الإصلاح كل لا يجزأ

الإصلاح كل لا يجزأ
الجمعة 28 شتنبر 2018 - 19:49

ما من حكومة إلا وتجرب حظها مع التعليم في محاولة منها لإصلاح أعطابه وإنقاذه من عنق الزجاجة الذي يعلق بها منذ عقود، فترصد له الميزانيات المهمة مع ما يصاحبها من جعجعة إعلامية ضخمة (البرنامج الاستعجالي نموذجا التهم لوحده 34 مليار درهم)؛ لكن سرعان ما ينقشع الضباب، تتبخر الميزانيات، وتتغير الوجوه وتبقى دار لقمان على حالها، فلا الميزانيات يعرف مصيرها، ولا المدرسة راوحت مكانها، إذ لا يزال الجسم التعليمي تنخره حزمة من الاختلالات تعيق حركته، كما ورد في آخر تقرير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي قدمه رئيسه نزار بركة بين يدي جلالة الملك.

فلا نزيف الهدر توقف، مئات الآلاف يغادرون المدرسة سنويا دون أن يكتسبوا الحد الأدنى من التعليم ليلتحقوا مباشرة بفيلق الأمية الأبجدية، دون الحديث عن الملايين ترتكس في الأميات الأخرى التكنولوجية والمعلوماتية والقانونية والسياسية والثقافية وغيرها.. ولا وجدت معضلة الاكتظاظ طريقها إلى الحل، على الرغم من سياسة التعاقد على عِلَّاتها التي لم يستقر وضعها بعد.. ولا عُمِّم التعليم الأولي على كافة المدارس بربوع المملكة، إذ تعترض تنزيله جملة معيقات منها الحجرات والخصاص في العنصر البشري.. ولا تحسن مستوى التلاميذ في اللغات ولا في المواد العلمية والرياضيات على الخصوص، ولا حَسَّن تعليمنا العالي شيئا من ترتيبه على سلم الجامعات العالمية يزيد طين بلته الغسيل الذي ينشر بين الفينة والأخرى، إذ أصبحت الشواهد تخضع للبيع والشراء كما تابعنا تفاصيله على مواقع التواصل كما لو أننا في سوق من الأسواق الشعبية بكل عناصره الأساسية، فيه الباعة والمشترون والسماسرة والوسطاء و”الشناقة”، هذا ما ظهر وما خفي أعظم أو كما قال أحدهم يوما “الماستر وما ستر”.. وللأسف ماستر في القانون يعرض للبيع في المزاد العلني، إلى غير ذلك مما ينخر جسمنا التربوي التعليمي.

ألم يحن الوقت بعد لنتساءل عن مكمن الداء، وعن سبب عدم جدوائية أية مبادرة على درب الإصلاح، على الرغم من التغيير الذي طال أكثر من مقرر، وعلى الرغم من المبادرات النوعية من قبيل مليون محفظة وبرنامج تيسير، وعلى الرغم من الطلاء الذي نعمت به أكثر من مدرسة؟ فأين الخلل إذن، خاصة أن الحال لا يزداد إلا استفحالا بطفو ظواهر أخرى غريبة ذات طابع جرمي كارتفاع حصيلة الاعتداءات المتكررة على الأساتذة والأستاذات وصل بعضها إلى ردهات المحاكم، وإن كان المشكل تربويا بالأساس، لن تجدي المقاربة الأمنية لوحدها في قطع دابرها. فكيفما كان الحال إنهم أطفال قاصرون لا يحسبون خطواتهم ولا يقدرون العواقب قدرها، هذا في حالة ما إذا كانوا في حالتهم الطبيعية أما لما تدخل المخدرات على الخط فتلك قصة أخرى أكثر تعقيدا.

أعتقد أنه حتى لو أتينا بأرقى المناهج التعليمية في العالم (فنلندا مثلا التي لا يزيد عدد ساعات تعليم أطفالها على عشرين ساعة في الأسبوع)، فلن يكون حظها أحسن حالا مما تم اعتماده، ولكانت النتائج أبسط بكثير من المتوقع، وأقل بكثير من الميزانيات التي ترصد لها. لماذا؟

فالتعليم لو كان قطاعا معزولا في كبسولة محكمة الإغلاق في قاع أحد المحيطات، لا علاقة له بغيره من القطاعات الأخرى، لهان أمر إصلاحه في أوجز وقت، وبأبسط جهد، وبأقل تكلفة، وذلك بتغيير بعض قطع غياره وتنطلق عجلته في الدوران؛ لكن القطاع ليس كذلك، أولا إنه في علاقة جدلية مع بقية القطاعات الأخرى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ثم هل يستقيم أن نتحدث عن التعليم بدون باستحضار أركانه الأساسية مجتمعة: تلميذ، فضاء مدرسي، أستاذ، مقررات.

وكما لا يخفى، فتحت كل عنصر من هذه العناصر الرئيسة، تندرج مجموعة من المكونات لا يمكن بأية حال إغفالها. فهل يمكن الحديث مثلا عن التلميذ بمعزل عن أسرته التي تحضنه وعن حيه الذي يقضي فيه جل وقته مع أبنائه، وعن قريته أو مدينته، ولما نذكر الأسرة هل يستقيم الحديث عنها دون الحديث عن واقعها بسلبياته وإيجابياته، بتحضره وبتخلفه، وقبل هذا، هل يمكن إغفال تأثير وسائل الإعلام السمعي البصري بما بات يقصف به الملايين ليلا ونهارا بمسلسلاته الفارغة من أي محتوى اللهم إلا إغراق البسطاء في التفاهات وسجنهم لسنوات في تتبع حلقاتها التي لا نهاية لها تركية أو مكسيكية أو غيرها. لقد أضحت لها مسؤولية كبيرة في تشكيل العقول وخاصة لدى الشباب، إذ أصابت دور الآباء في مقتل، وجردتهم من أدوارهم التربوية بما أنها هم أنفسهم سقطوا صرعى في حبائلها.

ولما نتحدث عن الأستاذ هل يستقيم أن نقفز على وضعه الاجتماعي واستقراره وتكوينه ومدى رضاه عن مهنته، وسلامته النفسية وراحتها، ومؤهلاته التربوية والتعليمية وتحيينه لمعارفه. فعادة لما تقوم قيامة أي إصلاح، فنسمع عن مكاتب الدراسات الأجنبية بالملايير، وفتح القنوات لاستقبال الاقتراحات، والاجتماعات الماراطونية بردهات الوزارة الوصية، وإعداد التقارير، وإيفاد اللجان للقيام بجولات مكوكية عبر العالم، تشمل كل القارات بهدف الاطلاع على التجارب الكونية في مجال التعليم الحيوي، مع ما تتطلبه كل عملية من تعويضات خيالية عن كل دقيقة وثانية، فضلا عن تعدد الجهات المسؤولة عن القطاع على رأسها المجلس الأعلى للتعليم برلمان القطاع، وكذا الوزارة الوصية، واللجان البرلمانية المختصة، وفي الأخير “يتمخض الجبل ليلد فأرا” على سبيل المجاز، لما يتم اختزال العملية الإصلاحية برمتها في استبدال مقررات ومناهج بأخرى لا تختلف عن سابقاتها سوى في بعض العناوين وأغلفة الكتب، أما المضامين فخبرها عند الممارسين الذين يعرفون “خروب بلادهوم” جيدا، يوازي ذلك طبعا سيل من المذكرات شديدة اللهجة تهم الأساتذة والأستاذات “الحويط القصير” بالدرجة الأولى عن الزمن المدرسي والمردودية في غياب تام للتكوينات اللازمة للأطر التعليمية في إطار مواكبة المستجدات التربوية.

أعتقد أن إصلاح منظومة التعليم لا يمكن أن تتم ما لم يكن الإصلاح شاملا لكل القطاعات، إذ كيف يتصور أن يؤتي الإصلاح أكله مع أطفال ينحدرون من أسر معوزة ضمن الخمسة ملايين تحت عتبة الفقر، بالكاد يجدون ما يسدون به رمقهم، ويجدون ما يسترون ب عوراتهم؟ وقس على ذلك الأطفال في وضعية إعاقة، والأطفال في وضعية صعبة، المتخلى عنهم، والأطفال من آباء يعانون من انفصام الشخصية وعاهات نفسية دون الحديث عن الأمراض العضوية، وأطفال التفكك الأسري وغيرهم مما يعج بهم المجتمع.

فأي إصلاح يمكن تحقيقه في ظل هذه الظروف الصعبة والقاسية؟ فالإصلاح كل لا يتجزأ، إما أن يكون شاملا أو لا يكون. لذلك، فالخطب الملكية لا تفتأ تركز على كل القطاعات إدارة، تعليم، سياسة، اقتصاد، تنمية، بلغة مباشرة شديدة اللهجة، بما أنها في علاقة متداخلة ومتشابكة فيما بينها، لا يمكن بأية حال إصلاح بعضها في غياب إصلاحها مجتمعة.

*كاتب

‫تعليقات الزوار

1
  • الايديولوجيات افسدت ...
    السبت 29 شتنبر 2018 - 14:37

    … التعليم .
    لقد سبق ان انتجت المدرسة العلمانية الفرنسية التي ادخلتها الحماية الى المغرب نخبة متعلمة استفاد من كفاءاتها المغرب بعد الاستقلال.
    ولكن بعد الاستقلال تم تعريب المدرسة و اسلمتها فالتهمت مواد العربية والتربية الاسلامية النصيب الاكبر من الوقت المدرسي على حساب المواد العلمية والتقنية.
    الاصلاح يقتضي التعليم باساليب التنشيط والترفيه وتخصيص النصيب الاوفر من الوقت للعلوم التي لا يختلف على صحة قواعدها اثنان وتلقينها باللغات التي تنتجها منذ الابتدائي.
    كتلقين المعلوميات والانترنيت بالانجليزية منذ الروض.
    يجب تمكين الطالب المغربي من ثلاث لغات على الاقل ليستطيع المنافسة على الصعيد الدولي.
    الغريب هو ظهور اصوات تريد فرض الدارجة والتيفيناغية في عصر العولمة والانترنيت ووسائل التواصل الجماعي.

صوت وصورة
اعتصام ممرضين في سلا
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 19:08 1

اعتصام ممرضين في سلا

صوت وصورة
وزير الفلاحة وعيد الأضحى
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 17:34 24

وزير الفلاحة وعيد الأضحى

صوت وصورة
تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:12 3

تكافؤ الفرص التربوية بين الجنسين

صوت وصورة
احتجاج بوزارة التشغيل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 16:02 3

احتجاج بوزارة التشغيل

صوت وصورة
تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 15:15 4

تدشين المجزرة الجهوية ببوقنادل

صوت وصورة
المنافسة في الأسواق والصفقات
الثلاثاء 16 أبريل 2024 - 13:19

المنافسة في الأسواق والصفقات