مع البروفيسور ادوارد سعيد في الاستشراق

مع البروفيسور ادوارد سعيد في الاستشراق
الأربعاء 10 أكتوبر 2018 - 18:20

(2)

توطئة:

إن التهافت الغربي الكبير على كتاب الاستشراق، وترجمتَه إلى عشرات اللغات، تقابلُه، مع الأسف، محدوديةٌ كبيرةٌ في الاقبال عليه من طرف القارئ العربي العامِّ. لقد ظل، منذ ترجمته المتأخرة إلى اللغة العربية، حَبيسَ الدوائر الأكاديمية، وهذا مُستغربٌ جدا، لأن الشرقَ، موضوع َالاستشراق، هو شرقُنا نحن؛ فكيف لا ينْتَشر بيننا هذا الكتابُ المِفْصَلي الانقلابي الذي يدفع في اتجاه ِنهضَة معرفية شرقيةٍ إسلامية تتحدثُ هي عن نفسها بدلَ ترك الآخر المُغرض يفعل ذلك؟

وأقدم في الآتي الحلقة الثانية من القراءة.

لِنميز الآن بين الاستشراقِ القديم والاستشراقِ الحديث:

حتى عصرِ النهضة الأوروبية لم يكن الاستشراقُ يعني شيئا آخر غير التخصص في لغات أقاليم الكتاب المقدس، ومن رُواده “ايرينْيوس” و”غِيوم بوستيل”.

هذا الأخير كان “يتفاخر بأنه يستطيع أن يَعبُر قارة آسيا، حتى يصل إلى الصين، دون أن يحتاج إلى مترجم”، (ا. سعيد: ص111).

منطلق الاهتمام بلغات الشرق، وبالتالي ما يُعتبر في الغرب استشراقا رسميا، يعود إلى صدور قرار مجلس كنائس مدينة “فْيِين” الفرنسية: 1311م. نص هذا القرار على إنشاء كراسي الأستاذية لعددٍ من اللغات الشرقية.

أما من ناحية الحدود الجغرافية، حيث يظهر الشرق والغرب ككِيانين مُتميزين، فأمر ضارب في عمق التاريخ: يعود، ثقافيا، إلى ملحمة الالياذة. يحضر هنا بقوة، طبعا، الرحالة والإخباري “هيرودوت”، كما تحضر كل فتوحات الإسكندر الأكبر في الشرق.

مع نهاية القرن الثامن عشر، بدأ الاستشراقُ الحديث، مُخلفا وراءه الهاجس الديني الذي انبنى عليه الاستشراق القديم.

اعتبارا لمؤثرات عصر الأنوار سيَنحو الاستشراقُ الحديث صوب العَلمانية؛ بمعنى حضور الدُّنيوي في أعمال المستشرقين، مُمَثَّلا في التركيز، ليس فقط على ديانات الشرق، وبصفة خاصة الإسلام، وإنما على منظومةِ القيم، العادات والتقاليد، الإنتاج الفكري والأساطير.

من حيث توزعُ الاهتمام الأكاديمي بالاستشراق، تحتل فرنسا مركز الصدارة التاريخية.

ثم تلاحقت باقي الدول: ايطاليا، بريطانيا، ثم ألمانيا.

وكما تَخلَّص الاستشراق الحديث، تدريجيا، من تأثير الكتاب المقدس، سينحو تدريجيا أيضا صوب صناعة الشرق الذي يريد الغرب، تمهيدا لتحرك الجيوش الاستعمارية.

“سِلفِسْتَر دي سَاسِي” رائد الاستشراق الحديث:

لا يمكن أن تظل مقاربتُنا للاستشراق عامة فقط؛ أي تتحرك أفقيا عبر عدد من العناصر والأسماء، دون التركيز العمودي على شخصية وازنة من شخصياته تشتغل مرآة عاكسة تكشف لنا عن تحول جوهري في مفهوم الاستشراق، وتكشف أيضا عن الجانب التعليمي الذي رسَّم مناهج واضحة وصارمة لكل مُقبل على التخصص.

“سلفستر دي ساسي” هو هذا الرقم الصعب الذي لا يمكن أن نمر عليه مرور الكِرام.

وُلد بفرنسا سنة 1757، ونشأ نشأة دينية كاثوليكية، بدءا من تمدرسه الخاص بدير “بندكتي” حيث أقبل على اللغات الشرقية، وقد ركز بصفة خاصة على العربية؛ إذ أدرك أنها بابه المشرعة على الشرق ولغاته.

لقد شكل دي ساسي، في فرنسا وقتها، سلطة لغوية عربية: فهو أول معلم للغة العربية بمدرسة اللغات الشرقية (1769).

في 1806 رُشح لمنصب الأستاذية بـ”كوليج دو فرانس”. شغل منذ 1805 منصب المستشرق المقيم بوزارة الخارجية حيث ترجم العديد من بيانات الجيش الفرنسي.

حينما احتلت فرنسا مدينة الجزائر سنة 1830، أصدرت “الإعلان العام للجزائريين”، وقد أوكلت ترجمته، طبعا، إلى دوساسي. كما أصبح مستشارا في الخارجية.

ورغم هذا الحضور السياسي الوازن، فإن ما صنع شهرتَه، ورسَّخه مرجعا في الاستشراق الحديث، هو أداؤه الأكاديمي الذي تمثل في تجميع كَمٍّ هائلٍ من النصوص الشرقية، وترجمتِها، وتصنيفِها وتبويبها.

يضاف إلى هذا جهدُه المتواصل من أجل إرساء مناهج وطرق تعليمية وتقاليد بحثية أكاديمية.

إضافة إلى هذا، يعتبر دو ساسي أولَ من ربط الاستشراق كعِلم بالسياسات العامة للدول.

وباختصار شديد: “كان رائدا يدرك ما يفعل، وكان… يكتب ما يكتب مثل كاهن أصبح عَلمانيا، فأصبح الشرق مذهبه الديني، وطلابه رعايا كنيسته”، (ا.سعيد:214).

“جاكْ فارْدَنْبُرْغْ” يكشف مَدَى عداءِ الغربِ للإسلامِ:

في موضوع الاستشراق يُشكل الإسلام قُطب الرَّحى، ومن هنا تخصيص هذه الفقرة لمستشرق بارز قيل في دراسته، وهي بعنوان: “الإسلام في مرآة الغرب”: “إنها تتميز بقيمتها البالغة، وذكائها الخارق”، (ا.سعيد).

يجتمع في هذه الدراسة، المتسمة بالموضوعية، ما تفرق هنا وهناك من حجج دامغة على أن الاستشراق، وهو يناصب الإسلام عداءً كبيرا، أطاح بكل ادعاءات الصرامة المنهجية، والعلمية.

ركز “فاردنبرغ” على خمسة من جهابذة الاستشراق، هم: “جولد تسيهار”، “بلاك ما كدونالد”، “كارل بيكر”، “سنوك هرجونيي”، والمشهور جدا “لويس ما سينيون”. وتمكن من دحض العديد من أطروحاتهم حول الإسلام، حتى وهم يظهرون، أحيانا، بمظهر المُقدر للفكر الإسلامي ونصوصه.

تعتبر دراسة “فاردنبرغ” مرجعا مهما في نقد الاستشراق. وتبقى أهم نتائجها البارزة، الكشف عن كونهم كانوا يشتغلون وفق نهج واحد، ولتحقيق أهداف استشراقية استعمارية، خططوا لها جميعا، وتكاملوا في تحقيقها. (ص:328).

صُوَرُ العربِي في الثقافةِ الشعبية الأمريكية:

وراء الصورة النمطية التي تروج في الذهن الأمريكي، حيث يظهر العربي شيخًا بجانب مِضخة بترول وبملامحَ لا يمكن إبداعُ أفضل منها، حينما يتعلق الأمر بتصوير المكر والخُبث، لا يكْمُن–كصانع ومنتج-العقلُ الاستشراقي الأكاديمي، كما مر معنا ونحن نتحدث عن الاستشراق الأوروبي، القديم والحديث، وإنما مجردُ ظلاله، وتَمَثلاتُه الأشد سطحية.

“لقد أصبح الشرق، في أعقاب الحرب العالمية الثانية مُباشرة، قضيةً إدارية، أو مسألة خاصة بالسياسات الأمريكية، لا قضية عامة شاملة، على نحوِ ما كانَهُ الشرق، بالنسبة لأوروبا، على امتداد قرون طويلة. وهكذا دخل الساحةَ عالِم الاجتماع والخبيرُ الجديد؛ وهما اللذان تكفلا بحمل لواء الاستشراق”، (ا.سعيد).

حتى الاهتمام بلغات الشرق لم يعد تخَصُّصا أكاديميا يوكل للجامعات والمعاهد، بل شأنا عسكريا مَوكولا للجيش الأمريكي يوظفُه وِفق متطلبات سياسته في الشرق.

يكفي هذا لنخمن حضورَ الصراع العربي الإسرائيلي في تحديد زوايا نظرِ رجل الإدارة الأمريكي، إضافةً إلى حضور الثراء العربي الذي لا يثير أكثرَ من الشهية الأمريكية، وما يستتبع ذلك من مخططات اقتصادية وعسكرية لامتصاص هذا الثراء.

نتيجة لهذه السياسة البْراغْماتية، ضيقة الأفق، أصبح فرسانُ الساحة الاستشراقية غير فرسانها بالأمس.

لقد أوكِلت الأمورُ كلُّها، بما فيها المراكز المهمة في مؤسسات صنع القرار السياسي، إلى مجرد خبراء محدودي التخصص، في ابتعاد كبير عن مفهوم الاستشراق.

ويتَكرَّس هذا المنحى التقهقري للاستشراق بانحسار كبير للوجود الانجليزي والفرنسي في الشرق.

6.ادوارد سعيد.نفسه.ص:

‫تعليقات الزوار

6
  • Omar
    الخميس 11 أكتوبر 2018 - 10:54

    En plus de ce qui est avancé plus haut jáimerai ajouter quelques details de ce grand ouvrage qu´est Orientalisme toujours selon Edward Said.
    A-) La conference de Berlin 1884 d´où l´idée imperialiste de la mission civilisatrice,car l´imperialisme en plus des enjeux geopolitiques ,économiques lún de ses objectifs est d´exporter une civilisation ,une culture soit une autre forme d´être..
    B-)Selon Edward l´Orient a été orientalisé dans le sens où en premier lieu ont été creés les images et en une deuxième étape cet orient à l´aide de toute la machine coloniale a été obligé à entrer dans la photo .
    C-) Dans son épilogue d´une édition posterieure Edward Said a laisse´bien claire que `atravers de Orientalisme il ne defendait en aucun moment ni l´islam etant son etude etait centrée sur le même Orientalisme .ses mecanismes ..etc

  • Omar
    الخميس 11 أكتوبر 2018 - 11:06

    Dans la première partie de cette presentation , en relation avec LA DIVINA COMEDIA juste avertir sur un étude d´un certain Miguel Asín qui vers les années 20 du ciecle dernier avait une thèse sur l´origine dans Hadiths relatifs al israa /Miaraj

  • عين طير
    الخميس 11 أكتوبر 2018 - 12:28

    عداء الغرب للإسلام من عداء اليهودية المسيحية للإسلام، وقد بلغ هذا العداء شأوه في زمننا. ففي عز الحملة الإنتخابية الرئاسية الفرنسية لعام 2012، أثارت زعيمة الحزب اليميني المتطرف سجالا مدويا واسع الإنتشار، انتقدت فيه طريقة الذبح الإسلامية على أنها مؤذية للذبيحة – يا لها من رحمة !- مع أن المشرفين على الصحة الغذائية يؤكدون أنها طريقة سليمة لا تنقل الجراثيم ولا تغير من ذوق وطعم اللحوم البيضاء التي دار حولها السجال، على اعتبار أنها تهيمن على السوق الغذائية، وقدمت معطيات مغالطة حول عددها، والحال أن السجال كله يكشف عن منافسة شرسة تتوجه نحو حرب سوق أكانت داخلية أم خارجية. وأعتقد أن الزمان بلغ نقطة انقلابه، وأن حركة الإستشراق انقلبت حركة الاستغراب، بمعنى حركة مضادة لنفسها في شكل ردة فعل، وأن الحرب الدائرة رحاها الآن بين الغرب والشرق – ونحن محسوبون على الشرق – هي حرب السوق أسلحتها الدين – المسيحية ضد الإسلام – وحقوق الإنسان – الغربي على الشرقي : ترامب/سلمان نموذجا – والثقافة : الكونية ضد المحلية.

    وبخصوص كتاب الإستشراق، يبدو أنه موجه للغرب أكثر من الشرق.

  • Omar
    الخميس 11 أكتوبر 2018 - 15:29

    فعلا كتاب ادوارد سعيد كان له وقع كبير في اوساط المثقفين الغربيين لكن الزلزال كان داخل نادي المستشرقين حيث ان هؤلاء كانوا ومازال اغلبهم يعتبر الموضوع/المنطقة حديقة خاصة.
    ولعل قراءة المؤلف الاخر لادوارد سعيد:الثقافة والامبريالية سيسمح للمهتم بتكوين صورة اعم و ادق في نفس الوقت.
    عطاء ادوراد انساني و عضوي واداة للخروج من القوقعة…

  • топ обсуждение
    الخميس 11 أكتوبر 2018 - 18:51

    إدوارد سعيد علماني مسيحي رائد المتحدثين في الاِستشراق وناقد الأدب المقارن بين الشرق والغرب بحيث انه لم يعجبه تقسيم العالم إلى الشرق والغرب East `n`west واِعتبر هذا إقصاء وتهميش واِنقسام تاريخي سماه بالجغرافيا التخيلية بمعنى أنه ليس هناك مكان محدد للبداية والنهاية فوق الجغرافيا لتحديد العنصر أوالنوع البشري في حين ردّعليه ألبرت حوراني أحد ناقديه لكتاب الاِستشراق بأن هذا التقسيم مُتجدر في تاريخ العصر اليوناني الذين كانوا يعتبرون أن كل ما هوخارج عن عالم الحضارة اليونانية يعتبربربريا.إدوارد اِنتقد حتى السياسة الإقصائية البريطانية للهند.
    انطلق إدوارد في دفاعه عن الشرق الأوسطي من مقولة ماركسية القائلة"اللذين لا يستطيعون تمثيل أنفسهم لا بد أن يمثلهم أحد"من خلال هجومات غربية على الشرق بأنه مكان الهرطقات المتعددة والردة إلى غير ذلك من أن العربي لا يُحب المشي على خطوط مستقيمة ويكره المشي على الأرصفة وأنه بلا حضارة.إدوارد دافع عن العرب باسم الحضارة المصرية والسريانية وكأنها لهم متناسيا أن المستشرقين يعلمون هذا ودعى الغرب والشرق إلى التحررالفكري من نظرة التقليدية الإقصائية لبعضهم بعضا.

  • استدراك
    السبت 13 أكتوبر 2018 - 06:55

    منهج الإسقاط الاستشراقي

    كان الهدف من الاستشراق التعرف على الشرق، حيث تمت شرقنة الشرق، أي تخيله شرقاً بفعل التخيل وليس بفعل الإدراك.

    حسن حنفي

صوت وصورة
أجانب يتابعون التراويح بمراكش
الخميس 28 مارس 2024 - 00:30 1

أجانب يتابعون التراويح بمراكش

صوت وصورة
خارجون عن القانون | الفقر والقتل
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | الفقر والقتل

صوت وصورة
مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية
الأربعاء 27 مارس 2024 - 23:00

مع الصديق معنينو | الزاوية الدلائية

صوت وصورة
ريمونتادا | رضى بنيس
الأربعاء 27 مارس 2024 - 22:45 1

ريمونتادا | رضى بنيس

صوت وصورة
الحومة | بشرى أهريش
الأربعاء 27 مارس 2024 - 21:30

الحومة | بشرى أهريش

صوت وصورة
احتجاج أساتذة موقوفين
الأربعاء 27 مارس 2024 - 20:30 5

احتجاج أساتذة موقوفين