مع البروفيسور إدوارد سعيد، في الاستشراق

مع البروفيسور إدوارد سعيد، في الاستشراق
السبت 6 أكتوبر 2018 - 23:55

الحلقة الأولى

توطئة

إن التهافت الغربي الكبير على كتاب “الاستشراق” وترجمتَه إلى عشرات اللغات تقابلُه، مع الأسف، محدوديةٌ كبيرةٌ في الإقبال عليه من لدن القارئ العربي العام.

لقد ظل الكتاب سالف الذكر، منذ ترجمته المتأخرة إلى اللغة العربية، حَبيسَ الدوائر الأكاديمية؛ وهذا مُستغربٌ جدا، لأن الشرقَ، موضوع الاستشراق، هو شرقُنا نحن؛ فكيف لا ينْتَشر بيننا هذا الكتابُ المِفْصَلي، الانقلابي؛ الذي يدفع في اتجاه نهضَة معرفية شرقيةٍ إسلامية، تتحدثُ هي عن نفسها، بدلَ ترك الآخر، المُغرض، يفعل ذلك؟

وأقدم في الآتي قراءة على حلقتين لكتاب “الاستشراق- المفاهيم الغربية للشرق”، تأليف البروفيسور إدوارد سعيد، ترجمة د محمد عناني، دار بنجوين العالمية.

مجرد المعرفة بمصر، تبرر احتلالها: آرثر بلفور

نحن الآن في يوم 13 يونيو 1910؛ يقف في مجلس العموم البريطاني رجلٌ داهيةٌ؛ برلماني عَرِكته السياسةُ زمَنا، وتقلد عدةَ مناصب سياسية مرموقة سابقا.

قضيته اليوم لا تخرج عن كل قضاياه الاستعمارية: تنبيهُ الحكومة إلى تَمَيُّز المشاكل التي تعترض احتلالَها لمصر- منذ1882- عن مشاكل بقية مستعمراتها؛ وفي الوقت نفسه الردُّ على النواب الذين كانوا يرون ألا فائدة من وجود بريطانيا في مصر؛ وخصوصا النائب الذي وجَّه إليه السؤال المحرج الآتي: “بأي حق تتخذون مظاهر الاستعلاء والتفوق، إزاء الشعوب التي اخترتم أن تسموها شرقية؟”.

بعد أن يؤكِّد أنه يعرف جيدا حضارة مصر، الموغلة في التاريخ؛ والتي كانت تعيش شبابَها الحضاري، حينما كان الجنس الذي ينتمي إليه، هو، يعيش في ما قبل التاريخ؛ ينفُذ إلى عُمق فلسفته الاستعمارية؛ حيث يربط تلقائيا – بمنطق استعلائي غريب -بين المعرفة والسلطة؛ تبريرا لوجود بريطانيا في مصر: نحن نعرف حضارة مصر جيدا، وهذه المعرفة تخول لنا الوجود هناك، مُسيطرين على ما نعرف؛ وتفرض علينا أن نرفض استقلال ما نعرف عنه كل شيء.

نعم بهذا المنطق الاستبدادي الذي رتَّبه الاستشراقُ تصبح مجرد المعرفة بمصر مُبررة لاحتلالها؛ وهذه المعرفة عند بلفور هي مصر في حد ذاتها؛ أما مصر كما هي في الواقع فلا تهمه.

هذا المنطق متبادل بينه وبين اللورد كرومر، القنصل العام البريطاني بمصر، الذي يؤكد على حتمية انتاج المعرفة للسلطة: إن المعرفة بالأجناس المحكومة، أو بالشَّرقيين، هي التي تجعل إدارةَ شؤونهم يسيرةً ومُربِحة؛ فالمعرفة تأتي بالسلطة، وزيادةُ السلطة تتطلب زيادةَ المعرفة؛ وهكذا دواليك في جدليةٍ من المعلومات والتَّحكُم تزداد فائدتها باطِّراد”.

ويواصل بلفور حِجاجَه باعتبار وجودِ بريطانيا في مصر خَوَّل لها، لأول مرة في تاريخها، حُكما ذاتيا، يقطع كلية مع الاستبداد. وعليه، فالسلطةُ التي أنتجتها المعرفة تشتغل لصالح مصر والمصريين. ويُوسع هذا أكثر وهو يعتبر أن وجودَ بريطانيا في مصر فيه فائدة لكل الغرب المتحضر. ويصل إلى ذروة الاستعلاء، مستندا إلى الطرح الاستشراقي الأكاديمي؛ حينما يُقرر بأن مصر الحقيقية هي التي تبدأ مع الاحتلال البريطاني؛ وهذا واضح من تعريفه لمصر بكونها “البلد الذي احتلته انجلترا، وتحكمه الآن”.

هكذا نلاحظ، أنه ينقلب حتى على منطلقاته، حيثُ يُقر لحضارة مصر بالعَراقة. إنه “انقلاب السياسة المغرضة على العلم؛ هكذا يشتغل الاستشراق”، كما استنتج إدوارد سعيد.

صورة الشرق، هي ما نرسمه نحن لفائدتنا

هذا مخطط غربي قديم جدا، يرتد إلى اليونان والرومان؛ ونقتصر هنا – كمثال – على نموذج “الكوميديا الإلهية”، لدانتي؛ حيث يَتمُّ رسم صورة للشرق، من مُنطلق مسيحي استعلائي، يضع فيه المؤلفُ كلَّ من خالف عقيدته في حلقة من حلقات النار العشر.

بالنسبة إلى الإسلام يُقرر هذا المصيرَ حتى لنبينا صلوات الله وسلامه عليه، ويضيف شخصياتٍ فكرية وسياسية أخرى: ابن سينا، ابن رشد وصلاح الدين الأيوبي. ويقرر هذا المصير أيضا لـ: أفلاطون، سقراط وأرسطو، وإن كان في مرتبة من جهنم أرحَمَ، لجهلهم بالدعوة المسيحية. إنه الإيمانُ المسيحي في مواجهة الآخر الكافر؛ وخصوصا المسلم.

هكذا ابتدأ الاستشراقُ القديم؛ قبل أن يخرج عن هذا الإطار لخدمة أغراض سياسية دنيوية.

قبل أن يشرع الاستشراق في إنتاج الصور التي يريد، أنتج أدواتِه، لغتَه، بلاغتَه، واستعاراتِه؛ حتى استوى –كالسِّحر والأساطير – عالما مُغلقا، ما أن ينتج الصورة حتى يبتلعها، ولا يكون لها وجودٌ خارج مقولاته.

وصولا إلى هنا نكون إزاءَ حالة سيكولوجية مرضية، سببُها الاستعلاءُ؛ أكثرَ من كوننا إزاء عِلم بمناهجه وأدواته.

من حقي أن أرسم لك الصورة التي أريد، وليس صورتَك الحقيقية؛ ويجب عليك أن تعترفَ بألا صورة لك خارج ما رسمتُه لك.

هل هذا علمٌ، أم حالةُ هذيانٍ حضارية؟

“إن المستشرق يجعل عملَه ينصب دائما على تحويلِ الشرق من شيء إلى شيء آخر: وهو يفعلُ هذا من أجْله، ومن أجل ثقافتِه، بل ويعتقدُ في بعض الأحيان أنه من أجل الشَّرقي. وهذا التحويلُ يتسم بالانضباط، فهو يُدَرَّسُ للآخرين، وله جمعياتُه الخاصة، ومجلاَّته الدورية”. إ. سعيد. ص:135.

اكتَست هذه المعاييرُ الغربية طابَعا خاصا في ما يتعلق بالإسلام والمسلمين؛ فعلى الرغم من أن الاستشراق امتد إلى شعوب خارج الخريطة الإسلامية –الشرق الأقصى- فإنه في مواجهة الاسلام ابتكر أعتى مناهجه وأدواته وصوره، لاعتبارات منها:

الاحتكاكُ الجغرافي الذي ظل مصدر رعب للغرب. اعتبارُه، في نظره، مجرد مروق عن اليهودية والمسيحية. ويضاف إلى هذا قضاؤه على الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية.

وباختصار شديد، يتعلق الأمرُ بصراع بين نِدَّين بقُوتين متكافئتين، تنتمي إحداهما للماضي – تعاقبُ عليها حاضرا – ولا طموح لها اليوم في منازلة الغرب؛ وتنتمي الأخرى إلى الحاضر، وكلُّها تَحَفُّزٌ وعُنفوانٌ للسيطرة على الآخر.

طبعا يمر كل هذا عبر انضباط صارم للطرح الاستشراقي –مهما تباينت أمم الغرب، اليوم واختلفت في قضايا أخرى-وعبر مراكز بحث أكاديمية وجمعيات ومجلات .

ويبقى أخطرُ سلاح في معارك الاستشراق هو بعضُ أبناء الشرق أنفسِهم، الذين تغربوا؛ حتى لم يعد لهم وجودٌ خارج الصورة التي ارتضاها لهم الغرب.

إن الشرق محظوظ، باكتشافِنا له

تستند التيارات الفكرية التي تحكمت في الاستشراق إلى عناصر أربعة: التوسُّع، والمواجهة التاريخية، والتعاطف، والتصنيف.

نتوقف هنا عند التصنيف، الذي سيتحكمُ في إفْرادِ الانسان الشرقي بصفات مُحددة – حقيقية أو متخيلة- لقَولبتِه ضمن نمط مُتخلف، يحتاج إلى إعادة التشكيل والتطوير.

لقد ابتدأ التصنيف علميا صرفا، واشتغل على النباتات والكائنات؛ لكنه وسَّع اشتغالاتِه وصولا إلى تصنيف الإنسان، فِسيولوجِيا وأخلاقيا.

من هنا، مقولات: نمط الإنسان الفطري، الآسيوي، والأوروبي.

ومن هنا أيضا: وصف الأمريكي بأنه أحمرُ، سريع الغضب، منتصبُ القامة؛ والآسيوي بكونه أصفرَ، كئيبَ المزاج مُتصَلِّب القامة؛ والإفريقي بأنه أسودُ اللون، بليدُ الطَّبعِ، متهاونٌ ومُنحَلٌّ. طبعا ما قال علماء التصنيف بهذا إلا ليجعلوه قَدَرا وراثيا يتحكم في الأجناس البشرية، يرفع من شأن هذا الجنس (الأوروبي، الآري)، ويزري بالآخر (الشرقي، الإفريقي).

وانقلب مفهوم السلطة الاستعمارية لتصبح خلاصا للأجناسِ المُصنفة بدائيةً ومُتخلفةَ.

“كان المستشرقُ الحديثُ يرى نفسَه بطلاً، يُنقذ الشرقَ من العَتَمة والاغتراب والغرابة؛ ويرى أنه هو الذي نجَح في ادراك ذلك؛ فبُحوثُه أعادت تكوينَ ما فُقِدَ من لغات الشرق، ومِن أخلاقِه وطرائقِ تفكيره، مثلما أعادَ شامبوليون تكوين الحروف الهيروغليفية من حجر رَشيد.” إ.سعيد: 209.

مَثلت حملةُ نابوليون على مصر- م1798، 1801- الخبرةَ الميدانية الأولى لهذا الاستشراق الحديث؛ وقد برز روادُه المؤسسون: رِينان، دوساسي، ولِين.

وفي تفاصيل الحملة نماذجُ من إبهار المِصريين بمنتجات العلم، المدنية والعسكرية؛ وعلى رأسها الطباعة.

بدءا من إحياء اللغة القديمة الميتة، ووصولا إلى إعادةِ بناء كل الشرق القديم المُهمل؛ لم يكن كل هذا إلا لتذليل السبل صوب الاكتساح الشامل للشرق، وحضارته.

يتبع

‫تعليقات الزوار

2
  • أحمد العمراوي
    الأحد 7 أكتوبر 2018 - 11:21

    تحليل عميق يدفعنا لإعادة قراءة كتاب الاستشراق لتعميق
    السؤال الجوهري : من نحن ومن الآخر
    شكرا للصديق مصباح

  • Citoyenne du Monde
    الإثنين 8 أكتوبر 2018 - 21:45

    Il faut reconnaître que les stéréotypes ne viennent pas du vide. C'est tout simplement l'image de la majorité qui est projetée sur toute la communauté. Regardez autour de vous, monsieur!

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 2

الأمطار تنعش الفلاحة

صوت وصورة
حاجي ودمج الحضرة بالجاز
الخميس 28 مارس 2024 - 12:03

حاجي ودمج الحضرة بالجاز

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 3

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس