شْلومو واسْحَقْ: مغربيان بصداقتين مذهلتين

شْلومو واسْحَقْ: مغربيان بصداقتين مذهلتين
الجمعة 16 نونبر 2018 - 07:55

في الترحيب باليهود المغاربة القاطنين بالخارج.

القصة الواقعية الأولى: شلومو والعجوز الحمقاء:

في مدينة الدار البيضاء، العاصمة الاقتصادية للمملكة المغربية، وقُرب الملاح، حيث سكنَ اليهود المغاربة، منذ القديم، كانت تقيم امرأة مغربية مسلمة، قاربت الشيخوخة.

(بكل المدن المغربية العتيقة، كان يوجد حيٌّ يطلق عليه الملاح، يُخصص لسكن اليهود المغاربة؛ وهذا لا يعني أنهم كانوا يعيشون بمعزل عن المجتمع المغربي، بل بالعكس، كان هناك اختلاط دائمٌ – عدا الشؤون الدينية- كما أن الملاح كان مقصدا للمغاربة المسلمين، في كل ما يخص الحرف اليدوية، وما يرتبط بها من تجارة).

بجوار هذه المرأة كان يسكن يهودي شابٌّ اسمه “شلومو”، فقدَ والديه وهو صغيرٌ..كان يحلو له أن ينادي جارته، مازِحا، بالعجوز الحمْقاء؛ أما هي فكانت تستعْذِب منه هذا الشغب؛ لكنها ترد عليه في الحال:

وأنت يا يهودِي.

يضحكان ويمضي كلُّ واحد لمشاغله اليومية.

كان للمرأة أبناء، وكانت تعتبر شلومو واحِدا منهم.

ولهذا، ما إن يجتمعَ الأبناء للطعام، حتى يكون شلومو جالِسا بينهم؛ يأكل مِما تطبخه له العجوز خصيصا، مراعاة لديانته.

في أيام السبت كان شلومو يذهب لزيارة عمِّه، حيث يقضي معه اليومَ؛ ولا يمكن أن تمْضي سائر الأيام الأخرى، دون زيارة صديقته “العجوز الحمقاء” وأبنائِها.

وتمضي الأيام على هذه الوتيرة، في أكبرِ المدن المغربية، حيث كانت تتعايش مُختلف الجنسيات، والديانات.

إلى أن حل اليومُ الحزين؛ حيث قصد شلومو صديقتَه، ليخبرها بعزمه على الرَّحيل إلى إسرائيل، ليحقِّق هناك المستقبل الذي يحلمُ به.

حزِنت المرأة حزن أم موشكة على توديع أحد أبنائها؛ حاولت جاهدة أن تُثنِيه عن عزمه، بتخويفه من بلاد لا توجد بها غيرُ الرمال والأحجار، حسب قولها؛ لكن شلومو كان قد أكمل جميع الاستعدادات لسفَرٍ بدون عودة، ولم يكن ممكنا ثنيُه عن ذلك.

يوم الوداع كان بمثابة يوم جنازة لأحدِ أبناء العجوز، حزنت وبكت، لكن الله قدَّر هذا الفراق؛ وهاهي تحتضن شلومو بين ذراعيها باكية؛ ابنها الذي لم تلِده.

وبكى شلومو بدوره هذه الأم الثانية التي لا يُمكن أن تذكر أبناءها دون ذكره بينهم.

في الشهور الأولى لرحيل شلومو إلى إسرائيل، كانت تتوصل منه برسائلَ؛ ابتدأت مواظبةً لكنها مع الزمن أصبحت متباعِدة، إلى أن انقطعت تماما.

حياةٌ جديدة، أصدقاء جددٌ، وربما أسرةٌ وأبناء؛ هكذا كانت العجوز تفكر، لتجِد العذر لانقطاع الرسائل..مضت على هذه الحال عشرون عاما؛ إلى كان ذات يومٍ، وهي جالسةٌ في منزلها، إلى صينية شايٍ، فإذا بطرقٍ على الباب يتناهى إلى سمعِها..حينما فتحت وجدت نفسها وجها لوجه مع فتىً في سن المراهقة.

حياها أفضلَ تحية وهو يقول:

سيدتي جئت لرُؤيتك من قِبل شخص تعرفينَه جيِّدا.

هي لا تعرف هذا الفتى، فمن يكون هذا الذي أرسلَه؟

لِيُخرجها الفتى من حيرتها، إذ أردَف قائلا:

لدي رسالةٌ منه إليكِ:

إنه يقول لك: أيتها العجوزُ الحمقاءُ.

آآآآآآآآآآآآآآآه شلومو؛ ومن غيرُه كان يجرؤُ على نَعتي بالحمقاء؟.

شلومو يا ابنِي العزيز.

ما إن نطقت بها، والدموعُ تنهمر من عينيها، حتى رأته واقفا خلف ابنِه؛ إنهُ شلومو..سمُن والتَحَى، لكن كلَّ هذا لا يمكن أن يحول دون أن تتعرف عليه عجوزُه الحمقاء.

تعانق الصديقان، وبللتهُما دموعُهما، وهي أبلغ من الكلامِ؛ بعد عشرين عاما من الفراق.

قدِم شلومو، رفقة ابنه من إسرائيل، ضمن مجموعةٍ سياحية؛ وليس في قائمة رحْلته غير رؤية عجوزِه الحمقاء وأبنائها.

خلال يومين قضاهما في ضيافتها، حكَى لها – كما يفعل الابن مع أمه- عن كل شيء..عن العمل، عن التجنيد، عن الزواج، عن الأبناء..

كانت تستمع إليه بشغَف، تُسرُّ لسروره وتحزَن لحزنه، وتقلقُ لقلقه؛ وقد أسعدها أنه كوَّن أسرة، وأصبح أبا مسؤولا.

وبعد هذا كان الفراق، عاد شلومو إلى إسرائيل، وانقطعت أخبارُه؛ أما هي فشعرت بغمٍّ كبير انزاح عن صدرها، إذ قدَّر لها الله أن ترى ابنها الروحي من جديد..شلومو الابن الذي لم تلده.

بعد الزيارة بزمن وجيزٍ رحلت “العجوز الحمقاء” إلى دارِ البقاء.

يقول الراوي:

هذه المرأة كانت جدتي رحمها الله.

القصة الواقعية الثانية: اسحق..البائع القروي المتجول

في مُستهل القرن الماضي، بالمملكة المغربية، كان أغلبُ البائعين المُتجولين من اليهود المغاربة، كانوا يجوبون الدواوير (تجمعات سكانية في البوادي) عبرَ السهول والجبال، صيفا وشتاء، حاملين بضاعتَهم على الحمير.

عدا الأسواق وهؤلاء الباعة المُتجولين، لم تكن هناك فرصٌ أخرى للبيع والشراء؛ ولهذا كان حلولُ بائع يهودي متجول بالدوار يعتبر حدثا تجاريا مهما.

البائع المتجول، بطلُ هذه القصة الواقعية، اسمه اسحق.

ذات صباح ربيعي باكرٍ حل بدوار من دواوير تادلة بالمغرب –قرب مدينة بني ملال- وكعادة الباعة اليهود، اختارَ موقعا وسطا بين الساكنة، فأنزل كلَّ بضاعته من على ظهر حماره، وانتحى جانبا ينتظر الزبائِن.

فعلا، ما هي سوى دقائق حتى أحاطت به نساءُ الدوار، وأطفالُه، وشرعوا في تفحُّص سلعه المُكونة أساسا من: مناديل الرأس، الأمشاط، الملاعق والسكاكين، العقود، الأقراط، الأقمشة، وعلب الكبريت الخ..

إضافةً طبعا إلى أصناف الحلوى الملونة والرخيصة، المُغرية للأطفال..هذا ما كان يروج وقتها في كل البوادي المغربية، ولا وجودَ لمن يحمله إلى الناس، حتى في قمم الجبال الثلجية، عدا اليهود.

قضى اسحق يومه في بيع بضاعتِه، أحيانا بدراهمَ، وأحيانا بمقايضَتها بالصوف أو الحبوب أو البيض.

حينما حل الظلامُ شق على اسحق أن يظل حيثُ هو، بعيدا عن المساكن، وصعُب عليه أن يغامر في الطرقات، لكثرة المخاطر، خصوصا لمن هو مثله؛ يحمل سِلعا ومالا..نظر إلى المساكن المحيطة به، فاختار أكبرَها؛ ربما عملا بالمقولة الشعبية: من أراد القِرى-الكرم- فعليه بالمنازل الكبيرة..حمل ما تبقى من بضاعته على حماره، واتجه صوب المنزل الكبير..لما اقترب نادى على جدِّ أبي – يقول الراوي- وطلب ضيافة الله، وِفق الجاري به العملُ..رحب به المسلم، وأنزلَه في مكانٍ قريب بضيعته..وبعد أن نصب خيمته الصغيرة، وقام بشعائرِه الدينية، دعاه مضيفُه لتناول العشاء معه.

اعتذر اسحق، مُتحججا بكونه لا يأكل اللحم، فهِم الجد ما يعنيه بهذا الكلام، وطلب من إحدى زوجاته إحضارَ ديك، سلمه له ليتدبَّر أكله كما تشاء له دِيانتُه..وبعد أن فرغ من طعامه دعاه الجد للسمر، وشرب الشاي، وأمضيا ساعاتٍ طِوالا في الحديث عن كل شيء؛ ما جعل المسلمَ يكتشف في اليهودي رجلا ذا ثقافة واسعة، بمقاييس ذلك الزمان..من كثرة تِجواله، ربما، ومخالطته لأصناف عديدة من الناس.

ومضت العلاقة بين الطرفين على هذا النَّهج؛ كل ثلاثة أشهر يحلُّ اسحق بالدوار، وفي المساء، يقصد نفس المكان بالضيعة؛ وفي الليل يستأنف مع صديقه كلَّ الأحاديث التي بقيت عالقة، وما معها من مستجدات القبائل والدواوير والسير في الطرقات.

استمرت هذه الصداقة أربعين عاما، ظل فيها المُسلم مسلما واليهودي يهوديا؛ لكنَّ وشائج العلاقة بينهما كانت ضاربة في عمق المشترك الإنساني، الذي يعلو على كل الاختلافات.

ثم انقطعت أخبارُ اسحق كُلية، ولم يعد يحضر في وقته؛ لا إلى الدُّوار، ولا إلى تادلة كلها.

احتار الجد، يقول الراوي، ولم يترك أحدا من الباعة المتجولين، وعابري السبيل، والرُّحل، إلا سأله عن اسحق؛ لكن بدون طائل..حزن كثيرا واغتم، وفي الأخير سلم بقضاء الله، في غياب صديقه الحميم..إلى أن كان ذات يوم، سمع فيه بساحة منزله نداء بائعٍ متجول من شباب اليهود.

أقبلْ سيدي، يقول الشاب: عظمَ الله أجرَك في صديقك اسحق، لقد رحل إلى دار البقاء، منذ مدة..ثم أكمل: لم يعِش بعد وفاة زوجته سوى شهورٍ معدودة، فلحِق بها.

بكى الجد للخبر طويلا، واستفسر الشاب عن كلِّ التفاصيل؛ وأكمل بالترحيب به ليُقيم، إن شاء، في نفس المكان من ضيعته.

وقبل انصراف البائع سلَّم للجد لفَّافة وهو يقول: هذه أمانة تركها لك اسحق، وهي أعزُّ ما يملك؛ لقد قال لي إن صديقي أفضلُ من يهتم بها، مادمتُ بدون أبناء..ثم انصرف وترك الجد جالسا مع كلِّ أحزانه، يتراءى له من خلالها صديقُه اسحق وهو يلوح له مُودعا.

في الليل، فتح الجد اللفافة، وسط زوَجاته وأبنائه؛ والكلُّ صامت، وكأن على رؤوسهم الطير.

بدأ برسالة وداعٍ، من صديقه، بكى لها الجميع.

ثم ماذا؟

منديلٌ حريري، من لوازم الصلاة عند اليهود؛ كان اسحق يلفُّ به عنقَه.

منديل برَمزية كبيرة، لا يسلِّمه اليهودي لغير اليهودي.

لكنْ للصداقة استثناءات.

بعد زمن استغلَّ الجد إحدى زياراته إلى مدينة فاس، فقصد بيعة اليهود بالملاح، وقصَّ على “الرَّبِّي” القائم عليها، كل حكايته مع اسحق؛ وسلَّم له منديلَ صلاته، ثم انصرف باكيا، وكلماتُ الشكر في أثره.

يقول الراوي:

لم يعش جدُّ أبي بعدها سوى شهورٍ معدودة.

‫تعليقات الزوار

5
  • المهدي
    الجمعة 16 نونبر 2018 - 10:17

    في بداية الثمانينيّات التحق أخي الأكبر بكندا للدراسة بعد توقيع الاتفاق بين البلدين الذي يعفي الطلبة المغاربة من رسوم التسجيل والدراسة .. كان اخي المعروف بحسن تدبيره وابتعاده عن الموبقات يتوصل بمنحة مغربية هزيلة يتدبر بها أموره وكان ان تأخر تحويل المنحة ذات شهر فبقي الله كريم .. هاتف أبي رحمه الله فطلب منه الاتصال باحد الأقارب هناك غير ان اخي اخبره ان فعل لكن القريب العزيز تذرع بكونه يشيد فيلٌته في الرباط وأنه ( مزيّر ) ووو .. توجه والدي وقد انتابه قلق شديد الى يهودي كان جاراً لنا في السابق وطلب منه ان كان يعرف أحداً في كندا .. دعاه اليهودي لتناول قهوة في منزله ثم أمسك الهاتف مخاطباً يهوديا اخر في مونتريال مباشرة بعد السلام ليسأله كم يستغرق من الوقت الوصول الى عنوان أخي فجاءه الجواب : حوالي ثلث ساعة ثم أخبره ان يتوجه على وجه السرعة ويسلم أخي ما يحتاجه من مال وأنه سيهاتف أخي بعد نصف ساعة ليتأكد انه توصل بما يحتاجه .. فعلاً لم يكد والدي رحمه الله ينهي قهوته حتى كان اخي قد توصل بالأمانة وكان أخر كلام اليهودي لوالدي : دابا تهنيتي على العزري أيوا زيد شي قهيوة أخرى وخلينا ندّاكرو .

  • Arsad
    الجمعة 16 نونبر 2018 - 13:11

    لا اكره اليهود ولكني لا اومن شرهم.
    التشدق باليهود دليل على تشتت الامة وضعفها.
    اما اسحاق فكان يجوب القرى ببضاعة تافهة ويتناول طعامه عند من يستضفونه ويبيت عندهم مستغلا كرمهم وجودهم ويجمع الاموال ويرسل عشر ارباحه الى الكانيست تلك الاموال التي جعلت من اليهود اسياد العالم حاليا والمتحكمين فيه اما شلومو فقد كان يتيما وغادر وطنه الاصلي بمحض ارادته وحتل وطن اخر ويتم الآلاف وهجر الملايين وجعل البكاء مراثم ابا عن جد شلمو يستطيع ان يعود الى الملاح ويزور اهله واصدقاه ويستنشق هواء وطنه الاصلي ولكن الفلسطيني المهجر لا يستطيع ذلك .

  • Ali USA
    الجمعة 16 نونبر 2018 - 17:44

    Assad
    من خلال كلامك يتضح جليا انك عنصري معاد لليهود. اليهود اخوة لنا في الانسانية لهم مالنا وعليهم ما علينا .تق الله وابتعد عن العنصرية فهي اثم عظيم.

  • واحد الأباتشي
    الجمعة 16 نونبر 2018 - 20:42

    الى السيد علي من USA .قمة العنصرية هي أن تدعي إحدى مسؤولات الكيان في خمسيمنات القرن الماضي أنها لم تسمع عبر التاريخ -بارض فلسطين ولا بشعب فلسطيني – و ماذا عن أقوالهم .هم وحدهم بشر و الباقي گويم .

  • لعجاج
    السبت 17 نونبر 2018 - 05:02

    ما الغرض من تمجيد اليهود هل لتلميع صورتهم !! هم حقا تجار وعمال وعلماء هم ايضا كسائر البشر فيهم الطيب وفيهم الخبيث أنتم فقط ذكرتم طيبوبتهم أما خبثهم فلم تذكروه !!

صوت وصورة
سكان مدينة مراكش بدون ماء
الثلاثاء 19 مارس 2024 - 01:05 1

سكان مدينة مراكش بدون ماء

صوت وصورة
خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين
الإثنين 18 مارس 2024 - 23:30

خارجون عن القانون | عواقب عقوق الوالدين

صوت وصورة
كاريزما | حمزة الفيلالي
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:30 1

كاريزما | حمزة الفيلالي

صوت وصورة
خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني
الإثنين 18 مارس 2024 - 22:00

خيوط البالون | المقلب الأخير لري تشيكوني

صوت وصورة
رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا
الإثنين 18 مارس 2024 - 21:30

رمضانهم | أجواء رمضان في روسيا

صوت وصورة
ابراهيم دياز يصل إلى المغرب
الإثنين 18 مارس 2024 - 18:09 17

ابراهيم دياز يصل إلى المغرب