معنى مواكبة العصر؟

معنى مواكبة العصر؟
السبت 22 شتنبر 2018 - 04:30

هل معناها نبذ الدين بالمرة، كما يدّعي بعض الحداثيين زيادة، وإغلاق جميع النوافذ التي قد تصل منه رائحته؟ علما أن الدين كان منذ الأزل ولا يزال يتخذ أشكالا مختلفة من حضارة إلى أخرى. وعبر التاريخ، تعاقبت على الأرض أديان بالآلاف؛ لكن تبقى أبرزها الديانات الثلاث المعروفة، أضف إليها البوذية باعتبار عدد المتدينين بها. وطبعا، أتباع كل ديانة بأبيها معجبة، بإصرارهم المستميت على أن ديانتهم هي الأصح والأولى بالاتباع؟ هل هذا هو المقصود بمواكبة العصر، أم المفروض أن ترتبط مواكبة العصر بنبذ الفهومات الخاطئة، ونبذ كل مظاهر التخلف المرتبطة بالتدين جملة وتفصيلا؛ وهو ما يتعارض كلية مع معطيات العقل، ويعيق حركة التقدم على درب اللحاق بالأمم المتقدمة التي تملك زمام القرار عبر بلاد المعمور، وكذا نبذ أي شكل من أشكال استغلاله والركوب على قيمه السامية من قِبَل أية جهة كانت، لتحقيق مآرب سياسية أو ربحية من قبيل ما نتتبعه اليوم لدى مجموعة من المتكسبة ممن يدعون زورا أنهم يُرْقُون المصابين بسهام العيون الشريرة الحاسدة ويَفُكُّون “ثقاف” المسحورين ووصل بهم التطاول ليدّعوا علاج أمراض لا يزال الطب عاجزا عن تحليل شيفرة أسبابها ومسبباتها فبالأحرى علاجها؟ ولكن قبح الله الجهل والفقر، إذ يجدون من يعتصم بترهاتهم ويسقط في حبائلهم.

وهل مواكبة العصر هي نبذ كل العادات والتقاليد المجتمعية المرتبطة بالأفراح، كالحناء والطبلة والمزمار والعيطة وأحيدوس والركادة والطقطوقة الجبلية والهيت وغيرها مما يدخل في صميم هوية كل منطقة تفتخر به وتتشبث بممارسة طقوسه؟ وهل هي نبذ ما يرتبط بالأتراح من عادات إنسانية كتضامن نساء بعض الأحياء وتجندهن ليُعْفوا أهل الميت مثلا من إشعال النار خلال الثلاثة أيام الأولى من يوم الجنازة. للأسف، يدعو البعض باسم الحداثة إلى نبذ كل العادات والتقاليد حتى بدون تمييز صالحها من طالحها؟ أم المقصود بمواكبة العصر هو التخلص من المظاهر المتخلفة التي يثبت عليها البعض يتوارثونها أبا عن جد وكأن الزمن ثابت لا يتغير، من مثل تمزيق لحم الجديان أو الجمال وافتراسها وهي لا تزال حية في مشهد مقزز لنا نحن أهل الدار، أما غيرنا من الأجانب فحدث ولا حرج عن انطباعاتهم أثناء مشاهداتهم لمثل هذه الممارسات البشعة، مما نتتبع أطواره بين الفينة والأخرى خلال بعض المواسم؟ أم هل مواكبة العصر هي بعدد الهواتف الذكية التي يتفاخر أكثر شبابنا بامتلاكها، حتى ولو كان ثمنها لدى البعض معجونا بعرق أم مغلوبة على أمرها بالكاد توفر لقمة العيش، أو من لحم أخت اضطرتها ظروف الحياة لتمتهن أقدم حرفة في غياب أية حماية، وإن كان الأصل كما يقال في تراثنا العربي “تموت الحرة ولا تأكل بثدييها”؛ فالشباب في مقتبل العمر بدل التشمير على السواعد من أجل التحصيل الدراسي، تجدهم أمام الثانويات والإعداديات لا حديث بينهم سوى على الهواتف وما يتبادلونه من رسائل حول ما يستجد في عالم الغناء وأي غناء؟ أو ما يستجد في عالم الموضة أو الرياضة في أحسن الحالات، وإن كان حسب أكثر من استطلاع بالأرقام تتبين طبيعة المواقع التي تستأثر بالاهتمام المتزايد؟ أم هل مواكبة العصر هي ما نراه من صور لشي غيفارا بسيكاره المعروف ولحيته المنفوشة على صدور بعض الشباب تعبيرا منهم على الثورة والرفض، ناسين أن الرجل لم يعش حياة البذخ والترف أبدا، أو قضى يوما بطوله وعرضه في الثرثرة والوقوف برؤوس الأزقة والدروب من صبح الله إلى مسائه، بل استقل دراجة نارية عادية رفقة أحد أصدقائه، وهو ابن سبع عشرة سنة ليقوم بجولة طويلة جاب خلالها جل دول أمريكا اللاتينية اطلع فيها على الأوضاع المأساوية التي كان يعيشها أهاليها والأمراض المتفشية، كان يتولى علاجها بنفسه لكونه كان طالبا بكلية الطب.

ومن هناك، انطلقت جذوة النضال لديه إلى أن سقط صريعا مع ثلة من مرافقيه، بعد حياة حافلة من المواجهات في حرب عصابات ضد كل أشكال الإمبرياليات يومذاك؟ هل مواكبة العصر هي الأوشام على أذرع الشباب تفاقمت على الخصوص مع المونديال الأخير بروسيا إذ كانت من الظواهر اللافتة لدى اللاعبين؟ والغريب هو أنه كم من ظاهرة تظهر هناك لدى الآخر، سرعان ما يخبو نجمها ويتجاوزونها؛ لكن شبابنا يتلقفونها ويتشبثون بها تشبث الأعمى بعكازه، كأنواع قصات الشعر، إذ عششت عندنا وفقصت وفرخت، يزيدونها إثارة ما يضفون عليها من عندياتهم مغموسا بتوابل تخلفنا المستفحل على أكثر من مستوى. فحبذا لو واكب هذا التقليد الذي يمس الجوانب البرانية تقليد آخر على مستوى الفكر: تقليد على مستوى التحصيل العلمي، تقليد على مستوى المغامرة للقيام ببحوث في أعماق البحار والمحيطات، وقطع آلاف الأميال في الأدغال يتحمل مشاقها فتيان وفتيات على الخصوص يتنقلن ليعشن مع الأهالي هناك يقتتن مما يقتاتون، ويقضين معهم الشهور يتولون على هامش دراساتهم وأبحاثهم، القيام بتطبيب نسائهم ودراريهم أو بتقديم شتى أنواع المساعدات.

فتيات في عز شبابهن يقمن بذلك دون تردد أو ريبة من عفاريت أو جن أو خوف من الإصابة بعين شريرة تدخل الرجل القبر وتدخل الجمل القبر كما في معتقد الملايين من المسلمين للأسف الشديد. فشبابنا بدل اقتفاء أثر هؤلاء في البحث العلمي والمعرفي، تجدهم بمجرد خشخشة في مكان خال أو مظلم، ترتعد فرائصهم، وتقشعر أبدانهم ظنا منهم أنه جني سيغزو صدورهم ويسكنها أو شيطان مارد يريد بهم سوء أو عايشة قنديشة مولات الواد بشعرها الأحمر، وهلم هلوسات يتوارثونها أبا عن جد وكأنهم يتلقونها من السماء، مما يعيق حركتهم مهما أظهروا من التحرر على مستوى مظاهرهم الخارجية؟ هل نواكب العصر بـ8 ملايين و600 ألف أمي ببلدنا بنسبة 32% من ساكنة البلاد؟ فأين إسهام الشباب المتعلم في مواجهة هذه الآفة الفتاكة بالمصابين بها، يسهل على دهاقنة السياسة ممن يعرفون من أين تؤكل الكتف استقطابهم كأرقام لا غير، أو الإرهاب العابر للقارات يتم اصطيادهم بدون عناء ليكونوا حطبا لحروبهم المدمرة؟ رحم الله صدام على الأقل في هذه لما ألزم كل متعلم للإسهام في محوها بقوله “زكاة علمك تعليم غيرك”، فكانت العراق نموذجا يُحْتذى في القضاء عليها، إذ بلغت النسبة على عهده 10 %.

إن مواكبة العصر رهينة بالتقدم العلمي والتكنلوجي بتأهيل المدارس والجامعات بمستلزمات العصر، وقبلها تأهيل العنصر البشري ليكون في مستوى تطلعات الوطن في اللحاق بركب الأمم المتقدمة، ونبذ كل أنواع الخرافة والتحرر من كل ما من شأنه إعاقة عجلة التطور والتقدم.

*كاتب

‫تعليقات الزوار

2
  • زينون الرواقي
    السبت 22 شتنبر 2018 - 09:42

    هذا التشويش الذي يختزل الحداثة والعلمانية في نبذ الدين المقصود منه شيطنة الحداثة وربطها بالكفر والالحاد وكأن كلا الدين والحداثة لا يمكن لهما ان يتواجدا في نفس المكان وفوق نفس الارض .. بل هناك تعمّد لربط الدين السياسي الذي يلغ في التلوث الذي يرافق الممارسة السياسية مهما ادعت نقاءها بالدِّين كعقيدة وايمان يخص علاقة الفرد بخالقه .. فالدول التي قطعت أشواطاً على درب التقدم والتطور لم تغلق أماكن العبادة ولم تحاربها بقدر ما ركنت الدين في المعابد اللائقة بممارسته دون تلوث وغوص في قذارات السياسة .. الدول العلمانية تضمن حرية المعتقد وتمنعه عن الخوض في الشأن العام الذي يتطلب قدرات وكفاءات ابعد ما تكون عن التفاسير والاستنتاجات الغيبية وهذه الدول لم تصل الى ذلك الا بعد ان اكتوت لقرون بنيران الدين السياسي وسطوة طبقة الكليرجي والاكليروس التي سجنت العقل وأحرقت الجسد وتسيّدت خلال عصور الظلام التي يريد لها البعض ان تستنسخ عندنا …

  • KITAB
    السبت 22 شتنبر 2018 - 22:12

    الفقرة الأخيرة لخصت كل شيء عن الحداثة وإن كان الأستاذ يرى أنها لا تلغي التقاليد والعادات والفولكلور، والحداثة هي تمهيد للعلمانية أو بالأحرى العولمة التي تسعى إلى اختزال الأشياء وعمل الإنسان في قوالب جاهزة يسهل التحكم فيها ، والوقائع السياسية التي نشهدها حالياً هي في عمقها صراع النماذج، وأمريكا ومن ورائها اسرائيل تسعى لتقييد العالم وربطه بوسائل تحكمها الخاصة، لا تريد لأي نموذج أن يكون منافساً لها، ولوصولها لهذا المبتغى تسعى إلى فرض نموذجها ولا تعترف بآخر، والحداثة أخيراً هي التخلي هن هويتنا والانسلاخ من جذورنا لنكون عبيدا لنموذج آخر، وتحياتي

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الأحد 17 مارس 2024 - 22:30

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
ملهمون | تحدي محمد الخواتري
الأحد 17 مارس 2024 - 22:00

ملهمون | تحدي محمد الخواتري

صوت وصورة
فين غبرتي | حسن الصواري
الأحد 17 مارس 2024 - 21:30

فين غبرتي | حسن الصواري

صوت وصورة
تفاصيل حادث قاتل بأزيلال
الأحد 17 مارس 2024 - 20:52

تفاصيل حادث قاتل بأزيلال

صوت وصورة
التراويح  في مسجد الكتبية
الأحد 17 مارس 2024 - 20:35

التراويح في مسجد الكتبية

صوت وصورة
"حوت بثمن معقول"
الأحد 17 مارس 2024 - 19:29

"حوت بثمن معقول"