، والاقتصادي.

قُبلةُ الموت هي هدية الإنجليز للمراسم الملكية العُظمى؛ لماذا؟

يتبع

‫تعليقات الزوار

4
  • عبدالله العثامنه
    الخميس 16 غشت 2018 - 05:10

    الأعراف والتقاليد
    ألّفتها شعوب؛ كشفت زيف تاريخهم.

  • شكرا أستاذي ...
    الخميس 16 غشت 2018 - 08:00

    … المحترم ،
    من المفيد معرفة تاريخ أمة عظيمة مثل الأنجليز لأنهم سبقوا في كثير من الطفرات ، بالعقل والحكمة وبدون هرج ومرج.
    لقد سبقوا الفرنسيين في الثورة على النظام ب 140 سنة ولكنهم أصلحوا مضمونه وحافظوا على شكله بخلاف الفرنسيين الذين استبدلوا الملكية بالجمهورية فسقطوا في اضطرابات أخرت مسيرتهم ، في الوقت الذي استطاع فيه الأنجليز تأسيس أمبراطورية لم تكن تغيب عنها الشمس.
    لم يكونوا في حاجة إلى دستور مكتوب ، إنما حافظوا على اعرافهم في الحكم وتوازناتهم الإجتماعية والإقتصادية ، حيث أنهم وقروا مجلس ( اللوردات) المعين واحدثوا مجلس العموم المنتخب.
    وها هو التاج البريطاني يتربع على كثير من الرعايا في بلدان الكومنويلت مثل كندا واستراليا ونيوزيلاندا.
    هذا الإستقرار السياسي مكن الأنجليز من السبق في انطلاق الثورة الصناعية في القرن19 .
    ومن الأمم العظيمة أيضا أمة اليابان التي تقدمت وهي محافظة على تقاليدها .
    تقة اليابانيين في الأمبراطور وتقديسهم إياه جعلهم يقبلون الإصلاحات التي قررها لربط البلاد بمحيطها الدولي في عهد مييجي تينو ، بينما رفض المجتمع المشاغب نفس الإصلاحات في المغرب ومصر,

  • احسنت يا استاذ ...
    الخميس 16 غشت 2018 - 09:08

    …بهذا الانفتاح على الثقافة الانجلوساكسونية السائدة في العالم.
    و يعتبر تجاهلها في منظومتنا التعليمية من الاخطاء الكبرى التي يجب معالجتها.
    لقد انغلقنا على الثقافة العربية الاسلامية 14 قرنا ولما ربطتنا الحماية بفرنسا اضفنا الثقافة الفرنسية المشوبة ببعض التنطع واللغط واهملنا ثقافة الانجليز المتميزة بالتعقل والتبصر والحكمة.
    لقد افرغ الفعل الاستعماري شعارات الثورة الفرنسية ( حرية اخوة مساواة ) من محتواها ،مع العلم انها تعتبر من روافد الثقافة الفرنسية.

  • سعيد
    الثلاثاء 21 غشت 2018 - 10:38

    اشكرك على مشاركتنا قراءاتك في هذه العصارة.
    أغلب الشباب وبتأثير من النط فقدوا عادة القراءة، لقد أصبح التقليد السائد هو "التحليق" ولا أقول "الابحار" لأن الابحار يتطلب نفسا طويلا لا يملكه من ترعرع في عادة تقافة التحليق بين العناوين ، وإرستل الرسائل الجوابية بلغة وكتابة ما أنزل الله بها من سلطان، حتى في اروبا نفسها لم نعد نرى الشباب كما كان عليه الحال في السابق يقرأ في قطارات الانفاق، الكل مستغل بالشات وبقراءة العناوين والتفاهات في الفايس.

صوت وصورة
احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية
الجمعة 29 مارس 2024 - 00:30 1

احتجاج تلاميذ ثانوية فرنسية

صوت وصورة
شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر
الخميس 28 مارس 2024 - 23:00 2

شهادات للتاريخ | العثماني بالجزائر

صوت وصورة
فواجع النقل المزدوج
الخميس 28 مارس 2024 - 22:15 3

فواجع النقل المزدوج

صوت وصورة
تقنين التنقل بالتطبيقات
الخميس 28 مارس 2024 - 19:55 11

تقنين التنقل بالتطبيقات

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 6

وزير النقل وامتحان السياقة