إرهاب ضدّ الدّولة وآخر لصالحها

إرهاب ضدّ الدّولة وآخر لصالحها
الأربعاء 17 أكتوبر 2018 - 11:32

شاءت الأقدار أن أقيم في جمهوريّة الصّين الشّعبيّة ما يقارب عقدا من الزّمن، وخلال هذه المدّة كلّها لم أسمع عن حالة “كريساج” واحدة في هذا البلد، الذي مازال 45 مليون من شعبه يعيشون تحت عتبة الفقر. في الصّين لا تتوجّس من الأفراد أو الجماعات، عندما تخرج مع عائلتك أو وحيدا في أيّ وقت من الأوقات..تمشي آمنا مطمئنّا، وتترك من خلفك في البيت، آمنا مطمئنّا كذلك.

يذكّرني هذا الوضع إلى حدّ ما بالمغرب، وتحديدا المنطقة الشّرقيّة أواخر التسعينيّات، إذ كنّا ننهي السهرات عند الأقارب في أوقات متأخّرة من اللّيل، ثمّ نعود إلى بيتنا مشيا على الأقدام، مارّين من أحياء شعبيّة دون خوف أو قلق. أمّا الآن، فالواحد منّا لا يستطيع المشي مع عائلته حتى وسط المدينة وفي عزّ النّهار.

لن أدخل في تفاصيل لماذا؟ لأن هذا تخصّص الأنثروبولوجيا، ولكنّني سأطرح السّؤال على الأجهزة الأمنيّة، وكذلك الدّولة.. لماذا معظم المدن المغربيّة ليست آمنة؟ ومن له مصلحة في ذلك؟.

نجح المغرب في بناء سمعة عالميّة في المجال الأمني، وحاليّا أصبح قبلة للعديد من دول الشّمال والجنوب، للاستفادة من خبرته الواسعة في ضرباته الاستباقيّة الموجعة للجماعات الإرهابيّة، وكذلك للتنسيق والتّشاور معه في كثير من الملفّات الإرهابيّة الشّائكة. كيف لا والأجهزة الأمنيّة نجحت في تفكيك العشرات من الخلايا الإرهابيّة في المهد، وإجهاض مئات المشاريع التخريبيّة الّتي كانت تريد استهدافنا في المملكة. بل قدّم المغرب معلومات استخباراتية قيّمة أوقفت إرهابيّين دوّخوا المخابرات الأجنبيّة، وأنقذت أرواحا بريئة في الخارج. وعلى هذه الأجهزة أن تبقى متيقّظة لحمايتنا، لأنّ ضربات الإرهاب موجعة، وكلفتها باهظة؛ فبعد أن ترتوي من الدّم البريء، يخيّم ظلامها على الاقتصاد، والسيّاحة، والسيّاسة وكلّ مفاصل الدّولة. وهذا كلّه يضرّ بالمصالح الحيويّة للدولة وسمعتها، وبالتّالي وجب التّصدّي له بكلّ حزم.

في مقابل هذه الصّورة المشرقة للأجهزة الأمنيّة في ما يخصّ الإرهاب الّذي يتهدّد كينونة الدّولة، هناك صورة قاتمة وفشل ذريع في جانب مكافحة الجريمة الّتي هي نوع من الإرهاب الموجّه نحو الأفراد. عشرات المدن المغربيّة، كفاس، ومكناس، وطنجة، وسلا، والدّار البيضاء، ووجدة، وبركان، إلخ، أصبح الرّعب يسيطر على ساكنتها في وضح النّهار قبل أن يعسعس اللّيل. ذئاب منفردة وجماعات مدجّجة بالأسلحة البيضاء، مخدّرة بــ”القرقوبي”، تحصد كلّ ما جاء في طريقها من هواتف نقّالة، ومحافظ نقود، ومجوهرات، بل وحتّى الأحذيّة.. لا يفرّقون بين نساء أو رجال، شباب أو كهول، تلاميذ مدارس أو طلّاب جامعات. ذئاب تنام لبعد الظّهيرة، وتخرج بعد العصر لتعسكر قرب المدارس، والثّانويّات، وإشارات المرور، والأسواق، وأزقّة المدن العتيقة لتنشر الرّعب في الأفراد. وهنا نطرح “سؤال المليون دولار”: “أين الأمن الوطني المغربي؟”.

هناك عشرات الفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي تظهر مجرمين يتحدّون الأمن على مسمع ومرأى من العالم، بينما عناصر الأمن قابعة داخل سيّارة الأمن الوطني. هناك مجرمون يتباهون بغنائمهم من داخل السّجون المغربيّة، خلف كاميرات جوّالاتهم، مستهزئين من العدالة ومن ضحاياهم، ويبشّرون إخوانهم في الخارج ألا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون داخل السّجون المغربيّة. كيف للأمن الّذي يفكّك الخلايا الإرهابيّة ألّا يصل إلى مروّجي المخدرات في الأحياء الشّعبيّة؟ كيف للأمن الّذي التقط توفيق بوعشرين داخل مكتبه ألّا يلتقط صنّاع وبائعي الأسلحة البيضاء؟ كيف للأمن الّذي أوصل ناصر الزّفزافي إلى عشرين سنة خلف القضبان ألّا يريح المغاربة من هؤلاء المجرمين؟ كيف يصل الأمن المغربي إلى المسدّسات المهرّبة ولا يصل إلى سكاكسين “رامبو” الّتي تباع على قارعة الطّرقات. ببساطة شديدة، الدّولة المغربيّة مستفيدة من هذا الإجرام، لماذا؟ لأنّ النّموذج التنموي والاقتصادي المغربي لا يحتمل الأمان شبه المطلق كما في الصّين مثلا. كيف؟.

في سنة 1943 أسّس أبراهام ماسلو لنظريّة الاحتياجات، والتي تقول إن الإنسان لديه خمسة مستويات من الاحتياجات:

– الاحتياجات الفسيولوجيّة: الطّعام، الماء، النوم، الجنس إلخ.

– الاحتياجات الأمنيّة: السّلامة الجسديّة، سلامة الأسرة، أمن الممتلكات، أمن الموارد. إلخ.

– الاحتياجات الاجتماعية: الصّداقة، العلاقات الأسريّة والاجتماعيّة.

– الحاجة إلى التّقدير: احترام الذّات، احترام الآخرين، الثّقة، الإنجازات إلخ.

– الحاجة إلى تقدير الذّات: حلّ المشاكل، تقبّل الحقائق، الابتكار إلخ.

ولا ينتقل الشّخص إلى المستوى الموالي من الحاجيّات إلّا بعدما يشبع المستوى الّذي هو فيه أصلا؛ فالمواطن المغربي في الأحياء الهامشيّة تحديدا تشعر بأنه مخطّط له أن يبقى في المستويين الأوّل والثّاني، ليبقى خزّانا انتخابيا فقط لمن هم في المستويات العليا؛ وحتّى لا يرهق أصحاب القرار بمتطلّباته الأكثر تعقيدا. فإلى بدايات التسعينيّات من القرن الماضي استطاعت الأحياء الشعبيّة أن تخرج للوجود مسرحيّين وكتّاب، وسيّاسيين، وريّاضيين، وفنّانين، كانوا يبعثرون أوراق الدّولة من خلال اجتهاداتهم ونضالاتهم وكتاباتهم؛ أمّا الآن فالوضع مختلف تماما. لو تحقّق الجانب الأمني كما يجب، فستصبح المطالب أكثر شراسة، ولن تكون غوغائيّة، بل ستكون مؤطّرة فكريّا وسيّاسيّا، لأنّ الأمان يدفع النّاس للتفكير العقلاني وليس الحيواني.. سيطالبون بالشّغل والصّحة والتّعليم ليس بشكل مناسباتي ولكن بنضالات مستمرّة، وسيصبح أبناء الأحياء الشّعبيّة فاعلين وليس مفعولا بهم كل موعد انتخابي. وهذا كلّه ليس في صالح الدّولة للأسف ولا في صالح مصّاصي خيرات البلاد. وعوّدتنا الدّولة أن تتدخّل فقط عندما تهدّد مصالحها. فالدّولة تحرّكت ضدّ أباطرة المخدّرات أمثال: الذّيب، الرّماش، الشريف بين الويدان، الجبليّة إلخ.. فقط عندما اخترقت هذه الشّبكات أجهزة الأمنيّة. في ما عدا ذلك فلا حاجة إلى الضّرب بيد من حديد.

لا شكّ عندي مطلقا أنّ الدّولة المغربيّة لا إرادة حقيقيّة لديها للقضاء على الإجرام في المملكة، ومن مصلحتها أن تبقى الأمور في المنطقة الرّماديّة. فكما قال الأخ المرحوم محمّد عابد الجابري على شاشة القناة الثّانيّة سنة 2000: “نهار كيبغي المخزن إطلع الشجر في الطريق كيطلع النخل طويل واقف”.

شنغهاي: 15 أكتوبر 2018

‫تعليقات الزوار

5
  • محب الذكاء
    الأربعاء 17 أكتوبر 2018 - 11:50

    الحق اقول أن هذا المقال مسدد وعظيم ..ووفقك الله ..
    بحالك بغينا يزيدو يكتبوا..

  • زينون الرواقي
    الأربعاء 17 أكتوبر 2018 - 13:00

    تحليل موفَّق أيها الكاتب وأضيف ان الدولة تحركت ضد الرموز التي أشرت اليها لأنها أيضاً أخذت في اكتساب قاعدة شعبية محلية من خلال إسهامها الفاعل في الاعتناء بالطبقات الفقيرة على طريقة روبن هود أو إلتشابو في المكسيك بشكل يعري السلطة الوصية ويقزٌمها امام الدور الاجتماعي " الخيري " لِلدِّيب أو الشريف بين الويدان ولامتلاكهما معلومات حساسة عن كبار الحيتان الذين ولغوا بدورهم في أموال المخدرات .. أما الأمن في الصين فيعود بالدرجة الاولى للصرامة التي يتعامل بها القانون مع من يروع أمن المواطنين والدولة التي اعدمت مدير شركة الحليب بعد تسمّم خمسة أشخاص فقط وسط ما يزيد عن مليار نسمة لن تتردد في محو كل من سولت له نفسه الزيغ عن السكة .. تحياتي ..

  • MOHAMMED MEKNOUNI
    الأربعاء 17 أكتوبر 2018 - 13:28

    يقول صاحب المقال :شاءت الأقدار أن أقيم في جمهوريّة الصّين الشّعبيّة ما يقارب عقدا من الزّمن، وخلال هذه المدّة كلّها لم أسمع عن حالة "كريساج" واحدة في هذا البلد.
    إن المجتمع الصيني يطبق ( كل إنسان شرطي على نفسه )
    وحيث عجبا جميع المثقفون المغاربة عند مناقشتهم لقضايا الأمن يسعون لتحمله ما لا يتحمل علما أن الأمن مسؤولية الجميع وغلى المواطن المغربي أن يقدم العون الكافي لرجال الأمن لأن المسؤولية ليست كما يتصور البعض من خلال بعد المعطيات التنظيرية .

  • sifao
    الأربعاء 17 أكتوبر 2018 - 21:29

    محاربة الجريمة المنظمة ، والتي يدخل ضمنها الارهاب الديني ، اسهل من مواجهة الجريمة غير المنظمة ، الدولة تستطيع اختراق تنظيم يشتغل ضمن شبكة ، لكن لا تستطيع اختراق ما يجري في دماغ المقرقب او المشرمل…لا اعرف اذا ماكنت هذه المعادلة صحيحة ام لا ؟ رفاهية الشعب = تهديد امن الدولة ، كدح الشعب = سلامة امن الدولة…؟؟؟؟؟
    المقاربة التربوية ضرورية واساسية لترسيخ السلوك المدني الذي يؤسس لمجتمع السلم ، فكل ما تراه من مظاهر الفوضى والعنف و..هي نتيجة فشل النظام التربوي للدولة ، والدولة لا تستطيع اصلاح هذا النظام دون الاصطدام بفئة عريضة من الشعب ، عندما تنزل الملايين الى الشوارع دفاعا عن وجوب وشرعنة ظلم المرأة وسلبها ابسط حقوقها الطبيعية والمدنية ، الارث ، الزواج مثلا ،…تدرك ان الدولة الفاشلة وراءها نظام تربوي فاشل مهيكل وفعال…هناك ثقافة لا تعترف باي شكل من اشكال الدولة الحديثة ، تروج لثقافة التمرد والفوضى ضد اي نظام مدني معقلن من فوق منابر اعلامية خاصة ، وهذا التمرد يصبح سلوكا متجذرا في النظام التربوي له ما يغديه ويُصرف بطرق مختلفة فننجب الدواعش والمشرملون والمقرقبون و….مراجعة الاصول ضرورية

  • الحسين
    الأربعاء 17 أكتوبر 2018 - 22:07

    ذكرتني اخي الفاضل بمسيرة الدار البيضاء المشهورة حينما ادعت السلطات الأمنية انها لا تعلم من وراءها .؟ وهل يستطيع الإنسان أن يصدقهم.

صوت وصورة
الفهم عن الله | إصلاح العيوب
الخميس 28 مارس 2024 - 18:00

الفهم عن الله | إصلاح العيوب

صوت وصورة
وزير النقل وامتحان السياقة
الخميس 28 مارس 2024 - 16:02 4

وزير النقل وامتحان السياقة

صوت وصورة
صحتك النفسانية | الزواج
الخميس 28 مارس 2024 - 16:00 1

صحتك النفسانية | الزواج

صوت وصورة
نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء
الخميس 28 مارس 2024 - 15:40 1

نقابة الممرضين تعتصم بالبيضاء

صوت وصورة
ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال
الخميس 28 مارس 2024 - 15:00 2

ما لم يحك | البصري وتبذير الأموال

صوت وصورة
الأمطار تنعش الفلاحة
الخميس 28 مارس 2024 - 13:12 3

الأمطار تنعش الفلاحة