طه حسين: ضوء يقود إلى الضوء

طه حسين: ضوء يقود إلى الضوء
الخميس 15 نونبر 2018 - 15:50

في العام 1973، والدنيا حرب عربية ـ إسرائيلية مستعرة، وتهديد بقطع النفط والغاز الطبيعي، عن الغرب وأمريكا، وتنفيذ لذلك التهديد حتى إشعار تالٍ، رحل عن دنيانا أحد الذين بصموا القرن العشرين، رحل طه حسين وأغمض عينيه الثاقبتين الرائيتين إلى الأبد. وها قد مرت خمس وأربعون سنة على رحيله ولا يزال حديث الخاص والعام، وفكره موضوع الملتقيات الأدبية، والموائد النقاشية المستديرة، لا يزال الرجل الكبير كضوء شمس لا يفنى. يغرب سويعات معدودات ثم يعود مشرقا، دافئا، مغسولا، يبشر بالصبح الباسم الوليد، وبالأمل الريان الذي ناضل فكريا وأدبيا، وموقفيا، ورسميا: ( لما كان عميدا للجامعة، ووزيرا للمعارف )، من أجل استتبابه، ومن أجل أن يقود الخطى المرتبكة نحو العلم والتربية والتعليم، والتنمية الثقافية الشاملة، والنهضة الحضارية التي أرقته كما أرقت أساطين التنوير في أواسط ونهايات القرن التاسع عشر.

ولست أدري لماذا أشعر بهيبة غير مفهومة كلما ذكر إلى الآن، وأفرح كتلميذ تَحَصَّل على علامة مميزة، أو جائزة مدرسية، وأقفز حبورا ومرحا ” كطفل أعادوه إلى أبويه “، على حد تعبير الشاعر نزار قباني.

أَ لِأَنَّه نشر جناحيه العريضين الظليلين على محرقتنا العربية، ومحرقة العصر، لتبترد، وتغشاها رحمة العلم والعرفان؟، أم لأنني كنت أهابه وأخشاه توقيرا وحبا، فتهدهدني رؤاه، وتنفذ إلى أعماقي الصغيرة، لغته السلسة العذبة السيالة كحليب ثدي أم في فم الرضيع. وبرهان ذلك أنني أحفظ ـ إلى اليوم ـ رغم الضباب، فقرات طوالا من كتابه المتفرد النير في القرن العشرين: ( الأيام ). وأحفظ شذرات وجملا ماتعة من كتابيه: ( دعاء الكروان )، و ( معذبي الأرض ).

لهذا وغيره، أكبرت الرجل أيما إكبار، ومحضت أدبه وإبداعه وفكره، التقدير والاحترام والتبجيل، وآمنت أنه هو من يستأهل لقب ” دكتور “، ولقب ” عميد ” دون غيره من القوم. مع أن اسمه عاريا من الألقاب والكُنَى، والظلال والأوسمة، كافٍ ليملأ الفؤاد والوجدان، ويهز الضمير والعقل والنُّهى. أكبرته، ولا أزال، لأنه معلم قائد، ورائد، وعميد.

فهو المعلم القائد لأنه علمنا كيف تكون مناولة التراث الأدبي والفكري والفلسفي، والتاريخي عند إرادة نقده. والمعلم، لأنه علمنا كيفية القراءة، وكيفية الاستيعاب، وكيفية الكتابة، كتابته هو تخصيصا التي تشرب على الريق كما يشرب عسل النحل الخالص في لحظة استرخاء ملكية، وتَمَلٍّ بالجمال وسط البرية الزمردية، والأحراش المكسوة، والدوح الشَّجير.

وعلمنا كيف نركب مُهْرَة الشك، منهاجا وشرعة، وطريقة، ومقتربا. إذْ من دون إعمال منظار الشك والتشكيك في ما وصلنا، وانتشر بيننا محققا أو غير محقق من عشرات التصانيف، والكتب والتآليف، لا يمكن إلا أن نراوح المكان، ونستنيم لشمس الظهيرة القائظة بعد وجبة كسكس دسمة بمعية أقداح من اللبن الخاثر والثقيل.

فالشك سبيل لاَحِبٌ إلى اليقين أو ما يشبه اليقين، والرضا بالممكن والمتاح، وطريقة مثلى مطلوبة في طرح الأسئلة، وترك العقل ينتخب، ويصطفي مقارنا ومقايسا، وموازنا، وحافرا، وغائصا. فالإنسان بالعقل أوَّلاً هو، لا بالإحساس والشعور والمماشاة فقط:

كذب الظن لا إمام سوى العقل // مشيرا في صبحه والمساء // ــ فيما يقول الشاعر العظيم أبو العلاء المعري.

وطه حسين هو العميد لأنه صال وجال في شتى مضامير المعرفة والثقافة والتاريخ والأدب، فأبان عن نبوغ غير مسبوق، وقدرة خارقة على غير مثال. والعميد أيضا، لأنه أوحى ما أوحى، أوحى لجيله، ولنا، وللآتين بأن المخرج من الجهل والأمية والتخلف، يكمن في العَبِّ من حياض العلم والمعرفة، والحضور الواعي اليقظ في العصر.. في محصلات العصر ونواتجه من كشوفات واختراعات، وقراءات تحقيقا وترسيخا لآدميتنا، وتفعيلا مثمرا لذاك الحضور في ما يطرح، ويكتب، ويوصف، ويقترح، ويثار.

إن كتابه الحي: ( في الشعر الجاهلي )، عَلَّم ويعلم كيفية القراءة والاستقصاء، والمَخْض والاستنتاج، على رغم توظيفه للمنهج الشكي الديكارتي، بل، وبفضل المنهج العلمي إياه. وما نفع الفكر الإنساني إنْ لم يُتَوارثْ ويمس إنسان المعمور في الجهات كلها، ويستخدم كحرب ضد الظلام، ومناهج فكر ورؤيا تزعزع اليقينيات، وتخلخل المسكوكات، وترج النفوس الآسنة ؟.

وها هو يقول عن كتابه المذكور، مدركا خطورة ما أقدم عليه، وما أتاه من ضوء وصحو لمدنِ العمش والنعاس والغياب: ( … وأنا مطمئن إلى أن هذا البحث وإنْ أسْخَطَ قوما، وشق على آخرين، فسيرضي هذه الطائفة القليلة من المستنيرين الذين هم، في حقيقة الأمر، عُدَّة المستقبل، وقوام النهضة الحديثة، وذخر الأدب الجديد ؟. ).

هو ذا رهان العميد، وحرقته التي دفنت معه: استهداف الأقلية المستنيرة بفكره وعلمه عَلَّها تنضم إليه، وتعينه في مسعاه. واستبعاد الأغلبية الصامتة المخدرة المغيبة، النائمة على أسرة الغيب، وريش ” الماضي الذهبي ” الذي كان. !

إنه الأديب التنويري الذي دس ألغاما تحت وسائد وطنافس البديهيات والمسلمات، والمطلقات. خريج الجامع الأزهرـ فبل فرنسا ـ الذي أزهرت على يديه ” شمس المعارف الكبرى “، فأطلق أشعتها وألوانها، و”كلوروفيلها” في مصر والبلدان العربية، والأمداء الكونية الأخرى التي تفاعلت مع جرأته وتحديه، وتصادت مع أفكاره وكتاباته.

وإنه المعري الحديث، والمتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، فهو هما في الشموخ والسموق، والاعتداد المستحق بالذات، واختراق الأزمنة. ورغم انصرام زهاء نصف قرن على رحيله، فهو يستمرـ كما قلنا ـ حاضرا قائدا من قادة الرأي، ورائدا من رواد التنوير الحديث. نفزع إليه متى ما اعترضنا سؤال الأدب القديم، ومتى ما طمعنا في الالتذاذ بسحر وبساطة لغته، واللجوء إلى آرائه ومواقفه وكتبه ذات البعد السجالي والنقدي، والتنويري ككتاب: ( مستقبل الثقافة في مصر )، وكتب أخرى أكثر من أن تعد.

ومن ثمَّ، فهو رائد من رواد التجديد، ونهضوي متقدم من بناة وشداة النهضة العربية في القرن العشرين.

ولمَّا لم يستطع المغرضون الحاقدون معه صبراً، ولم يقدروا على منازلته فكريا ومعرفيا، ومناظرته في الأدب والدين واللغة، حاولوا ـ بكل ما أوتوا من حيل ومكر ودس وتلبيس، زعزعة ريادته، والنيل من مكانته وشخصه وعروبته، بِرَمْيه بتهمة بتهمة موالاة الصهيونية، ومحاباة الدوائر الأمبريالية، واعتدائه على السلف ” الصالح “، والإسلام. بينما الحقيقة غير ذلك تماما: إذ ان ما كتبه، وما كان يصدع به من فكر ورأي حر، هو ما اوعز لهؤلاء بما ساقوه من ترهات وأكاذيب مختلقة وملفقة. وفي مقدمة ما أوغر عليه صدور الحاقدين، كتبه ذات العناوين المزعزعة، والمضامين التحديثية النيرة ككتاب: ( في الشعر الجاهلي )، وكتاب ( الفتنة الكبرى )، وكتاب ( على هامش السيرة )، وكتابه الذي كان موضوع أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه: ( ذكرى أبي العلاء ).

هو ذا باختصار، العميد الدكتور طه حسين ذو الاسم المنيف الذي يملؤنا أملا وثقة في أنفسنا، وفي غدنا، وإن كان حاضرنا لا يزال يمضغ ذيله، ويدور كنول ” بينلوب ” على نفسه، دورانا دائخا مدوخا لا يكاد ينتهي، ويحارب طواحين الهواء بالسيف الخشب كدون كيشوط منذ زمنية يا كم طالت واستطالت.

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 7

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب